18 ديسمبر، 2024 8:18 م

تحليقاً في فضاءات الطب

تحليقاً في فضاءات الطب

عملنا هو علاج المرضى.. لا صدقة ولا منة، إنما واجب ورسالة، يجتمعان في تقديم الخدمة الصحية؛ لمن يطلبها او يحتاجها، ضمن الأصول الرسمية، وفق سياق معرفي قائم على العلم والفن الطبي.. ما سمي قديما “الحكمة” وهي مفردة شاملة، رديفة للطب والفلسفة معا.. بل والموسيقى التي تتجلى في أنصع صورها بأشهر طبيبين في التاريخ.. إبن سينا.. عربيا، وأبقراط.. يونانيا.

  •   الحاجة والطلب

إسعاف طارئ او تلافي حالة مرضية او تقديم مساعدة طبية عاجلة، لا ينتظر فيها الطبيب التقدم إليه بطلب خطي موقع عليه من مختار المحلة، واللحظات الحرجة تتداعى بالمصاب نحو الهلاك، بل العكس.. تلكؤ الطبيب عن المبادرة بالتدخل في التوقيت المناسب، يجعله موضع مساءلة قضائية، وموضع محاسبة مهنية من قبل نقابة الاطباء والمنظمات الانسانية، وعقوبة إدارية من وزارة الصحة!

بل يعد تقديم المساعدة لمن يحتاجها، فرض قانوني واجب الإلزام عالميا، وهذا ما حدث مع المصورين الصحفيين الذين وقفوا على حادث إنقلاب سيارة الاميرة ديانا ودودي الفايد، حكمهم القضاء الفرنسي بعام من السجن؛ لإنشغالهم بالتصوير عن تقديم المساعدة!

  •   إطار أخلاقي

إذن مهنة الطب إحتراف علمي، مؤطر بالأخلاق الفائقة.. حد المبالغة، كما يسميه العامة: “الطبيب رب ثان” لا حياء في حضرته.

فالأخلاق إرتبطت بطبيعة المهنة، ومبادئ خطها الرواد و برهنتها التجربة، من هذه الرؤية قدمنا خدماتنا.. شخصيا.. والتي إبتدأت من أول يوم باشرنا فيه بعد التخرج، ومسرحها مستشفى الاطفال في السماوة..

كنت الطبيب المقيم الوحيد في المستشفى والعمل طوال الـ ٢٤ ساعة.. معاناة تستنزفني الا ان مساهمتنا بانقاذ الاطفال ومعالجتهم، قلب الموازين؛ ليجعل منها مهمة جميلة ويتكلل السهر والتعب بالضحكات والدعاء، ولعل تطوعنا في ذلك العام لمعالجة وباء الكوليرا، له اثر في حياتنا، حيث استطعنا  إنقاذ مئات او الآلاف في مستشفى العزل، الذي خصص لمعالجة الكوليرا، بالرغم من صعوبة الظروف، وقلة الكادر.. أنا الطبيب الوحيد في المعركة ضد هذا المرض القاتل، ولحقه العمل في مدن أخرى.. كويسنجق والحلة، واستقر بنا المقام في مستشفى ابن النفيس.. بغداد؛ الذي فتح لنا نافذة التخصص بأمراض القلب، وهنا ايضا جمعنا المعاناة بمتعة إنقاذ المرضى، ونيل علم القلب من مصادره المتخصصة، يتقدمها د. جعفر الكويتي.. رحمه الله، الذي ندين له بكل كلمة تعلمناها وكل سلوك سرنا عليه.

  •   قواعد مهنية

فِي مستشفى إبن النفيس عملنا فردا، مقيم أقدم.. وحيد، بعد سحب الزملاء الى خدمة الاحتياط، عند بدء الحرب العراقية الإيرانية؛ ما حمل إلينا تعبا مجهدا، وعلمنا معنى الإيثار والإخلاص.

لكن تعلمت في (إبن النفيس) اسرار القلب.. كعضلة ونزق عاطفي.. دم يتدفق ونبض جمالي يهيم مثل شعاع يصطخب بين النجوم.

تطورت رؤانا المعرفية، بتطور فحوصات القلب، مثل الإيكو والقسطرة، وإنتظام الأجهزة في صف القدر! للإسهام بتحريك القلوب الواهية، التي تهدلت شرايينها وترهلت أنسجة عضلاتها، كأن إرادة الحياة تساعدنا على مقاومة الموت.. وبالتالي إنقاذ عدد كبير من مرضى شكلوا صيت سمعة طيبة؛ لا أبغي من ورائها، سوى الايمان برب عظيم والولاء لوطن… لنا معه ألف حكاية وحكاية (….!؟…) والاخلاص للمهنة.

واظبت على هذا المنوال، بعد التعيين كطبيب ممارس في مستشفى ابن النفيس، وحصلت على الاختصاص، وإنتقلت للعمل في مدينتي كربلاء والنجف المقدستين.

وحتى بعد تركي الدوام الحكومي، متفرغا للدراسات والعمل الخاص، ما زلت أشهق الى إبن سينا وأبقراط، ألتمسهم عونا في التماهي مع مستجدات المستقبل؛ لأن التحليق في فضاءات الحداثة يجب أن تستند الى جذر راسخ في قواعد المهنة.