23 ديسمبر، 2024 3:31 م

 تحولات مفهوم الديمقراطية : من العقيدة إلى المنهج

 تحولات مفهوم الديمقراطية : من العقيدة إلى المنهج

على ما يبدو فان حصيلة التجارب السياسية المتعاقبة للأمم والشعوب ، شرعت تنحو باتجاه طي صفحة المفهوم التقليدي للديمقراطية الذي كان يعني على زمن الأغارقة القدماء ((حكم الشعب بالشعب وللشعب)) ، أو مثلما كان يردد رجل الدولة الاثيني ((كليون)) ؛ حكم الشعب بواسطة الشعب لمصلحة الشعب . ليس فقط تحت وطأة تعاظم أعداد الكتل والجماعات البشرية واتساع حجم المجتمعات المكونة لها فحسب ، وانما لتشابك مصالحها وتشعب علاقاتها وتعقّد بناها وتراكم خبراتها وغنى معارفها وتنوع عقائدها وتباين ثقافاتها أيضا”. وتساوقا”مع هذا المنحى الآخذ في التبلور والماضي الى التجسّد ، فاننا سنعمد – من خلال هذه الدروس الأولية – الى مقاربة مفهوم الديمقراطية من منظور عقلاني / نقدي ، يستوحي معطيات الواقع المعاش ، ويستلهم تجليات الممارسة العملية ، محاولين قدر المستطاع صياغة ما نعتقد انه يعتبر مسوغا”مقبولا”لدعاوى ان المفهوم العتيد قد تطورت مضامينه الفكرية وتبدلت دلالاته الاجتماعية ، واختلفت مقاصده السياسية ، واغتنت معاييره الاخلاقية ، قياسا”الى ماكان يوحي به ويرمز اليه
ولما كانت الديمقراطية بالتعريف هي شكل راق من أشكال الفعل السياسي ، ونمط متسام من أنماط التنظيم الاجتماعي فضلا”عن كونها الأقرب دلالة الى جوهر غايته الاصلاحي / التوفيقي ((القيام بالأمر بما يصلحه)) ، فان السياسة تعد بمثابة المنعكس الشرطي والاطار المكثف لانثيال ديناميات الحركة الاجتماعية ، وصمام الأمان في آليات اشتغالها وهو الأمر الذي يستتبع على الديمقراطية (كممارسات ومؤسسات) أن تحايث تلك الحركة ، وتكتسي طابع المرونة والمطاوعة غدات الانفتاح على اتجاهاتها ، بما يضمن لها (= الديمقراطية) استيعاب الارهاصات الحاصلة في كيان المجتمع ، واستدماج التحولات النوعية في انساقه المادية وبناه الرمزية ، على نحو يتسم بالتدرج السلمي والانفتاح المتوازن . بحيث تحول دون الانزلاق نحو حافات التأزم ، وتمنع الانفلات المتسارع صوب دوامات العنف ، وتدرأ التطرف من بلوغ مستويات الذروة . ولهذا نجد أن بعض فلسفات التاريخ ، على سبيل المثال ، عدّت الحركة الاجتماعية من أرقى أنواع الحركات وأعقدها في سلّم قوانين التطور التاريخي وجدلياتها ، باعتبار كونها تشتمل على تصادم الارادات وتقاطع الرغبات وتفاعل العلاقات على نحو دائم ولا نهائي . من هنا فان مسعى تحنيط مفهوم الديمقراطية والباسه صفة الثبات واقحامه في اطار الجمود – لكي يصار الى الزام المجتمع على استبطان قيمه قبل تبيئة مكوناته وتفصيل الواقع على مقاس مبادئه بدلا”من حصول العكس –  سوف لا يلحق الضرر فقط بجهود القوى الاجتماعية الفاعلة والرامية الى احداث يقظة فكرية شاملة وخلق نهضة حضارية واسعة من جهة ، وبلورة مضامين قيمية جديدة لماهية الديمقراطية ضمن أطر الوعي التقليدي الراكد لمختلف