يـلاحظ في بعض الحالات تذبذباً وربما أزمة في الوعي الاجتماعي للخطاب العراقي وعناصره واتجاهاته وهذا عائد ربما إلى النقلات النوعية التي شهدها هذا الخطاب .
ولايـضاح ذلك ، يمكن المقارنة بين الاندفاع الأول للخطاب خلال السنوات الثلاث الأول من بعد 9نيسان وبين تراجعه خلال السنوات الأربعة الأخيرة . ومع أن هذا التقسيم المرحلي يبدو جزافياً إلا أن له ما يبرره ، فلو استعرضنا الأحداث التي تعامل معها هذا الخطاب والأدبيات التي عبرت عنه لوجدنا انه في المرحلة الأولى انعم بالطروحات التقليدية للدولة من حيث انتمائها القومي والإسلامي ودورها في القضايا المصيرية التي ترسم المجتمع العراقي والعراق … وحتى تلك التي تهم الإنسانية ، وبرز في ذلك نوع من البرنامج أو لنقل تصور للأولويات من شأن الدولة داخلياً وعربياً وإقليمياً وربما دولياً مع أنها لم تكن واقعياً في أحسن حالاتها بفعل ما عانته من سوء فهم لموقفها من ارتباطها العروبي . وقد برز أيضا نسق مـن أهداف الدولة المتصلة بالتحديث وتطوير المجتمع نحو المدنية والتكامل والفعالية وحقوق الإنسان .
ولنـأخذ أمثلة على التحول الذي حدث في الخطاب العراقي الإجمالي عبر مناقشة أربعة مفاهيم رئيسة :
أولا ـ الحـوار .
كـان في المرحلة الأولى محترماً وعلى الرغم من بعض الفوضى التي كانت تعتوره ألا انه كان يبشر باحتمال تطور من جدل التصادم الأفقي المتقابل إلى حوار التكامل المتصاعد والمتناسق . وقد تم التعبير عن ذلك بنسيج من يخلط التفاهم بين السلطات رسمياً وشعبياً بمحاولات التجمع على شكل جبهات عمل سياسية (ائتلافات .. ) . وكان النجاح أكثر احتمالاً من الفشل في الحالتين . أما الآن فيبدو أن الأمور قد تطورت باتجاه حالة اللا حوار مما دفع بالقيادة السياسية (الحكومة) نفسها أن تباشر الدعوة إلى الحوار محاولة أحيائه وتوجيهه وضبطه في اتجاه المعطيات المستجدة للوصول إلى اكبر قدر من الايجابية في التفاعل والأمثلة على ذلك ما تم خلال الشهور الأخيرة … من حوارات بين القوى السياسية والحكومة (القيادة السياسية) .
ثانيا ـ الديمقـراطية .
لـقد كانت في بواكير التوجه الديمقراطي العراقي تفرض نفسها كمضمون بلا سقف وكانت تستثمر أحيانا بمقالاة وكانت كذلك على مستوى الخطاب وعلى مستوى السلوك ، ولكن الآن وفي المرحلة الجديدة أن السقف الرسمي الذي وضع للتوجه الديمقراطي سواء عبر القانون أو بواسطة المواثيق والتعهدات فرض نفسه وفسر لمصلحة التقييد أكثر من الغاية من وضعه كأداة للترشيد والتوجيه والعقلنة .
وبـنفس الوقت يجري التعامل مع الديمقراطية من قبل المؤسسات المدنية / الشعبية … باعتبارها مطلباً لإلغاء المساحات المحظورة أو المقيدة دون الاستغلال الحقيقي للمساحات المتاحة والتي لو جرى التعامل معها بكفاءة لاتسعت على حساب المساحات المحظورة ولكن بالتدرج وبالثبات . ربما يفسر ذلك من خلال الصعوبات التي تعترض بداية المسيرة ولكن هذا لا يكفي لتفسير السلوك الرسمي والمدني / الشعبي في دولة تدعي ان لها خبرة في التسامح السياسي وضبط إيقاع الحركة السياسية وتوزيع الأدوار .
