22 ديسمبر، 2024 9:28 م

تحريم الغناء.. إباحة النص والهيمنة الفقهية

تحريم الغناء.. إباحة النص والهيمنة الفقهية

كثيرون‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬بشأن‭ ‬تحريم‭ ‬الغناء،‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬ألف‭ ‬سنة‭ ‬مضت،‭ ‬بيد‭ ‬أن‭ ‬كتاباتهم‭ ‬كانت‭ ‬تتسم‭ ‬بضعف‭ ‬الناحية‭ ‬الفنية‭ ‬والجمالية‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬افتقارها‭ ‬للمنهجية‭ ‬العلمية‭ ‬ولغة‭ ‬التحليل‭ ‬والتفكيك‭ ‬والنقد‭… ‬وفي‭ ‬الغالب‭ ‬الأعم‭ ‬كانت‭ ‬تتكئ‭ ‬على‭ ‬السرد‭ ‬الوثائقي‭ ‬الذي‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬الأحاديث‭ ‬والروايات‭ ‬التي‭ ‬رأسمالها‭ ‬العنعنة‭ ‬وصحة‭ ‬السند‭ ‬والقليل‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬تطرقت‭ ‬لموضوعة‭ ‬التحريم‭ ‬والإباحة‭ ‬بلغة‭ ‬علمية‭ ‬توفر‭ ‬القناعة‭ ‬للمتلقي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يرقى‭ ‬إليها‭ ‬الشك‭ ‬والدحض،‭ ‬كما‭ ‬جاءت‭ ‬بعض‭ ‬الأبحاث‭ ‬المتناثرة‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭ ‬ضمن‭ ‬كتب‭ ‬تتناول‭ ‬أبحاث‭ ‬أخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬الباحث‭ ‬عبد‭ ‬الجبار‭ ‬خضير‭ ‬عباس‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬(تحريم‭ ‬الغناء‭ ‬ــ‭ ‬إباحة‭ ‬النص‭ ‬والهيمنة‭ ‬الفقهية)‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬(دار‭ ‬نابو‭ ‬للنشر‭ ‬والتوزيع)‭. ‬قدم‭ ‬لنا‭ ‬كتاباً‭ ‬معبأً‭ ‬بكم‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الأدلة‭ ‬العلمية‭ ‬والتاريخية‭ ‬عبر‭ ‬لغة‭ ‬نقدية‭ ‬تنوعت‭ ‬قراءاتها‭ ‬التأويلية‭ ‬التداولية‭ ‬تارة‭ ‬بتوظيف‭ ‬المنهج‭ ‬التاريخي‭ ‬أو‭ ‬السياق‭ ‬الدلالي‭ ‬أو‭ ‬الطروحات‭ ‬اللسانية،‭ ‬وتشعر‭ ‬بالمؤثرات‭ ‬البنيوية‭ ‬أو‭ ‬السيميائة‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬قناعاته‭ ‬في‭ ‬ثيمات‭ ‬الكتاب‭…‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬أداة‭ ‬نقدية‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬يفكك‭ ‬النصوص‭ ‬ويسفه‭ ‬الطروحات‭ ‬التي‭ ‬تتناقض‭ ‬مع‭ ‬رؤاه‭ ‬مستثمراً‭ ‬ثقافته‭ ‬الموسوعية،‭ ‬عبر‭ ‬هذه‭ ‬المعطيات‭ ‬تعامل‭ ‬مع‭ ‬النص‭ ‬المركزي‭ ‬أو‭ ‬السردية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬(القرآن‭ ‬الكريم)‭ ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭…‬ربما‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يطرح‭ ‬سؤالاً‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬د‭. ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبو‭ ‬زيد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬(مفهوم‭ ‬النص‭..‬دراسة‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬القرآن)‭ ‬ص27‭ ‬«كيف‭ ‬يمكن‭ ‬تطبيق‭ ‬منهج‭ ‬تحليل‭ ‬النصوص‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬إلهي؟!‭ ‬وتطبيق‭ ‬مفاهيم‭ ‬البشر‭ ‬ومناهجهم‭ ‬على‭ ‬نص‭ ‬غير‭ ‬بشري‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬أصله‭ ‬ومصدره‭. ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الاعتراض‭ ‬إن‭ ‬صدر‭ ‬فإنما‭ ‬يصدر‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬النمط‭ ‬من‭ ‬الفكر‭ ‬التأملي‭ ‬المثالي‭ ‬الذي‭ ‬أشرنا‭ ‬إليه‭ ‬بوصف‭ ‬علمي‭ ‬باسم‭ ‬(الديالكتيك‭ ‬الهابط)‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬أصحاب‭ ‬هذا‭ ‬المنهج‭ ‬يتفقون‭ ‬معنا‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬سبحانه‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كلامه‭ ‬إلى‭ ‬البشر‭ ‬بلغتهم،‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظامهم‭ ‬الثقافي‭ ‬المركزي‭ ‬فإن‭ ‬المتاح‭ ‬الوحيد‭ ‬أمام‭ ‬الدرس‭ ‬العلمي‭ ‬هو‭ ‬درس‭ ‬(الكلام)‭ ‬الإلهي‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحليل‭ ‬معطياته‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬النظام‭ ‬الثقافي‭ ‬الذي‭ ‬تجلى‭ ‬خلاله‭. ‬ولذلك‭ ‬يكون‭ ‬منهج‭ ‬التحليل‭ ‬اللغوي‭ ‬هو‭ ‬المنهج‭ ‬الوحيد‭ ‬الإنساني‭ ‬الممكن‭ ‬لفهم‭ ‬الرسالة،‭ ‬ولفهم‭ ‬الإسلام‭ ‬من‭ ‬ثم»‭. ‬وهذا‭ ‬يتعلق‭ ‬بشأن‭ ‬الفصل‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭. ‬نجد‭ ‬هذه‭ ‬المقدمة‭ ‬ضرورية‭ ‬لتوضيح‭ ‬قراءتنا‭ ‬للكتاب‭. ‬

قبل‭ ‬الشروع‭ ‬بكتابه،‭ ‬قدم‭ ‬لنا‭ ‬الباحث‭ ‬عبد‭ ‬الجبار‭ ‬خضير‭ ‬تمهيداً‭ ‬تاريخياً‭ ‬وفكرياً‭ ‬بشأن‭ ‬موضوع‭ ‬الغناء‭ ‬وتضليل‭ ‬بعض‭ ‬الفقهاء‭ ‬باستعمال‭ ‬اللغة‭ ‬وإرادة‭ ‬المعرفة،‭ ‬كمدخل‭ ‬معرفي‭ ‬إلى‭ ‬بحثه‭ ‬مع‭ ‬إشارات‭ ‬تاريخية‭ ‬للفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬العراقية‭ ‬لعصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬التاريخ‭ ‬واثباتاً‭ ‬علمياً‭ ‬بأن‭ ‬الفنون‭ ‬وبالأخص‭ ‬الموسيقية‭ ‬حاجة‭ ‬إنسانية‭ ‬غريزية،‭ ‬ليتساءل‭ ‬بعدها‭ ‬بمرارة‭ ‬بعد‭ ‬توجيهه‭ ‬النقد‭ ‬لوارثي‭ ‬حضارة‭ ‬سومر،‭ ‬وكأنهم‭ ‬وحدهم‭ ‬المعنيون‭ ‬بتحريم‭ ‬الغناء،‭ ‬وليس‭ ‬المسلمون‭ ‬جميعاً!