كانت معركة الطفّ (عام 61 هجري) خاتمة لحرب اندلعت منذ العام (36 هجري) بين حزبين سياسيين , أولهما هاشمي تمسك بجوهر الإسلام المتمثل بالعدل الاجتماعي والمساواة , وبالدفاع عن حرية الناس في خيارهم السياسي المتمثل وقتها ببيعتهم للإمام عليّ ؛ وثانيهما حزب أموي قاد عصياناً مسلّحا لتأسيس ملك هو مزيج من الكسروية والقيصرية بمسوح اسلامية , وللردة بالمجتمع الى عهد الجاهلية الذي لم يكن فيه للفقراء مكان تحت الشمس و يقسم الناس الى سادة وعبيد .
وفي ظني أنه عند تلك اللحظة تحديداً حدث الصدع الذي قسم المسلمين , وهو صدع هاشمي – أموي , وليس كما يذهب أصحاب الهوى والغرض فيرجعون به الى عهد الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب ؛ ومع أن الحديث لا يتسع لهذا الموضوع إلا أنه من الانصاف والمروءة التذكير بأن الشيخين قد غادرا الدنيا كما دخلاها , ولم يجرؤ أسوأ أعدائهما على إنكار زهدهما وعدلهما أو جرح ذمتهما , وقد كانا ولياّ الأمر وبيدهما مفاتيح بيت المال .
والشاهد أن الإمام الحسين خاض معركة الطفّ كقائد لنهج التقويم الذي أسسه والده الإمام وتصدّى به لنهج الانحراف الأموي , وقد بدا وقتها أن التعايش بين هذين التيارين بات مستحيلا , وأن أحدهما يجب أن يخلي الطريق للأخر مرة والى الأبد ؛ وقد تمثلت عظمة تلك الملحمة أن الباطل قد انتصر فيها ولكنه خسر روحه , وأن الحق قد هُزم ولكن روحه أضحت رمزاً خالدً وملهماً يشع نوراً كمثل أعلى للإنسانية في الثبات على المبدأ , وعلى الإخلاص للعقيدة .
لم يكن خوض المعركة هو الخيار الأول للحسين , فهوعندما أدرك تخاذل من استدرجه الى ذلك المأزق , ورأى بعين اليقين اختلال توازن القوى لصالح عدوه , حاول أن يرجع كريماً الى مدينة جدّه المنوّرة , ولكن تيار الانحراف بقيادة يزيد كان ملهوفاً على كلمة إذعان من الحسين تضفي على المملكة الأموية شرعية تفتقدها منذ عهد معاوية , وذلك مقابل ضمان سلامته وآله وصحبه وعطايا بلا حدود , ولكن تلك اللهفة الأموية صادفت استهانة حسينية بالدنيا , وصلابة موقف تستند الى عمق المعرفة بالله والى التربية النبوية التي شبّ عليها , والى النهج العلوي الذي لا يقبل المساومة على المبدأ , وكذلك كان الردّ الحسيني موجزاً وقاطعاً : ” هيهات منا الذلة ” ؛ ولقد كان ذلك الردّ إشارة لبدء المجزرة التي نتج عنها سياسيا ً سقوط الدولة الأموية , وشرعياً خروج أركانها من حظيرة الاسلام ومن رحمة التاريخ . لقد خاض الحسين وصحبه معركتهم وهم واثقون من خاتمتها , وهنا يتجسد معنى البطولة فيها , وأراد الحسين بها أن تكون إرثاً نضالياً لكل المظلومين على مرّ الأجيال , وهنا يكمن عنصر الالهام فيها.
كان إهراق دم سبط النبي محمد , وخليفته الشرعي الذي بايعه أهل العراق والحجاز واليمن , أمراً مروّعا وفوق طاقة احتمال المسلمين , وكان يُفترض بهذا المزيج من البطولة والمأساة أن ينتج نهضة اسلامية تستعيد روح الدين , ولكن عوامل كثيرة تشابكت وامتزجت عبر القرون لتنتقل بهذا الحدث من ماهيته السياسية الى عوالم عرفانية , واتخذت منه مصالح مختلفة أداة للصراع السياسي وللتكسب الدنيوي , و صار مصدر رزق لطبقة دينية طفيلية زادت وأفاضت في الكذب واختلاق تفاصيله وكأنها كانت شاهد عيان عليه , ثم تسلقت باسمه على رقاب الناس وأموالهم ومصائرهم !