الشرائح والفئات الاجتماعية فحسب ، وانما يسهم باعاقة مسيرة المجتمع المراد له أن يغادر مستنقع جموده ويتغلب على قيود تخلفه ويغدو ، من ثم ، ديمقراطيا”على الصعد كافة . اضافة الى منح الدولة المبررات السياسية والمسوغات الاقتصادية لكي تتحول من دولة مؤسسات دستورية تحتكم الى القانون وتستند الى الشرعية ، الى دولة بوليسية شمولية تتعاطى القمع السياسي وتمتهن الاضطهاد الاجتماعي وتنتهج الترويع النفسي وتمارس المسخ الفكري . ولأن مفهوم الديمقراطية يتسم من ألفه الى يائه بالطابع السياسي / الاجتماعي ، فان التعامل معه ينبغي أن ينطلق من قاعدة النسبية التاريخية والتعددية الثقافية والمرونة الفكرية ، بحيث تخضع جميع المعطيات المادية والمنتجات الروحية لمنطق التحول الدلالي والصيرورة المعرفية . وتبعا”لذلك فان المفهوم سيغدو منذ لحظة استيعاب هذه الخاصية التطورية واعتماد تلك المرجعية الجدلية ، مرادفا”لمعنى المنهج ومخالفا”لمغزى العقيدة . أي ان اجراءات وفعاليات تطبيق المفهوم المجرد على الواقع العيني ، سوف لا تراعي فقط التنوع في الخصائص الثقافية ، والتباين في المستويات الحضارية للمجتمعات المراد تطعيمها بالقيم الديمقراطية ، وانما بالاضافة لذلك ستأخذ بنظر الاعتبار خضوع تلك الخصائص والتمايزات لجدليات التحول وسيرورات التبدل . ولهذا فان التمسك بصيغة المفهوم الكلاسيكي للديمقراطية واعتبار كونها نظرية صالحة لكل زمان ومكان لا تعدو عن كونها محاولة طائشة واندفاع متهور لانتهاك قيم الديمقراطية ذاتها ، ومسعى مغرض وادعاء متخابث لاستدراج المجتمع نحو السقوط في جحيم الدكتاتورية الفظة والاستتباع لارادة الحاكم الطاغية . وعلى أساس ذلك فليس لنا الا أن نشاطر وجهة النظر الباحث الخليجي (الدكتور علي الكواري) التي ترى في الديمقراطية المعاصرة : (( أبعد من أن تكون عقيدة شاملة ، وهي أقل من أن تكون نظاما”اقتصاديا”- اجتماعيا”له مضمون عقائدي ثابت . ان الديمقراطية المعاصرة منهج لاتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها . وهي منهج ضرورة يقتضيه التعايش السلمي بين أفراد المجتمع وجماعاته ، منهج يقوم على مبادئ ومؤسسات تمكن الجماعة السياسية من ادارة أوجه الاختلاف في الآراء وتباين المصالح بشكل سلمي ، وتمكن المجتمع ، بالتالي ، من السيطرة على مصادر العنف ومواجهة أسباب الفتن والحروب الأهلية)) . وفي زحمة التعددية الحزبية وتكاثر الأطر التنظيمية وتناسل المرجعيات الفكرية التي ما برحت تجتاح الساحة العراقية من الأقصى الى الأقصى ، أفقيا”وعموديا”، نتيجة لسعة الفراغ السياسي وضيق الغطاء الأمني وتذرر المكونات السوسيولوجية وتبعثر الانتماءات الرمزية ، الذي ترتب على خلفية انعدام القوى الاجتماعية المعارضة وغياب التيارات السياسية البديلة وانكفاء الخطابات الايديولوجية المناوئة لنظام الحكم السابق ، فانه من الضرورة بمكان التئام شمل جميع القوى والأحزاب ، ولملمت شعث مختلف الحركات والمنظمات التي