مشكلتنا مع “الربيع” فهو حقّ وشرف إنساني يتحسّس كيانه بأحقّيّة وجود لابدّ ونَعِيَه باستمرار , مشكلتنا مع عمق فهم لهذا النوع من “الأحقّيّة الثوريّة” كان يجب إدراكها ووضع الحلول لها ؛ يجب أن تحتضن الثورة لتستطيع تصريفه عكسيّاً مع روح الانتفاض بتوازن لا أن نترك ما طفى كيله بنا تسري عليه سنن التشنّج فترتخي دوافعه مع ما ضننّاه أوّل انقشاع لا زلنا لم نفهمه انقشاع بل امتصاص للدوافع من طرف لم نحسن تشخيصه كطرف مناور فكان أن امتُصّ هذا “المناور” الربيع العربي ولم تبق منه سوى كائنات وهياكل رافضة هنا وهناك تحاول أن تناور “لأجل مصالحها” بعد أن عادت طبيعة الطرف القديم تسري من جديد بعد أن قدّمت الشكر لعنصر التشنّج ! كان يجب تجنّب السقوط , بالعقل لا بالانسياق المتشنّج لأنّ العقل هو الغالب مهما اعترض “الثور” أو أظهر من قوّة وعنف على الذبح فبإمكان العقل إسكاته , عدا ثورة “التعبئة الفكريّة” , ففقط هي من أعيته لمناورته العقليّة معه وعلى مراحل تناور حسب ظروف خصمها المناور , وهذا ما حاول باستمرار العقل الخصم على مرّ التاريخ فعله مع الحالة الثوريّة الفكريّة الّتي خرجت من جلد الهيجان الغير منضبط الّذي اعتاد الخصم ترويضه , فردّ عليه “الخصم”:
هناك إله واحد ,
أجابه الفكر العقل: نعم هناك إله واحد ! ,
فردّ للتعجيز : لنا كتاب ,
أجابه : نعم أؤمن بكتابكم وبالكتب وبربّها وبجميع من أرسل وكلّهم عندنا متساوون ..
منتهى “التصريف” لحين تقوى الشكيمة ويقوى العود مع أنّ الفكر الحرّ يستيغ كلّ فكر جديد , لقد حورب الطرف التاريخي أو “الخصم التاريخي” من قبل “مع التنزيل” بنفس سلاحه عند المواجهة بينما في نفس الوقت يصرفه شيئاً فشيئاً خارج الزمن بالأدلّة والبراهين العقليّة والفكريّة , ما احتال الخصم الظرفي مجدّداً حين لحظ قرب ضموره ونهايته فبادر فتقمّص نفس السلاح الّذي كان قد تقمّص الفكر سلاحه ! فقرّر التغلغل هذه المرّة راضخاً قابلاً مؤمناً بالفكر الجديد ! , ومن جديد , فأشاع بعد استقراره تحت جلد صاحب السطوة ب”أبديّة النصّ” أي “القرآن” ثمّ وب “اشتراكيّة القرآن والأديان” فيما بعد في عصرنا الحديث ! وبنفس خطابه لا يتزحزح مستغلاًّ البقايا الخربة من عهود “ما قبل الفكر” لدى بعض الثائرون توارثوا ما برع فيه “المؤمن الظرفي” بعد أن شربوا صنعته فناورا معاً عبر تاريخ الفكر الجديد بعد أن صنعوا منه “مستشاراً لا يَعتق يُحجب عن أتباع الثائرون القدماء وخطّاً أحمراً لا يُمسّ” يعيش إلى الأبد بعد أن طبعوه بطامع المال والأعمال لكن “بإيمان” ! تتلوّن أوامره ونواهيه بحسب ما يُستجدّ بعد أن روّضه لضعف مناعة الأتباع ينوّع خطابه معهم بين الحين والحين ؛ يرى الثائرون الاتباع تغوّل حقول ومداخل ومخارج الأرزاق بيد المؤمن وقد جمع في خزائنه جميع تركات كسرى وهرقل الروم وفرّخ مؤمنون جامعون لا يتنفّس أحداً أو يشهق إلاّ بإذنه لكن لا يستطيعون فعل شيء “لأنّهم نسيو أنّهم يفكّرون بطريقة من استطاع الخصم امتطاءه”! مبرّرون بلا حول لهم ولا قوّة فاستسلم الأتباع فأقرّوا ظنونها “تفاسير” للفكر الجديد “تلائم كلّ عصر” فإن كان “الأدب” , فالقرآن قمّة القمم , وإن كان في عصر “التشريع” , فهو “قمّة التشريع” , وإن كان في عصر الترجمة , “فالقرآن قمّة في الترجمة” , وإن كان العصر عصر علوم ومخترعات وتكنولوجيا وديجيتال واللعب بالأرقم والعدد وتقسيم الحياة مربّعات لا تنتهي لكلّ مربّع مربّع يتطابق معه يستطيع تكبيره ما شاء أو تصغيره ما شاء فهو “الفكر الجديد” جميعها قد اكتشفها من زمان منذ عشرات القرون واكتشف الأفلاك والمجرّات وتوالد وضمور النجوم وكرويّة الأرض والنسبيّة واحدودبيّة الكون نسيو أنّ فكرهم فكر ثورة غذّاها وحي هدفه الأخلاق “وإنّك لعلى خلق عظيم” و “لوكنت فضّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك” لردم “مستنقعات التفريخ الظرفي” قد بها تستقيم أخلاق الناس ويرتاح الضمير , ولا يجوز إخضاع كلمات القرآن لمعاييرنا نحن فكلام الاله بعيد عن التوصيف البشري فهو لا شعري ولا أدبي ولا كتاب علوم ومخترعات ونظريّات , هو “فكر” والفكرة لا نستطيع تحديد مصدرها مهما كانت الفكرة الجديدة قرآن أو من سبقه مهما تطوّرت العلوم , هو كان عند “نزولها” أي “الأفكار” تضرب الأمثال من حياة وبيئة على قدر عقول من نزل بينهم “الفكر” رغم أنّ وحيه كان يُدرك سلفاً أنّ تلك الأمثال ستُتّخذ يوماً حصان سيمتطيه من له القدرة على صناعة الجهل لذا استدرك بفكر أبديّ : “أنّ الحياة في كلّ عصر لا بدّ وتحتوي قلّة” فسارع “الخصم” بتشتيت القلّة تلك مسبقاً فجعلها “اثنان وسبعون فرقة من ال “قلّة” جميعها “في النار” إلاّ فرقة واحدة هي الفرقة الناجية ! مخافة أن يتنافس “الأتباع المستقبليّون” أن يحجز كلّ منهم مقعداً بين تلك القلّة الأبديّة فيشيع الخلق الحسن بينهم من جديد فتُردم فجوات نفوذ الوحش الظرفي بينهم .. لقد سبقهم بعد أن سرق النصّ من بين أيدي الأوائل فرّقهم قبل أن يتفرّقوا بمئات السنين بل وزرع فيهم روح الاقتتال بينهم حين نافس بينهم لأجل الاقتتال “للفوز بالجنّة” ! ..