18 ديسمبر، 2024 1:47 م

تحليق عابر لطيور الذاكرة 4: داوِ جرحك-نص

تحليق عابر لطيور الذاكرة 4: داوِ جرحك-نص

من فنون النثر في الأدب العربي القديم، كما تعلمنا ذلك من كتاب النصوص، فن اسمه التوقيعات. التوقيع أو “التوقيعة”، حتى ينسجم اسم هذا الفن مع القصة والقصيدة والخاطرة والمقالة والرسالة إذ إن جميعها مؤنثة، عبارة عن رد مختصر يختزل في جملة مكثفة المحتوى والدلالة يوقع بها القائد أو الأمير أو الخليفة رداً على كتاب يصله من أحد مرؤوسيه أو من أي شخص يتوجه إليه بأمر ما. هذا الفن أفرد له كتاب النصوص للصف الثاني الإعدادي (الثامن حالياً)، إن لم تخني الذاكرة، حيزاً مستقلاً عند الحديث عن فنون النثر العربي القديم، وقد أعجبت بتلك التوقيعات التي ضربها الكتاب أمثلة على ذلك الفن أيما إعجاب. أتذكر هذه التوقيعات الإبداعية بالخير حين أرى التوقيعات الدارجة في العمل الإداري والتي تخلو من أي إبداع أو حكمة، أو حتى تعجز عن قول شيء ذي بال. لا بأس هنا بالاستطراد قليلاً بعيداً عن مخزون الذاكرة البعيد. في المراسلات الإدارية للكثير من المؤسسات الرسمية، وشبه الرسمية، خاصة التي فيها سلطة بارزة للدرجة الإدارية العليا على الدرجة أو الدرجات الأدنى منها، سلطة حاضرة لا تغيب ولا تنسى. عندما ترفع درجة دنيا للدرجة العليا كتاباً من مرؤوس صغير أو حول شأن معين فإنها توقّع الدرجة على المراسلة بالجملة المشهورة “لاطلاع حضرتكم وتوجيهاتكم” يلحقها الموقع بتوقيعه والتاريخ. هذه التوقيعة تعبير عن الخوف من أخذ موقف يزعج الأعلى مرتبة، وخوف من ممارسة الصلاحية المفترضة التي قد تقود ممارستها، ككل اجتهاد، إلى خطأ أو نتيجة لا تعجب “الكبير”. حتى نكون موضوعيين تنبغي الإشارة إلى أن التوقيعات القديمة التي وصلتنا قد تكون لأصحاب سلطة عليا، وأن أية توقيعات لسلطات أدنى قد ضاعت، حتى لا ننحاز إلى القديمة ضد المعاصرة.
ولا بأس من استطراد آخر يفرض نفسه، ربما ذكرته في مناسبات سابقة كتابة أو قولاً لأنه ترك أثراً في نفسي، عتباً على معلمينا الذين تعلمنا على أياديهم وفعلوا ما استطاعوا ليعطونا من علمهم بأفضل ما وسعهم الظرف التربوي السائد، فكانوا بغالبيتهم مصدر معرفة، مخزن معرفة، يريدون نقل ما اختزنوه لنا لنضعه في عقولنا حتى نمسك بناصية المعرفة إيما إمساك ونفرغه في امتحانات تؤهلنا للمستقبل، تلك كانت نيتهم الحسنة، ولكنها كانت على حساب التفكير الحر وتطوير مهارات حل المشكلة، وكما قيل فإن جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة. أقصد هنا “كتاب النصوص”، إذ بقيت لسنوات المدرسة محتاراً في هذا الاسم، والذي على وزن “اللصوص”، ولم أجرؤ على سؤال “ما معنى نصوص يا أستاذ؟”، ولم يتطوع أي أستاذ ليقول لي ولنا تلاميذه أنها جمع نصٍّ، والنصُّ هو….، ويربطها بالفعل نصَّ، وربما يجدها فرصة لربط الفعل بالاسم ويسألنا لنفكر ونصل معه لاستنتاج بأن النصُّ هو ما نصّته القريحة على الأديب أو الكاتب أو الشاعر فخرج بهذا الشكل الذي يسمى نصّاً.
عودة إلى التوقيعات، لم يثبت في ذاكرتي من التوقيعات غير “داوِ جرحك لا يتسع”، وهي التي جاءت تحلّق طيراً من طيور الذاكرة لتطرق النافذة. الجرح هنا طبعاً ليس فقط القطع في أنسجة الجسم وجعلها تنزف، مع أن القول ينطبق على ذلك، ولكن الجرح يمكن أن يكون مشكلة تترك دون حلٍّ لتتفاقم وتؤدي إلى سلسلة من الأضرار المتعاقبة التي تصل إلى “ما لا تحمد عقباه” كما يقال. نبش طائر الذاكرة “التوقيعي” هذا تراكمات جراح لم تداوَ، تركت آثاراً متدرجة، تركناها على حالها خوفاً من آلام العلاج الآني ونسينا الآلام التي سيأتي بها اتساع الجروح. ولكن الجراح بعد إهمالها أصبحت مزعجة ومؤلمة ننظر إليها وكأنها ليست جراحنا، فتحضر التوقيعة التي صمدت في الذاكرة ونسأل أنفسنا “لماذا لم نداوِها وتركناها تتسع؟”.