اتخذت من مفهوم الديمقراطية عنوان لها ومن شمائله الاجرائية والاعبتارية التزاما”عليها ، لبحث وتحديد نمط الديمقراطية المزمع تبني نماذجها وتوطين ثقافتها واشاعة قيمها ، ليس فقط داخل هياكل ومؤسسات المجتمع السياسي (الدولة المرتقبة) ، لايجاد ىليات مناسبة تمفصل عملية التوازن بين سلطاته ، وترسم الحدود وتضع الفواصل بين صلاحياته فحسب ، وانما ضمن خلايا المجتمع المدني وتضاعيف مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية كذلك . اذ ان الطبيعة النوعية للمجتمع العراقي من حيث تنوع خارطة تقسيمه الاثني / القومي ، واختلاف انتمائه الطائفي / الديني ، وتشظي ولائه العشائري / القلبي من جهة ، وما أفرزته مخلفات العهود السابقة من آثار تدميرية ، مزقت نسيجه الاجتماعي وقطعت أواصره الوطنية وقوضت بنيته الحضارية ، وأمنعنت في تأليب قيم الثقافت الفرعية واستنفار مواريث التكوينات الأولية من جهة أخرى . كل هذا وذاك ، وما استجد من أحداث سابقة وتداعيات حصيلة المرحلة الراهنة ، يستلزم أن يعاد النظر بقراءة مفهوم الديمقراطية الرائج لاستنطاق جوهره واستخلاص ماهيته ، لا من حيث تغيير مبادئه وتضييق دلالاته واحتواء مقاصده وتحريف معانيه ، وانما من حيث القدرة على تبيئة مضامينه ووقعنة خصائصه وتوطين آلياته . بما ينسجم وطبيعة المجتمع العراقي من النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية والحضارية ، ناهيك بالطبع عن نظائرها الدينية والنفسية والجمالية . واذا كان ملحا” على تجربة الديمقراطية المنشودة أن تستوعب هذه الأنماط من التنوع وتحتضن تلك الأشكال من التخالف ، فهذا لا يعني ، بأية حال ، ان مهمتها تنحصر ( بدمقرطة ) البالي من الأعراف والمتخلف من العادات والمتهالك من التقاليد ، لكي تضفي عليها سمات العصرنة وتكسبها طابع التمدن والرقيّ . بل ان المطلوب منها على وجه التحديد ؛ هو الحيلولة دون أن تستغل فضائلها ويساء لمناقبها عن طريق اشاعة ما يعرف (بثقافة) العنف وتعميم قيم الاستزلام ،بزعم انها (=الديمقراطية) دعوة صريحة للتحرر من القيود الاخلاقية والتنصل من الالتزامات المبدئية ، وهو الأمر الذي يفضي الى اندلاع نوازع العدوان واستشراء فوضى الطغيان مجددا”. وعليه فان مشروع الديمقراطية المزمع تجربته في عراقنا الجديد ينبغي – اذا ما أريد له النجاح والاستمرار – أن يتجاوز الضيغ المطروحة في التطبيق والمطروقة في الممارسة ، بحيث يتحقق هدفنا السامي بزمن وتكاليف قياسية تقلل من آلام المخاض وتخفف من أعباء المسيرة . وذلك من خلال تبني برنامج سياسي / عقلاني – اجتماعي / واقعي ، يهدف الى حمل الانسان العراقي (الخارج من الرماد) للايمان بقناعة ان مجمل خياراته المبنية على أسس من الولاء الاثني أو الديني أو الطائفي أو القبلي ، ليست بالواقع هي معقد آماله المقموعة وخلاصة طموحاته المؤجلة . بل ربما تكون بالأحرى أقصر السبل وأسهلها لضياع ما تبقى لديه منها . ولذلك ينبغي ، بل يجب أن يكون معيار