يرى التشيع العربي في الامام الحسين قائداً ثارعلى الظلم وانحاز لفقراء المسلمين , وآثر الشهادة على حياة الخنوع والذل , في حين أن للتشيع الايراني منظور آخر للمسألة هي التي هيمنت على وجدان البسطاء بسبب إلحاح رجال الدين عليها , فقد صوّرت الرؤية الفارسية الامام الحسين وكأنه مسيح آخر انطلق الى معركة الطفّ مدفوعاً بعقيدة الفداء , ونسجت من حول شخصيته أساطير عرفانية وصلت بوجوده الى أزمنة ما قبل الخليقة , فأخرجته وآل البيت من طبيعتهم البشرية لتجعل منهم أنواراً كانت تحف بعرش الرحمن , ومنحتهم قدرات خارقة يطوون بها الزمان والمكان , وصورتهم آلة للقتل الجماعي يطيح ساعد الواحد منهم بآلاف الرجال بضربة واحدة , واختصرت غاية الخلق فيهم , فنسبت لله تعالى مالا يقبله عقل ومالم يرد في كتاب سماوي , من بين ذلك على سبيل المثال أن الكون ونجومه وكواكبه لم تُخلق الا من أجلهم ؛ ثم حمّلت هذه الرؤية الفارسية الأجيال اللاحقة من شيعة العراق المسؤولية عن خذلان أسلافهم للحسين , كما حمّلت الأجيال اللاحقة من أهل السنّة وزر دمائه ! ثم تفتق ذهن طبقة رجال الدين عن تحويل تلك الملحمة الى تجارة رابحة , فاستلهمت طقوساً هندية وزرادشتية قديمة ومزجتها برؤيتها لمعركة الطفّ لتصوغ منها بدعاً فرضتها على أتباعها فيها جلد الأجساد بالسلاسل الحديدية والمقارع المدببة , وتجريح الرؤوس بالسكاكين ؛ وقد حدث في عشرينات القرن الماضي أن استورد ضابط بريطاني من الهند سلاسل حديدية بناء على طلب مرجع شيعي , ليوزعها هدايا على المواكب الحسينية ! .
لم يكن ذلك كله إلا وسيلة طبقة رجال الدين الطفيلية لمواصلة الابتزاز العاطفي والمالي لجموع العوام المفتونة – عن حق – بسيرة الإمام علي وأنجاله , وكذلك دأبت هذه الطبقة – باستثناء قلة عصمها دينها وعلمها – من قمة المرجعية وحتى قاعدة الروزخونية على تشجيع هذه الطقوس التي لا تمتّ لصحيح الدين وللفطرة الانسانية بصلة , وتؤديها مجاميع من ذوي العقل المستقيل , وكذلك انقلبت ملحمة كربلاء البطولية الى عكس ما ابتغاه منها بطلها , فقد أضحت مبرراً لتقسيم المسلمين الى طوائف , وخنجراً مسموماً يقسّم الأوطان , وسبباً لتبرير قتل النفس التي حرم الله ؛ وانتهى بها الحال في يومنا هذا لتكون أداة القوى الغربية العظمى في خلق عصابات إرهابية , و تنصيب أنظمة للاسلام السياسي تخدم مصالحها الى حدّ الاستعداد لخوض حرب طائفية بين المسلمين على امتداد مساحة الشرق الأوسط .
………………………….
………………………….
كلما هلّ شهر محرّم يلح على الذهن تساؤل مؤداه , هل سبق لمرجع ديني أو ابن مرجع من هؤلاء المتحمسين للتطبير ولجريان الدماء , أن خرج في موكب حسيني ممسكاً بسيف يشجّ به رأسه , أو بسوط حديدي يجلد به ظهره ؟