23 ديسمبر، 2024 8:33 ص

تحياتي للجنرال..

تحياتي للجنرال..

اعذرني إن أخذت وقتا طويلا حتى أهنئك.. على نيلك لأعلى الرتب العسكرية.. لا لأني أعجز عن انتقاء الكلمات المناسبة لك.. لا لأنك لا تستحق مني التقدير والاحترام.. لا لأني لا أدرك طعم الترقي والنجاح.. كيف ذلك، وأنا مثيلتك في أعلى الرتب الإدارية المدنية؟.. مع فرق بسيط في توصيف المهام.. وفرق شاسع في الرمزية.. كل ما في الأمر يا سيدي، أن وجودك في نفس المربع أربك حساباتي.. وأيقظ ذكريات حسبتها ذهبت بعيدا عني.. جعلتني أتذكر كل الحروب التي اندلعت قبلك.. وكل الحروب التي لم تندلع بعد.. اعترف أن القضية أكبر مني ومنك.. وأنه ليس من العدل أن أحملك ما لا طاقة لك.. أعرف أنها مسؤولية مشتركة.. قرار اتخذه المدني ونفذه العسكري.. كما أعرف أنك نيابة عنهم تعتذر لي في اليوم ألف مرة.. عندما أراك يا سيدي.. تجعلني أسافر بعيدا.. توقظ ما ظننته مات بداخلي.. تجعل دموع العين تفيض سيولا.. تأخذني لذكريات الثمانينيات.. وما أدراك ما مفترق الطرقات.. لسنوات عنوانها الرصاص.. غضب السماء.. صفارات الإنذار وانقطاع التيار.. ارتباك العقل وخطاب العار..
وأنا تلميذة في الأقسام الإعدادية.. كنت أحب مادة العلوم الطبيعية.. ودروس التربية الوطنية.. كنت أغني النشيد الوطني بكل افتخار.. ”منبت الأحرار.. مشرق الأنوار”.. رغم أنه باللغة العربية.. التي لم تكن اللغة الرسمية بالنسبة لي.. كنت أحلم دائما أن أغني النشيد ”بالريفية” لغتي.. لكن لم يكن أحد يبالي بحلمي.. بسبب عنادي قمت بترجمة النص وغنائه لنفسي.. ضحك بسخرية شديدة كل من سمع بحكايتي.. في بداية الثمانيات.. كانت الحسيمة تعرف غضبا جماهيريا بسبب غلاء الأسعار.. وتردي حالة البلاد.. في يوم من أيام سنة 1984.. لم يكن كسائر الأيام.. تاه عنواني و تاهت شوارع المدينة عني.. كما تبعثرت على الرصيف أدواتي.. خوف شديد انتابني.. وانا اخترق شارع بئرنزران عائدة إلى البيت.. لما رأيته من فظاعة الوضع.. حالة طوارئ قصوى خارج أسوار الإعدادية.. جعلتني أشتاق للنوارس وزرقة السماء.. أبحث عن هدوء المدينة.. فلم أجد سوى غضب السماء.. وكائنات فضائية تغزو المدينة.. جنود في كل مكان.. ينتظرون الإشارة.. في البداية ظننت أن جنرال فرانكو ا قد ولى.. وان جنود جزيرة بادس هجموا المدينة.. ربما كانوا جنودا أتوا لتحرير الجزيرة.. لم أكن أعلم أن الجنود مغاربة، أتوا للزج في السجن أبناء المدينة..
كانت الشوارع شبه فارغة.. أحسست بالفراغ.. أحسست بسقوط السماء.. وجدت نفسي أغني لوحدي ”هوى وطني فوق كل هوى.. جرى في عروقي مجرى دمي “.. نظرت جهة اليمين وجهة الشمال علي أجد من يدلني.. فلم أجد سواهم.. إنهم على أهبة الاستعداد.. بالضبط كما في الأفلام.. وقفت لحظة أستوعب المشهد الذي لم يكن عاديا.. رجال بالزي العسكري ظننتهم في بداية الأمر دمى منتصبة.. بصوت منخفض طلب مني جندي مجهول إخلاء المكان.. كانت عيناه تحدق بي تترجى مني