المفاضلة بين تلك الخيارات هو الولاء للوطن بكامل أرضه والانتماء للمجتمع بكل أطيافه ، بحيث يغدو مقياسا”لكل القيم الوطنية ، ودالة لجميع الاعتبارات المصلحية . وهكذا يتطلب العمل في المشروع الديمقراطي العتيد ، اجتراح صيغ جديدة واستنباط وسائل مبتكرة ، تتيح للمواطن العراقي – وهو في دورالنقاهة واعادة ترتيب الاولويات – فرصة التفكير العقلاني بان (الثوابت الوطنية) المقدسة ، بعد كل الذي جرى من مآس وحصل من فواجع ، لا يمكن أن تصبح قاعدة متينة أو منطلق موثوق للشروع بأقامة المجتمع الديمقراطي التعددي الذي يؤمن بالاختلاف ويألف التنوع ويقبل الرأي والرأي الآخر عل وفق مقولة ((ان صناديق الاقتراع هب التي ستقرر)) دون أن يضع بالحسبان امكانية أن تكون تلك (الصناديق) مجرد وعاء شكلي يستقطب حساسيات التطرف والاستعلاء القومي ، ويستنفر الكوامن والضغائن الطائفية ، ويستثير الأحقاد والعداوات العشائرية ، طالما ان قضية (الولاء الأكبر) لا تزال مرهونة بالتجاذبات الجانبية والمساومات الخاصة بهذه الثقافة الفرعية أو تلك ، بهذا التكتل العصبوي أو ذاك . مما يجعل من دعاوى (الهوية الوطنية) مجرد غطاء يستر عيوبها وشعار يبرر انحرافها . وعلى وفق هذه المعطيات الملموسة فان مرمى هذه الدروس الأولية هو ايصال فكرة ان الديمقراطية ليست رداء أتقن فصاله لاجل أن يرتديه المجتمع ومن ثم يقال عنه انه أصبح مجتمعا”ديمقراطيا”بحلته الجديدة . بل هي أساسا”ثقافة يرتشفها على مهل ، وقيم يجتافها بعناية ، وفكر يؤمن به على مراحل ، وعلاقات يعتاد عليها بتوجس وحذر . وان كل هذه الانشطة والممارسات لا تتأتى بفصاحة الخطابات الايديولوجية أو حماسة الحملات الدعائية ، وانما عبر مجهود حقيقي متواصل ومضني في غالب الاحيان ، يستقرأ جبشان الواقع القائم على ضوء مستجداته وطبيعة افرازاته ، كذلك تحليل معمق لأنظمته الرمزية الفاعلة في السيكولوجيا الاجتماعية ، وتفكيك شامل لهياكل أعرافه الموروثة البالية ، لتوظيف الأولى واستبعاد الثانية ، بما يخدم قضية الديمقراطية ويصار ، من ثم ، الى اعادة تركيب تلك العناصر مجددا”بما يضمن عدم حصول ارتداد أو نطوص عن مجرى هذا الحلم الجميل . وأخيرا”يقتضب أن نشير الى أن خصوصية التجربة العراقية وما أفرزته من مشاكل سياسية وما أثارته من اشكالات اجتماعية ، كانت حاضرة في متن هذه الدروس ، تحايث حراكها وتستبطن تطلعاتها تارة ، وتنسلخ عنها وتجانب مسارها تارة أخرى . متيحا”المجال- في الوقت ذاته- لمزاوجة الفكر بالواقع والنظرية بالممارسة . وهو الأمر الذي يضعنا أمام حقيقة ان مفهوم الديمقراطية بقدر ما يقوم على مبلدئ عامة وقيم مشتركة وثقافة انسانية ، فهو يستلزم مراعاة الخصوصية القومية والتعددية الثقافية والنسبية الحضارية ، فضلا”عن استحضار المكونات السوسيولوجية والتنوعات الانثروبولوجية ، بحيث يحقق المعادلة الصعبة التي صاغها العالم الاجتماعي الفرنسي(آلان تورين) بين حكم الأكثرية وضمانات الأقلية .
[email protected]