الزائر اليومالى تركيا راليوم يأخذه الاعجاب بجمال البلد وتطوره العمراني والحضاري وحسن تنظيم خدماته والحريات العامة التي يعيشها الشعب التركي متعدد الاعراق والمذاهب ..ووراء كل ذلك رجل هو مصطفى كمال اتاتورك ( اب الاتراك في اللغة التركية ) الذي ارسى الاساس الصلب للتطور الذي تعيشه تركيا اليوم ووضع الضوابط الدستورية لضمان عدم انزلاقها مرة ثانية الى حقبة التزمت الديني والتخلف الاجتماعي .
نحن العرب لدينا مآخذ عدة على اتاتورك من حيث تغريبه القسري لتركيا عن محيطها الشرقي والاسلامي وان خلفائه السائرين على نهجه وقفوا من قضايانا العربية وقفا معاديا واقاموا علاقاتا متميزة مع عدونا الاسرائيلي ..ولسنا هنا في معرض مناقشة هذا الجانب …ولا نناقش في اصل مصطفى كمال ( اتاتورك ) حيث تقول الروايات ان اصله يعود الى يهود الدونمة ( في مقاطعة سالونيك اليونانية ) او ماسونيته المفترضة ( حتى وان صح ذلك فالانتماء للمحافل الماسونية كان يعتبر أمر طبيعي من قبل وجهاء المجتمع في ذلك الوقت ، وقد كان المفكر محمد عبدة وصديقه جمال الدين الافغاني وكثير من الادباء والزعماء العرب اعضاء في تلك المحافل ايضا )…ومانناقشه يقتصر على جهد اتاتورك في تحويل تركيا الى دولة عصرية قوية .
لقد كان اتاتورك تركيا صميميا ، فقدانتشل اتاتورك تركيا من ذل الهزيمة في الحرب العالمية الاولى …اذ قام بجمع شتات الجيوش التركية المهزومة وقادها في معارك ناجحة لطرد الجيوش الغازية التي احتلت نواحي من الاناضول والقسم الاوربي من تركيا فاتاح لتركيا الحصول على شروط افضل في مؤتمر الصلح بباريس احتفظت فيها على كيانها القومي ، ولولا ذلك لكان معظم تركيا الاوربية اليوم بيد اليونان وجنوبها بيد الانكليز والفرنسيين وشرقها مقتطع من روسيا …الخ .
وفي خطوة جريئة لا يقدم عليها الا القادة العظام ذوي الثقة العالية بالنفس اقدم اتاتورك على تحرير تركيا من تركات الماضي ومظاهر التخلف التي اعاقت تقدمها ليرسم لها طريق جديد نحو التحديث اصبح راسخ البنيان في تاريخ تركيا ..فاجتث مؤسسة الخلافة الهرمة والمتداعية والغاها وأسس الجمهورية ، واجتث معها سطوة ونفوذ المؤسسة الدينية الغارقة في التخلف والفساد ، والتي كانت تستنزف موارد البلد وتدفع الى اعاقة كل حركة للاصلاح والتمدن لتبقى السلطة الحقيقية للدولة والانتماء الوحيد للوطن وليس الى اية مؤسسة او جهة اخرى . وعمل على سن دستور عصري وقوانين جديدة فرض فيه المساواة التامة بين الاتراك خاصة بين الرجل والمراة .
القوميون العرب استلهموا من اصلاحات اتاتورك الافكار التي نادوا بها لبعث الامة العربية من جديد …وقد استلهم ساسة العراق ابان العهد الملكي افكاره واعماله في بناء الدولة العراقية الجديدة ، فيما الاصوليون اتخذوا مسار العداء بسبب ابعاد اتاتورك تركيا عن محيطها الشرقي والاسلامي .
نعم اتاتورك ذهب بعيدا في تغريب تركيا وعزلها عن محيطها الشرقي والاسلامي ..وهذا خطأ تداركته تركيا منذ اواخر الثمانينات من القرن الماضي على يد توركت اوزال واربكان ومن ثم اوردوغان . فتحديث شعب شيء وتغيير هويته التاريخية شيء اخر …وقد توصل الاتراك الى هذه الخلاصة ، خاصة بعد رفض اوربا انضمام تركيا الاسلامية بـ 75 مليون نسمة الى اتحادها خوفا من ان تكون اكبر دولة فيه اسلامية الهوية . فتركيا لا يمكن ان تنمو وتتطور الا في بيئتها الطبيعية : الاسلامية الشرقية العربية وامتداداتها في اسيا الوسطى . وهذا الانفتاح المدروس نحو الشرق عاد بالفوائد الجمة على تركيا فاصبحت في فترة وجيزة بقيادة الاسلاميين الجدد الاقتصاد رقم 16 في العالم بدخل قومي يفوق الدخل القومي المصري على سبيل المثال باربعة مرات .
الشيئ الذي يذكر لاتاتورك ..اتفقنا معه او اختلفنا ..انه اجتث مؤسسة الخلافة التي اصبحت عالة ومرض في جسد الامة التركية بسبب ترهلها وتخلفها عن مجاراة حياة العصر ,,,وبالتالي اجتثاث المؤسسة الدينية الفاسدة التي تستند اليها وفرض التحديث بالقوة على افرادها ليكونوا ضمن منهج الدولة وليسوا كيانا قائما بذاته . ..
ان التغييرات الكبرى في المجتمع لا بد لها من اجراءات صارمة …فقد ارست الاساس الصحيح لتطور الحياة بحيث ان الاسلاميين الذين يحكمون تركيا اليوم لم يتجرأوا عن الحيد والخروجرعن الثوابت الاتاتوركية في البناء الجديد …فكان اسلامهم معتدل وانساني ومتطور يختلف تمام الاختلاف عن اسلاميي عالمنا العربي المتوحشين …وبقيت تركيا تحت حكمهم واحة للديمقراطية والحرية العامة والفردية .
مهما كان انتقادنا لاوردغان بسبب تصرفاته الفردية ومواقفه السياسية في العراق وسوريا وليبيا ومصر ….وانتقادنا الشديد للطموحات السلطانية الجديدة لحكام تركيا ومحاولتهم اختزالنا نحن العرب تحت جناحهم …الا ان كلمة الحق يجب ان تقال : ان اسلاميي الاتراك اكثر ثقافة وبعد نظر وتطور من اسلاميينا المتحجرين العديمي النظر المتطرفين في افكارهم وسلوكياتهم ….واكثر تفهما للحياة -سياسة وتعاملا …
اقول نحتاج الى اتاتورك عربي يجتث مرة واحدة كل واقع التخلف في عالمنا ويرسل كل العمائم ومؤسساتهم المتخلفة الى مقبرة التاريخ …وبذلك نفك اسر الدين من قيود من نصّب نفسه حارسا له …ونفك اسر المؤمنين من حبس الفتاوي ومن نصّب نفسه ناطقا باسم الله على الارض .