عام 1959 بدأ التركمان بالتحضيرات للاحتفال بعيد ثورة 14 تموز عام 1959 وفي ذكراها الاولى حيث بدؤوا بتزيين الشوارع ونصب اقواس النصر في الشوارع الرئيسة مثل شارع ( الاطلس والاوقاف والمجيدية ) وغيرها وكان عددها يزيد على مائة قوس نصر واتخذت استعدادات لتنظيم مسيرة جماهيرية خاصة بهم في يوم الاحتفال ، واما الطرف الاخر المقصود بعض الحركات السياسية في المنطقة فقد اصروا على ان تكون هنالك مسيرة واحدة باشراف لجنة تشكلت من تلك المنظمات والحركات السياسية وتحت سيطرتها على ان ترفع الشعارات التي حددتها والتي تعبر عن توجهاتها الايديولوجية وسلب من التركمان حرية التعبير والرأي على العكس من الشعارات الرنانة في هذا المجال ، والغاية منها معروفة وهي طمس الهوية التركمانية ووجودها القومي واستقلاليتها .
ان تصميم تحالف بعض القوى السياسية على الاخلال باستعدادات التركمان وافشالها ، بدأ بوضوح تام قبل موعد الاحتفال بايام . اذ بدأت مجموعات من افراد ( المقاومة الشعبية ) والجنود اغلبهم من سرية الشغل التي كانت ثكنتها تقع في قلب المدينة ( شارع اطلس ) بدؤوا بتنظيم تظاهرات استفزازية وهم يلوحون ويهتفون ( ماكو مؤامرة تصير .. والحبال موجودة ) الى جانب الهتافات العدائية السافرة .. استمرت هذه التظاهرات ليلاً ونهاراً وهي تزداد حدة وسعة كلما اقترب موعد الاحتفال .. وقبل يوم من الاحتفال كان يتجول في شوارع المدينة بعض الجنود واشخاص من المقاومة الشعبية بسيارات عسكرية من نوع زيل فيها بعض من المدنيين يحملون الحبال ويلوحون بها ويهتفون بالهتافات الاستفزازية الانفة الذكر .. وفي الساعة الثامنة من صباح يوم 13/ تموز بدأ الاحتفال بالعرض العسكري حيث مروا من امام المنصة المنصوبة في واجهة النادي العسكري وكان في مقدمة المستعرضين العميد محمود عبد الرزاق قائد الفرقة الثانية وكالة بعد سحب قائد الفرقة العميد الركن داود الجنابي الى بغداد ..
وحددت لجنة الاحتفالات للذكرى السنوية الاولى للثورة الساعة السادسة من مساء يوم 14 تموز موعداً لانطلاق مسيرة المنظمات الشعبية وخطط لها ان تمر بشوارع المدينة الرئيسية واصروا على ان تكون هناك مسيرة واحدة في المدينة وتحت الشعارات التي يحددونها . وفضل التركمان على ان يحتفلوا مستقلين وحددوا شارع الاطلس مكاناً للاحتفال وانطلاق مسيرتهم منه بعد انتهاء مسيرة المنظمات وعندما وصلت مقدمة المسيرة الى امام مقهى 14 تموز الذي كان صاحبه ( عثمان خضر ) حيث كان يتردد التركمان عليه كثيراً سمعت اصوات طلقات نارية ، ولم يكن ممكناً تحديد هوية مطلق النار ، ولكن المتظاهرين هاجموا التركمان المتجمهرين امام المقهى وتبع ذلك شجار ، استعملت فيه الحجارة وعصى الرايات ولكنه سرعان ما تطور الى اطلاق الجنود ورجال المقاومة الشعبية النار وقتل عشرات من التركمان وسحلت جثثهم في الشوارع وكان في مقدمتهم الشهيد عثمان خضر صاحب المقهى 14 تموز الذي زين مقهاه للاحتفال وكذلك الشهداء كل من المقدم المتقاعد عطا خيرالله واخيه الطبيب احسان خيرالله والاخوين صلاح الدين ومحمد اوجي وقاسم نفطجي وزهير جايجي وحسيب علي كيجاني ونورالدين عزيز وجاهد فخرالدين والحاج نجم محمد وسيد غني النقيب وجمعة قنبر وكاظم بكتاش وشاكر زينل ونهاد وجهاد والطفلة امل اولاد مختار فؤاد والاخرين الذين سحلوا في الشوارع مدينة كركوك ، وبلغ عدد الجرحى مئات من المواطنين التركمان الابرياء اضافة الى ذلك فقد نهبت عشرات المحلات التجارية والمقاهي في مدينة كركوك وكانت هذه الاعمال كلها من فعل الجنود ورجال المقاومة الشعبية والاحزاب الشوفينية . وهنا نقول بوضوح بان التركمان غير مسلحين اساساً فلماذا هذا الاعتداء الاثم عليها ياترى ؟!..
