كتاب “إخطية” لإميل حبيبي الصادر عن دار الكرمل 1985، لم يسمه رواية، ولا يعترف بهذا المسمى كثيرون، بل يذهب البعض أنه لم يكتب رواية أصلاً، لكن هذا الكتاب/ الرواية (ورد في الدفتر الثالث) فيه الكثير مما يقال، فهو يبدأ بلغز الأوراق الأربع الملونة (الحمراء والخضراء، بنفس ألوان الإشارة الضوئية) والأبناء الثلاثة، ويسرح بنا “إميل” في الحدث المعاد من دفتر إلى آخر، والإشارة الضوئية، والتاريخ والتاريخ الشفوي والسيرة، والعمل السياسي، والأغاني والشعر والأمثال والاختصارات، والمنع والرفع، والحوار والقص، والحياة والموت، والشجر والحجر، والمكان والزمان، وكل شيء.
هل هذه ميزة “إميل”؟ هل هذه كتابة جديدة وقتها؟ هل يهم إن كانت رواية، بالتفرعات المبتعدة والمقتربة من حدث حل اللغز والإشارة الضوئية الحمراء والخضراء؟ هل يهم ذكر شخصيات متناثرة في الماضي القريب والبعيد، لا يربطها سوى لغز الأوراق الملونة و “قريد العيش” الفطين، و “ابريق الزيت”؟
لا أخفيكم أني أعيد قراءة هذا الكتاب مرارا وتكرارا، كلما وددت العيش في عالم الكتابة، ووددت أن أكون مثله، وأدعي أن لإميل نكهة خاصة، ووضع أسسا جديدة في الإبداع، يبحش في الماضي ويعود إلى الحاضر، يذهب بالخيال بعيداً، ويعود إلى الأرض وسروة وعبد الرحمن وحيفا، والكنزة الصوفية ووادي عبقر.
أليس إميل علامة من علامات الكتابة الإبداعية الفلسطينية والعربية (“ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية”/ الاسوار 1985)؟ هل يهم أن يكون قد استلهم هذا النوع من الكتابة، أم كان صانعه؟ هل يستطيع أحد منا تجاوزه؟
يوسف القعيد في ثلاثيته “شكاوي المصري الفصيح” (دار الوحدة/1983) (نوم الأغنياء، والمزاد، وأرق الفقراء)، تتداخل الأمور، بين الكتابة والنشر وحدث بيع الأبناء، ولم يسمها رواية، وكذلك يفعل صنع الله إبراهيم في روايته المسماة كذلك “ذات”، التي تحتوي على جمع لإعلانات الجرائد وغيرها من الأخبار. فهل هي رواية بالمقاييس المتعارف عليها؟ وهل المتعارف عليه مقدس لهذه الدرجة؟
أما عبد الرحمن منيف السعودي العراقي الأردني، في أجزاءه الخمسة من مدن الملح (التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات)/ المؤسسة العربية للدراست والنشر/ (1984- …) التي أطلقت عليها روايات، فيخلط بين تاريخ المكان والقادة والناس البدو في شبه الجزيرة العربية، ومراجعة الكتب كما كتاب الأمير/ ميكافيلي، بينما لا يسمي “سيرة مدينة”/1994 رواية، بينما هي سيرته في العاصمة عمان. فهل الخلط بين السيرة الذاتية يشوه العمل الفني الأدبي، ونستبعده من إطار الرواية؟ وهل كتاباتنا إلا سيرا ذاتية بالشكل الواسع للفن الأدبي، الواقعي منه والمتخيل في الماضي والحاضر؟
في أدبنا الفلسطيني، كتب عزت الغزاوي روايته “الحلاج يأتي في الليل”/ أوغاريت/ 2003، وفعل مثله كثيرون، منهم حديثاً الروائي حسن حميد “كي لا تبقى وحيداً”/ كنانة/2022، والموضوع الأساس هو العثور على مخطوطات/ رسائل، والإدعاء باكتشافها ونشرها كما هي، فهل هذه أجناس متداخلة؟
هناك مسرحية في رواية كما فعل مازن سعادة نشر رواية “أطوار الغواية”/ دار البيروني/ 2019، وفعل آخرون رواية في رواية/ شكاوي المصري الفصيح/ يوسف القعيد، وهناك قصة في شعر كما في أحمد الزعتر/ محمود درويش، ولوحة تشكيلية في رواية “جمل المحامل” /خالد حوراني/ الأهلية/2019، واعمال الرحباني و “كركلا” من مسرح غنائي، وراقص.