ثالثا ـ المصالحة مع المعارضة .
مـن الواضح أن هذه القضية فرضت وربما أقحمت الدولة (الحكومة) بعناصرها المختلفة في ضرورة اخذ موقف محدد وربما أكثر حسماً من الموقف الذي كان يمكن اتخاذه لو لم تكن هناك ديمقراطية أو لو لم تكن هناك جهة عراقية مسؤولة عن هذه الإشكالية . وطالما أن الوضع كذلك فيلاحظ أن الخطاب العراقي إزاء هذه المسألة يتسم رسمياً بالوضوح وبالرؤية المتفائلة نسبياً للنتائج ولكن هذا قد لا يكون عملياً أو واقعياً في بعض الحالات فالمعروف أن الجانب العراقي الرسمي قد باشر الاتصالات مع بعض فصائل المعارضة ضمن ظروف ليست هي الأفضل بالنسبة له ويحاول في كثير من الأحيان تقديم تبريرات لحشد التأييد لهذا الموقف وهو هدف مفهوم وبالمقابل يلاحظ أن الموقف المدني /الشعبي المعارض يقدم رفضاً اعتذارياً وليس بديلاً كما انه وبوصفه اقل حسماً مما ينبغي اقرب ما يكون إلى موقف (اذهب وربك وقاتلا) وهو أمر لا يجعل من الاتصالات مهمة وطنية على الجميع دراستها ومتابعتها وتقديم النقد والتوجيه الايجابي لها ، أما الموقف المدني /الشعبي المؤيد فهو أيضا في معظم حالات لا يقدم النقد الايجابي المطلوب .
طبعـاً المسالة هنا ليست مسألة تأييد أو معارضة وكفى الله المؤمنين شر القتال ، أنها مسألة مصير ووطن وشعب ومن المفروض أن تتجه أصوات المعارضة قبل أصوات التأييد لتجعل من النتائج غير المحتملة نتائج محتملة .
رابعا ـ الاقتصاد الوطنـي .
أمـا المضمون الاقتصادي في الخطاب العراقي فهو أكثر تعقيداً من المضامين السابقة ليس لان الوضع الاقتصادي العراقي غير معروف أو لأنه ذو إشكالية مزمنة بل لان الخطاب العراقي يتميز بقدرة عالية على تسييس الاقتصاد لدرجة أن الرغبة في تسييس الاقتصاد تؤدي إلى تجاهل الحقائق الاقتصادية الصرفة في كثير من الحالات لذلك تعامل الخطاب العراقي في المرحلة الأولى مع الاقتصاد وكأنه إشكالية سياسية يمكن حلها بالإدارة والتصحيح وان القضاء على الفساد وإنهاء المديونية وتحجيم البطالة وتشجيع الاستثمار هي مسائل خاضعة للإرادة السياسية وحسب . فلذلك هناك من يعتقد بإمكانية حل أزمة الاقتصاد العراقي بمجرد التوقيع على اتفاقيات ثنائية (عراقية – أمريكية – إيرانية ….) وقد تكون المسألة مسألة وقت فقط ، وهذا لا يجوز أن يكون تفكير الكومة ومؤسساتها في الوقت الحاضـر .
ومـع أننا لسنا خبراء في الاقتصاد ألا أن ما يعرفه الجميع يفيد بأن كل تفاصيل الأزمة الاقتصادية العراقية يعبر عنها بالأرقام والأرقام حقائق واقعية لا يتم الوصول إليها بالمجان أو باللياقات والرغبات … ناهيك عن الأبعاد الاجتماعية لكل قضية وأيضا ناهيك عن ظروف المنافسة في ظل حرب اقتصادية دولية واقتصادات إقليمية منافسة أضخم وأكثر تطوراً .
[email protected]