الإسراع.. تأملت ملامح وجهه جيدا قبل أن ألوذ بالفرار.. بعد سماعي أصوات غريبة تملأ الفضاء.. إنه صوت الصراخ والقصف بالرصاص.. أدركت مدى خطورة الوضع.. السائد في البلاد.. تذكرت حينها قصة الأمير والرصاص.. التي كان يرويها الكبار كل مساء.. كما تأكدت من صدق كلام الجندي لي.. فرغم الخوف الشديد الذي كان ينتابني.. لم أنس تقديم الشكر للجندي المجهول.. الذي ابتسم بدوره لي شاكرا لله تعالى على نجاتي.. ربما انتهت الانتفاضة بسلام بالنسبة لهم.. ربما قامت المصالحة والتأمت الجراح.. إلا أن الانتفاضة مازالت بداخلي.. أحداثها تحاصرني كالكوابيس.. ونظرات الجندي المجهول مازالت تسكنني.. هل كان ليحدث كل ما حدث؟.. هل كان لا بد لي أن أعيش ما أحكيه اليوم؟.. وهل كان لا بد للجندي الشهم أن يترك الثكنة ويشهر السلاح في وجه طالب الكرامة؟.. أسئلة كثيرة باتت تحيرني إلى اليوم.. ماذا لو قوبلت الانتفاضة باستجابة المطالب الشعبية؟.. لكان وضعهم ووضعنا اليوم أفضل.. ألسنا نعيد الكرة مرة أخرى؟.. وهل ستسلم الجرة كل مرة؟..
تعلمت يا سيدي كيف أصافح المدني.. وكيف أختلف معه.. أعرف متى يفرح ومتى يحزن.. بماذا يحلم وكيف ينام.. متى أقنعه أن يتقدم أو ينسحب من العراك.. تعلمت كيف أخترق أرضه وسماه.. كيف أجعله يندم على ما فعله.. وكيف يندم على شيء لم يفعله.. بل وكيف أسامحه كلما طلب.. تعلمت كيف أركب بحر النثر والشعر معا.. لأهجوه غالبا وأمدحه نادرا.. لكن أن أهنئ الجنرالات.. فلم يخطر بالبال أبدا.. أنت تذكرني بسنوات الرصاص.. بحظر التجوال.. بالحرب وبالقتال.. بالاحتلال وبالاستعمار.. بالخدعة العسكرية.. بالحفاة وبالعراة.. بقاذفات هاون والذبابات.. تذكرني بنظريات الهجوم والتخطيط الاستراتيجي.. بمقولات الجنرال ”كلاوزفيتز” الشهير.. و”بتوماس سانكارا” الإنسان النبيل.. تذكرني أيضا بتحرير الشعوب.. بدي لافاييت والثورة الفرنسية.. بمؤلف الأسود والأحمر الذي قرأته مئات المرات.. تذكرني بنظرات الجندي المجهول.. التي قالت عنه وعنك الكثير.. كان يعلم جيدا أنه ظل الطريق.. واستهداف الأعزل.. يعاقب عليه الضمير.. ويحاسب عليه التاريخ..
استراتيجيا، اخترت الانسحاب من الميدان.. احترازيا فضلت تجاهل الأمر والابتعاد.. خوفا من تربص الأعداء.. بل خشية أن تخونني العبارات.. أو تفهم قصدي خطأ.. فتجدني أدخل حربا غير متكافئة مع جنرال.. فيصبح السلم والسلام في خبر كان.. كما أخشى أن يهزمني حامل السلاح.. وأفقد صوابي ويجن جنوني.. أو تقع نجومك أمامي وتسقط قلاداتي.. وتقوم بذلك حرب عالمية ثالثة لم تكن في الحسبان.. كيف لي أن أقبل بهزيمة الجنرال؟.. وكيف لي أن أرضى بتحمل الانهزام؟.. فضلت أن أبقى بعيدة.. حتى أكون أكثر لياقة.. فمن ”خاف نجا” يا سيدي.. أجمل ما جادت بها الأمثال..
وفي الختام، اسمح لي أن أهنئك مرتين.. مرة حينما نلت ثقة القائد الأعلى.. ومرة حينما أصبحت ضمن فصول كتاباتي.. فدمت في العمل متألقا.. فدامت الأخلاق عالية.. (يتبع).