إذا كانت مهمتنا نحن الكتاب هي العمل الفكري بصورة فنية، والحض على التفكير وإعمال الفكر والتفكير الناقد في قراءة الواقع الحقيقي والمتخيل، فليس مهما الالتزام بمعايير كلاسيكية، تجاوزها الزمن تحت عناوين مختلفة كالحداثة وما بعدها، وهكذا فعلوا في مسرح إمريكا اللاتينية، من أن يكون الجمهور مشاركا، وفاعلاً، فما المسرح إلا الحياة، وليس بمعزل عنها.
كذلك فعلت أنا في “الحاج إسماعيل”/اتحاد الكتاب 1990، بأن تكون الجملة الأولى “هذا هو الحاج إسماعيل، إنه ينام الآن على فراش موته”،. أذكر زميلا تقليديا، سألني: ما فائدة الرواية حين نعرف نهايتها؟ وكذلك في “اليسيرة”/ اتحاد الكتاب/1996، التي جاء السرد فيها من الباب العاشر، وانتهت بالمفاتيح الإثنية عشر، وأخيرا في “زرعين”/ الشروق/2021، التي كل مرة يبدأ كل فصل منها بجملة تكملها جملة في الفصل الذي يليه، لتتداخل الشخصيات والأماكن، وتيار الوعي المتداخل كل حين.
لم تعد الكتابة الكلاسيكية للرواية هي المعيار، كالبدء من الألف إلى الياء، والتسلسل الحدثي، والزمني، وتطور الشخصيات وتفاعلها مع بعضها البعض. ولم يعد الكاتب مسجلاً لأحداث معينة عن بعد، فهو مشارك، وجزء أصيل من العمل الأدبي، وممكن أن يكتب بصيغة الأنا، وأن تكون دون اسم، فالبحث العلمي ليس موضوعيا، وليس محايدا، بل هو عمل أناس ينغمسون في العمل حتى الثمالة.
أزعم، أن الأعمال الفنية منذ التاريخ كانت متداخلة، فالقوالون، والحكائون للسير (عنترة، تغريبة بني هلال، والظاهر بيبرس، والزير سالم، وغيرها)، كانوا يقولون في كل شيء، بتفاعل واضح بينهم والجمهور، فيقولون، ويغنون، ويعزفون، ويمثلون. إلا أن الثورة الصناعية، وما عكستها على مناحي الحياة، جعلت من التخصصات الدقيقة المحددة اتجاها، وفي العلوم البحتة لم يعد سهلاً أن يفهم متخصص ما متخصصا آخر في الحقل نفسه. أما في الفترة الأخيرة، فلم تعد هذه التخصصات الدقيقة مجدية بالمعنى السابق، بل يبحثون اليوم عن التقاطعات بين الحقول المختلفة كما في الفيزياء والأحياء والهندسة وغيرها.
فرضت ذلك مطالب الحياة. وما كل منا إلا الحياة والمجتمع باهتماماته كافة، فهو ليس معزولا عن الناس وعن الحياة. إننا نعود الآن إلى ما يجب أن نكون عليه.
وتبقى هناك تساؤلات: الدور الفكري، التجريب، الطرق الفنية في تغيير التفكير والسلوك والأحاسيس.
هذا لا يعني الفلتان، فلا ننسى أن التركيز في الحياة، وفي الأعمال الأدبية أمر له أثره، ولا يعيب ذلك بعض التداخلات، فنحن لسنا أنقياء تماماً، ولسنا مشوهين تماماً، إننا الحياة، ودورنا أكبر من أن نكون سياسيين، رغم مهامنا المختلطة ما بين الخيال والواقع، الواعي واللاواعي، والفلسفة والاجتماع والاقتصاد.
الكتابة الأدبية الفنية، ليست شطحات فكرية متناثرة، بل هي عمل شاق ممتع مركز واعي، يتطلب عمل الكثير والجهد الكبير.