وحتى لا أفوّت على نفسي فرصة أن آتي لهذه التوقيعة بأخوات لها لكي لا تبقى يتيمة وحيدة في الذاكرة، مع عدم ضمان قدرة الجديد على الثبات في ذاكرة مكتظة أتعبتها عاديات الزمن، فقد ذهبت إلى السيد المبجل “غوغل” الذي أحالني إلى السيدة المبجلة “ويكيبيديا”، لأجد أن “داوِ جرحك لا يتسع” وقّعها هارون الرشيد لعامل كثُر تذمر الرعية منه، وأن عمر بن عبد العزيز وقّع لأحد عماله الذي استأذنه ليرمم ويصلح شأن المدينة التي يتولاها “ابنها بالعدل، وطهّر طرقها من الظلم”، وأن المأمون العباسي وقّع لعامل كثرت منه الشكوى “قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت أو اعتزلت”، وأن معاوية بن أبي سفيان وقّع لمن سأله أن يعينه على بناء دار له في البصرة باثني عشر ألف نخلة “أدارك في البصرة، أم البصرة في دارك؟!”.
جاء طائر “داوِ جرحك لا يتسع” ليذكّر بالجراح على المستوى الوطني والمجتمعي حين تركنا لفترة طويلة جرح “الفلتان الأمني” وجرح “أخذ القانون باليد” وجرح “الفساد الإداري” دون دواء خوفاً من ألم بسيط يحمله الدواء يتمثل في إغضاب مؤيدٍ أو داعمٍ أو قريبٍ أو حبيبٍ فوصلنا إلى عجز أمام الجرح المتسع وقد التهب التهاباً شديداً أدخل في جسدنا غرغرينا تهدد سلامته.
وجاء طائرها محلقاً من ألم شديد في مفصل إبهام يدي اليمنى ومثله في مفصل إبهام القدم اليمنى، ليذكراني بأنني أهملت علاج “فك” المفصل في كل منهما في مناسبتين مختلفتين في طفولتي. خفت من مداواة الوضع لخوفي من الألم الذي سيتضمنه العلاج، وكنت معذوراً في ذلك، إذ كان صراخ الألم من عملية تجبير الكسور يملأ بيتنا الصغير، صراخ يخرج من أعماق أولئك المكسورة عظامهم أو الذين خلعت مفاصلهم واستجدائهم بأن يتوقف المجبّر لحظة عن عمله ليرتاحوا من الألم، ولكن مصلحة المكسور تتطلب أن يستمر المجبّر في عمله وعلى المصاب أن يتحمل الألم “فوجع ساعة خير من وجع كل ساعة” كما تقول حكمة الأيام. للأسف، أنا حينها لم أفكر في هذه الحكمة وبقيت أسير الخوف من وجع الساعة. كان والدي، لروحه الطيبة الرحمة والسلام، هو المجبّر بعد أن أتقن رحمه الله تجبير كسور العظام وانفكاك المفاصل متدرباً على يد مجبّر معلّم، فأصبح بداية يجبّر الكسور للقريبين من الأقارب والجيران، ثم صار يمارس ذلك على نطاق أوسع واتسعت شهرته فأصبح يجبّر كسور من يلجؤون إليه من البلدة والقرى المحيطة، يلجؤون إليه بداية فيجبّر ويتابع حتى الشفاء، وفي حالات ليست قليلة كان يتدخّل ليصحح أخطاء مجبرين آخرين.
طائر “داوِ جرحك لا يتسع” فتح نوافذ كثيرة في الذاكرة.
كان رحمه الله حريصاً على إتقان عمله التطوعي الخيري هذا باهتمام وحرص وقلب قوي، يسمع آهات المصاب ويعرف آلامه فيطلب منه أن يصبر ويطمئنه بأن الأمر سينتهي سريعاً. كان يبدأ بتفحص الطرف المصاب بحركة خفيفة من أصابعه تتحسس العظم تحت الجلد ويقارن الطرف المصاب بالسليم حتى يشخص الوضع، وإن عجز أو التبس عليه الأمر، خاصة في حالة الكسر الطولي (الشُعُرْ)، فإنه يطلب من المكسور أن يذهب لإحضار صورة أشعة حتى لا يغامر بخطأ يدفع ثمنه المصاب، وفي مرحلة لاحقة صار حتى يطلب من المصاب أن يتناول مضاداً حيوياً، إن شك أن هناك جرحاً ربما يلتهب تحت الجبيرة التي كان يصنعها من مزيج الصابون والبيض يضعه على قماش أبيض ويدعمها بقطع خشب صغيرة يعتني بجعل أطرافها غير حادة لئلا تجرح الجلد. وفي أكثر من مناسبة قمت، كابن مدرسة شاطر، بكتابة اسم المضاد الحيوي (تتراسيكلين) بالإنجليزية وكأنني طبيب يكتب وصفة طبية، وأعطيها للمصاب ليشتري الدواء من الصيدلية، فكان يفرح لذلك كثيراً.
كم تمنيت لو أنه كان يتقاضى أجراً عن ذلك، وحاولت التلميح له بالأمر وتذكيره بوضعنا المادي الصعب، إلاّ أنه رفض ذلك رفضاً قاطعاً، فقد عاهد من علّمه التجبير على أخلاقيات هذه “المهنة” ومن أهمها أن يمارسها لوجه الله تعالى وألاّ يطلب من أحد أجراً، لكن هذه الأخلاقيات تسمح بقبول هدية ممن يشفى ويريد من تلقاء نفسه تقديم هدية، ف”الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهدية”. ومن أخلاقيات المهنة أيضاً أنه كان يطلب من أية امرأة مصابة بكسر أن تآخيه ليجوز له معالجتها، فتقول له “أنت أخوي بعهد الله”، وبذلك صار لنا عمّات بعهد الله إضافة إلى شقيقاته.