وفي يوم 15 تموز قام جنود من اللواء الرابع بقصف سينما اطلس والعلمين اللتين يملكهما التركمان وكذلك بعض منازل التركمان في القلعة وذلك بمدافع الهاون من قبل افراد اتحاد الشبيبة والمقاومة الشعبية وبعض الاحزاب الشوفينية حيث قاموا بوضع علامات على بيوت معينة بهدف مهاجمة سكانها وعن طريق موظفي مصلحة كهرباء لاغراض تخصها ، وفرضت منع التجوال على مدينة كركوك لمدة ثلاثة ايام وهنا لايخفى علينا الدور البارز والقيادي للمناضل التركماني الزعيم عبد الله عبد الرحمن في اخماد لهيب مجزرة كركوك الرهيبة في عام 1959 حيث كان المرحوم انذاك ضابط ركن في قيادة فرقة الثانية بكركوك حيث ذهب الى الزعيم عبد الكريم قاسم في بغداد وشرح ما يجري في كركوك من المؤامرة ضد التركمان وتصفية ابنائه في ابشع جريمة تشهدها كركوك على يد الشوفينيين . ولم يعد الامن والاستقرار الى كركوك الا بعد وصول تعزيزات عسكرية اتية اليها من بغداد في 17تموز وسحب الاسلحة من الجنود الاكراد من اللواء الرابع اوقفت حركات المقاومة الشعبية وامره باحالة الجناة الى القضاء لينالوا جزاءهم العادل ..
تخلص مما تقدم ان ما حصل كان مدبراً سلفا وتقع تبعية المسؤولية على عاتق الاحزاب الشوفينية في المنطقة ومرتكبي الجرائم سواءً كانوا منقادين للمشاعر العرقية او توجهات سياسية حزبية او بالامرين معاً .. وكانت الاحداث تؤكد وجود نية مبيتة تستهدف انزال ضربة قاصمة للشعب التركماني في كركوك لاضعاف تماسكه وتفتيته ..
وانتهت الاحداث الدموية للايام الثلاثة الرهيبة وبدأت لجان التحقيق بعملها والمحاكم العسكرية اصدرت احكام الاعدام بحق 28 متهماً ، واستمر التحقيق والمحاكمات مدة تزيد على سنة ولكن لم ينفذ حكم الاعدام بحق المدانين حتى 22/حزيران /1963 اي بعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم ..
أن مجزرة كركوك الرهيبة سببت صدمة عنيفة للتركمان استمرت اثارها لفترة طويلة جداً من الزمان واستمر نزف الدماء وتدهور اوضاع الامن والاستقرار ليزيد من حجم الاحقاد والضغائن والكراهية الى درجة كبيرة خلال الاعوام الاربعة التالية وقد انحسر المد الشوفيني المقيت وتقلصت هيمنة منظمات السلام والشبيبة والمقاومة الشعبية في مدينة كركوك اعقاب المجزرة ومن ثم الغيت هذه المنظمات بعد الاطاحة بعبد الكريم القاسم ..
امست كركوك تنتظر فجر يوم وليد تمحو فيه هذا الثأر ويرتفع سيف الحق ليضرب رقاب المجرمين الغرباء الشوفينين صانعي مجزرتها والذين تركوا الخراب في كل بيت والدموع في كل عين .. والحزن والاسى في كل زاوية وبقعة من كركوك ..
وبقيت كركوك الحبيبة الصامدة تبسط جناحيها على افلاذها لتعلمهم الانسانية والصبر والصمود والألفة والمحبة ..
تحية إجلال وإكبار لشهداء مجزرة كركوك الرهيبة .. والمجد والخلود لشهداء التركمان ..