18 ديسمبر، 2024 5:41 م

يحكى في العصور السالفة ان مفتي احدى البلدان وعالمها كان جالسا في بستان له قرب النهر كعادته يطالع كتابا، فمر عليه رجل ضعيف البنية رث الثياب، وقف بقربه وسأله، ماتقرأ؟، نظر له العالم ولم يجبه واستمر بالقراءة فسأله ثانيا ولم يجبه،. وثالثا كذلك، حينها مد الرجل يده الى الكتاب واستله من بين يديه وتصفحه ثم رماه في النهر، فأشتاط العالم غضبا واحمر وجهه وهاج وماج وصرخ قائلا : ماذا فعلت كتاب لانظير له تلقه بالنهر هكذا، من انت وما تريد قال الرجل : انصحك.فقال العالم تنصحني بماذا؟!.
فقال الرجل: انصحك ان تجد علما يبقى بالقلب ولا يمحوه الماء ، ثم قال له : لا تهتم إلى أين سيقودك الطريق، بل اعر اهتمامك على الخطوة الأولى، فهي أصعب الخطوات، يجب أن تتحمل مسؤولياتها، وما أن تتخذ تلك الخطوة دَع كل شيء يجري بشكل طبيعي وسيأتي ما تبقى من تلقاء نفسه، لا تسير مع التيار بل كن أنت التيار، ومد الرجل يده الى النهر والتقط الكتاب واعاده الى صيغته الاولى بيد العالم، وذهب. 
فلحقه العالم وقال له بالله عليك من انت؟
قال الرجل : من عباد الله.
فقال العالم : فكن مرشدي ومعلمي قال لن تستطع معي صبرا.
فقال العالم لم؟! واردف قائلا : فسل ماشأت فانها لك مجابة. 
فقال الرجل: ليس لي شيء اسأله، وذهب يمشي الهوينا فتبعه العالم وترجاه فقال الرجل عندي لك شرطا ان نفذته كنت لك ماتريد.
فقال العالم : اشرط. 
فقال الرجل: اريدك ان تسقي الناس خمرا.
بهت!! العالم وقال اتعي ماتقول انا رجل دين ومفتي هذه البلدة اتريد مني ان اسقي الناس خمرا!!.
فقال الرجل: هو كذلك، قد كان امرا مقضيا وذهب.
ظل العالم في حيرة من امره، يقلب فكره ويتململ كالسليم، وبعد طول تأمل وتفكير اقدم على فعلها على مضض.
ذهب الى السوق يحمل جرة خمر يسقي المارة، تعجب كل من مروا به وقد حار الناس بامره واختلطت الاراء واختلفت فيه، منهم من قال قد جن مفتي البلدة، والبعض الاخر قال هذا ديدنه من قبل انما كان لباسه الدين، حتى حل المساء رجع الى بيته حزينا منكسر لايكلم احد، وقد رأى الرجل بانتظاره! وقال له الان اعلمك.
فقال العالم: لم صنعت بي هذا؟!
فقال الرجل: العلم مصداقه التوضع وان كبر النفس تجعل على القلب غشاوة، فحللت عنك قيود التقديس والتمجيد وازلت زبرج الابهة والسلطان وارجعتك لذاتك الانسان، تتبسط بالقول والعمل، مسعاك الزهد والورع وقصدك العلم والتقوى.
وقد صار العالم ملازما له ، حتى مماته فرثاه وترحم عليه،  وقد شاع علمه وزهده وصار منهجه طريقة، وتعاليمه سلوك يتعبه مريدوه، من اقواله ارتق بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر هو الذي ينميّ الازهار وليس الرعد.