‭ ‬«أليس‭ ‬من‭ ‬العار‭ ‬أن‭ ‬نخضع‭ ‬لمقاسات‭ ‬مخلوقات‭ ‬تعيش‭ ‬على‭ ‬الحافات‭ ‬السائبة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬التحضر»؟!(ص7)،‭ ‬ليجيب‭ ‬بعدها‭ ‬بأن‭ ‬العملية‭ ‬هي‭ ‬صراع‭ ‬بين‭ ‬غايات‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬للتحريم،‭ ‬وحاجة‭ ‬الإنسان‭ ‬للفنون‭ ‬وضمنها‭ ‬الغناء‭. ‬«وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬التحريم‭ ‬لبعض‭ ‬رجال‭ ‬الدين،‭ ‬إلّا‭ ‬أنّ‭ ‬فنون‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬والنحت‭ ‬ظلت‭ ‬عصية‭ ‬عليهم‭ ‬بوصفها‭ ‬حاجة‭ ‬إنسانية‭ ‬تمليها‭ ‬طبيعة‭ ‬الإنسان‭ ‬التي‭ ‬جبل‭ ‬عليها»(ص8)‭.‬

في‭ ‬الفصل‭ ‬الأول:‭ ‬تناول‭ ‬الكاتب‭ ‬مفردة‭ ‬اللهو‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬لقمان)‭ ‬«ومن‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬يشتري‭ ‬لَهْوَ‭ ‬الحديث‭ ‬ليضِلَّ‭ ‬عن‭ ‬سبيل‭ ‬الله‭ …‬»‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬استند‭ ‬إليها‭ ‬الفريق‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬المفردة‭ ‬تعني‭ ‬الغناء‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬شهادة‭ ‬الصحابي‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬مسعود‭ ‬والذي‭ ‬أقسم‭ ‬ثلاثاً‭ ‬أنها‭ ‬تعني‭ ‬الغناء»‭ ‬الغناء،‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬إلا‭ ‬هو،‭ ‬يرددها‭ ‬ثلاث‭ ‬مراتٍ»‭ ‬وقسمه‭ ‬هذا‭ ‬ولثلاث‭ ‬مرات‭ ‬يوحي‭ ‬للمتلقي‭ ‬أن‭ ‬لديه‭ ‬موقف‭ ‬شخصي‭ ‬تجاه‭ ‬الغناء‭ ‬وإلا‭ ‬اكتفى‭ ‬بعرض‭ ‬رأيه‭ ‬أو‭ ‬القسم‭ ‬لمرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الأقل‭. ‬توسع‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬شرح‭ ‬مفهوم‭ ‬اللهو‭ ‬لغوياً‭ ‬واصطلاحياً‭ ‬مع‭ ‬بيان‭ ‬أراء‭ ‬المفسرين،‭ ‬وهذه‭ ‬تعد‭ ‬إضافة‭ ‬معلومات‭ ‬غنية‭ ‬للمتلقي‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والتفسير،‭ ‬اثبت‭ ‬المؤلف‭ ‬من‭ ‬السياق‭ ‬الدلالي‭ ‬لآيات‭ ‬أخرى‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬(اللهو)‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم،‭ ‬وفي‭ ‬سور‭ ‬عديدة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬الغناء،‭ ‬وأن‭ ‬مفردة‭ ‬الغناء‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬متداولة‭ ‬آنذاك،‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬للباحث‭ ‬الاستدلال‭ ‬بسورة‭ ‬التكاثر»‭ ‬بسم‭ ‬الله‭ ‬الرحمن‭ ‬الرحيم،‭ ‬الهاكم‭ ‬التكاثر،‭ ‬حتى‭ ‬زرتم‭ ‬المقابر‭…‬»‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬رأيه‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬الغناء‭ ‬وإنما‭ ‬مفردة‭ ‬التكاثر‭ ‬هنا‭ ‬تعني‭ ‬النكاح،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬النكاح‭ ‬لهواً‭ ‬فهو‭ ‬محرم‭ ‬أيضاً‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬استند‭ ‬إليه‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬تحريم‭ ‬الغناء،‭ ‬وإلا‭ ‬لماذا‭ ‬تارة‭ ‬حرام‭ ‬وأخرى‭ ‬حلال؟!‭ ‬الفصل‭ ‬الثاني:‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الفصول‭ ‬غنى‭ ‬في‭ ‬معلوماته‭ ‬فهو‭ ‬يعطينا‭ ‬صورة‭ ‬عن‭ ‬الأديان‭ ‬وتاريخ‭ ‬الغناء‭ ‬وصناعة‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬كالعود‭ ‬مثلاً،‭ ‬كما‭ ‬يسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬النضر‭ ‬بن‭ ‬الحارث،‭ ‬وهي‭ ‬شخصية‭ ‬مغيبة‭ ‬تاريخياً‭ ‬محصورة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬معتمة‭ ‬بسبب‭ ‬سجاله‭ ‬الفكري‭ ‬مع‭ ‬النبي‭ ‬محمد‭ ‬(ص‭ ‬)‭ ‬وتحديه‭ ‬له‭ ‬إعلامياً‭ ‬«‭ ‬اللهم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬محمد‭ ‬هو‭ ‬الحق‭ ‬من‭ ‬عندك‭ ‬-(والحق)‭ ‬نصب‭ ‬بخبر‭ ‬كان،‭ ‬وهو‭ ‬عماد‭ ‬وصلة–‭ ‬(فأمطر‭ ‬علينا‭ ‬حجارة‭ ‬من‭ ‬السماء)‭ ‬كما‭ ‬أمطرتها‭ ‬على‭ ‬قوم‭ ‬لوط،‭ ‬(أو‭ ‬ائتنا‭ ‬بعذاب‭ ‬أليم)‭ ‬أي:‭ ‬ببعض‭ ‬ما‭ ‬عذبت‭ ‬به‭ ‬الأمم‭….‬(1)»‭ ‬وإثبات‭ ‬أن‭ ‬الآية‭ ‬6‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬لقمان‭ ‬نزلت‭ ‬بحق‭ ‬النضر‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بالغناء،‭ ‬وكان‭ ‬محور‭ ‬البحث‭ ‬هو‭ ‬فك‭ ‬الاشتباك‭ ‬المقصود‭ ‬بين‭ ‬الآية‭ ‬6‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬لقمان‭ ‬آنفة‭ ‬الذكر‭ ‬وبين‭ ‬تحريم‭ ‬الغناء‭ ‬والتي‭ ‬ألصقت‭ ‬به‭ ‬قسراً‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بعض‭ ‬الفقهاء‭ ‬والمفسرين‭ ‬لغايات‭ ‬معينة،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يفسر‭ ‬سبب‭ ‬الإصرار‭ ‬على‭ ‬قتل‭ ‬النضر‭ ‬بن‭ ‬الحارث‭. ‬كما‭ ‬تطرق‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬الى‭ ‬ديانات‭ ‬كانت‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمن‭ ‬كالمانوية‭ ‬والزرادشتية‭ ‬وغيرها‭ ‬ونقاط‭ ‬التلاقي‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬الأديان‭ ‬السماوية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الطقوس‭ ‬والعبادات‭ ‬والقيم‭ ‬والعقائد،‭ ‬وإلصاق‭ ‬تهمة‭ ‬الزندقة‭ ‬بمعتنقي‭ ‬الديانة‭ ‬المانوية‭ ‬(وهو‭ ‬مفهوم‭ ‬فضفاض‭ ‬أخذ‭ ‬يتسع‭ ‬كثيراً‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬تهمة‭ ‬عقوبتها‭ ‬الموت)‭ ‬ومحاربتهم‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬اللاحقة‭. ‬في‭ ‬الفصل‭ ‬الثالث:‭ ‬بذل‭ ‬المؤلف‭ ‬جهداً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬مفردة‭ ‬(الغناء)‭ ‬ومفردات‭ ‬وردت‭ ‬في‭ ‬سور‭ ‬مثل‭ ‬(الاستفزاز،‭ ‬الزور،‭ ‬الصوت،‭ ‬اللغو،‭ ‬سامدون)‭ ‬والتي‭ ‬اقحمت‭ ‬تعسفاً‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المفردة‭ ‬مستعرضاً‭ ‬آراء‭ ‬المفسرين‭ ‬من‭ ‬مؤيد‭ ‬ومعارض،‭ ‬وبالنتيجة‭ ‬اثبات‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المفردات‭ ‬الواردة‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالغناء‭ ‬وهو‭ ‬جهد‭ ‬يستحق‭ ‬الثناء‭ ‬والإشادة‭.‬

في‭ ‬الفصل‭ ‬الرابع:‭ ‬يتناول‭ ‬الباحث‭ ‬موضوعة‭ ‬الأحاديث‭ ‬والروايات‭ ‬بشأن‭ ‬تحريم‭ ‬الغناء‭ ‬والإباحة،‭ ‬وكان‭ ‬مدخله‭ ‬الى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬تصنيف‭ ‬الأحاديث‭ ‬وأنواعها‭ ‬وطريقة‭ ‬تناقلها‭ ‬وصدقيتها‭ ‬وموثوقيتها‭ ‬والمقحمة‭ ‬منها‭ ‬لأغراض‭ ‬شتى،‭ ‬وسيرة‭ ‬أبرز‭ ‬رموزها‭ ‬والاختلاف‭ ‬عليها‭ ‬يقول‭ ‬الكاتب:‭ ‬تصنف‭ ‬الأحاديث‭ ‬إلى‭ ‬«متواتر،‭ ‬ومشهور،‭ ‬وصحيح،‭ ‬وحسن،‭ ‬وصالح،‭ ‬ومضعف‭ ‬وضعيف،‭ ‬ومسند،‭ ‬ومرفوع،‭ ‬وموقوف،‭ ‬وموصول،‭ ‬ومرسل،‭ ‬ومقطوع،‭ ‬ومنقطع،‭ ‬ومعضل،‭ ‬ومعنعن،‭ ‬ومؤنن،‭ ‬ومعلق،‭ ‬ومدلس،‭ ‬ومدرج،‭ ‬وعال،‭ ‬ونازل،‭ ‬ومسلسل،‭ ‬وغريب،‭ ‬وعزيز،‭ ‬ومعلل،‭ ‬وفرد،‭ ‬وشاذ،‭ ‬ومنكر،‭ ‬ومضطرب،‭ ‬وموضوع،‭ ‬ومقلوب،‭ ‬ومركب،‭ ‬ومنقلب،‭ ‬ومدبج،‭ ‬ومصحف،‭ ‬وناسخ،‭ ‬ومنسوخ،‭ ‬ومختلف»،‭ ‬وهذه‭ ‬الدوال‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬قراءات‭ ‬مختلفة،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬شاذ‭ ‬عند‭ ‬هذه‭ ‬الطائفة‭ ‬أو‭ ‬المدرسة‭ ‬الفكرية،‭ ‬فهو‭ ‬ليس‭ ‬كذلك‭ ‬عند‭ ‬مخالفيهم،‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬ضعيف‭ ‬برأي‭ ‬الطائفة‭ ‬(س)‭ ‬فهو‭ ‬قوي‭ ‬لدى‭ ‬الطائفة‭ ‬(ص)،‭ ‬وقِسْ‭ ‬على‭ ‬ذلك‭… ‬ويدعم‭ ‬رأيه‭ ‬أن‭ ‬الأحاديث‭ ‬غير‭ ‬مقدسة‭ ‬وخاضعة‭ ‬للنقد‭ ‬بقوله:‭ ‬«أما‭ ‬بشأن‭ ‬فنتازيا‭ ‬الحفظ‭ ‬عند‭ ‬البخاري‭ ‬فيذكر‭ ‬القسطلاني:‭ ‬وأما‭ ‬ذكاؤه‭ ‬وسعة‭ ‬حفظه‭ ‬وسيلان‭ ‬ذهنه‭ ‬فقيل‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يحفظ‭ ‬وهو‭ ‬صبي‭ ‬سبعين‭ ‬ألف‭ ‬حديث‭ ‬سرداً،‭ ‬وروي‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬فيحفظ‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬نظرة‭ ‬واحدة،‭ ‬وقال‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬حاتم‭ ‬وراق‭ ‬سمعت‭ ‬حاشد‭ ‬بن‭ ‬إسماعيل‭ ‬وآخر‭ ‬يقولان‭ ‬كان‭ ‬البخاري‭ ‬يختلف‭ ‬معنا‭ ‬إلى‭ ‬السماع‭ ‬وهو‭ ‬غلام‭ ‬فلا‭ ‬يكتب‭ ‬حتى‭ ‬أتى‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أيام،‭ ‬فكنّا‭ ‬نقول‭ ‬له،‭ ‬فقال:‭ ‬إنكما‭ ‬قد‭ ‬أكثرتما‭ ‬عليّ‭ ‬فاعرضا‭ ‬عليّ‭ ‬ما‭ ‬كتبتما‭ ‬فأخرجنا‭ ‬إليه‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬عندنا‭ ‬فزاد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬خمسة‭ ‬عشر‭ ‬ألف‭ ‬حديث‭ ‬فقرأها‭ ‬كلها‭ ‬عن‭ ‬ظهر‭ ‬قلبه‭ ‬حتى‭ ‬جعلنا‭ ‬نحكم‭ ‬كتبنا‭ ‬من‭ ‬حفظه»‭!‬

‭ ‬خضوع‭ ‬هذه‭ ‬الأحاديث‭ ‬والسرديات‭ ‬للنقد‭ ‬والتحليل‭ ‬بما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬تطور‭ ‬الوعي‭ ‬والعقل‭ ‬البشري‭ ‬المعاصر‭ ‬مما‭ ‬جعلها‭ ‬عرضة‭ ‬للانتقاد‭ ‬والتشكيك،‭ ‬وتضاربت‭ ‬آراء‭ ‬الرواة‭ ‬والمفسرين‭ ‬بين‭ ‬التحريم‭ ‬والإباحة‭ ‬وصلت‭ ‬حد‭ ‬الاستخفاف‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بعض‭ ‬منهم‭ ‬كما‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬حديث»‭ ‬الغزالي:‭ ‬ينبغي‭ ‬تحريم‭ ‬الضحك‭ ‬وعدم‭ ‬البكاء»!‭ ‬كونه‭ ‬من‭ ‬المحبين‭ ‬للغناء‭ ‬يقول‭ ‬أيضاً‭ ‬«‭ ‬مَن‭ ‬لم‭ ‬يحركه‭ ‬الربيع‭ ‬وأزهاره،‭ ‬والعود‭ ‬وأوتاره،‭ ‬فهو‭ ‬فاسد‭ ‬المزاج‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬علاج»‭. ‬أهم‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬اهتمامي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬شخصيتان‭ ‬أخذ‭ ‬عنهم‭ ‬الحديث‭ ‬في‭ ‬تحريم‭ ‬الغناء‭ ‬هما:‭ ‬الأول،‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬مسعود‭ ‬وهو‭ ‬صحابي‭ ‬جليل‭ ‬كان‭ ‬معدماً‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسلامية‭ ‬«كانت‭ ‬امرأته‭ ‬ريطة‭ ‬تنفق‭ ‬عليّه‭ ‬وعلى‭ ‬ولده‭ ‬من‭ ‬ثمرة‭ ‬صنعتها،‭ ‬إذ‭ ‬قالت:‭ ‬والله‭ ‬لقد‭ ‬شغلتني‭ ‬أنت‭ ‬وولدك‭ ‬عن‭ ‬الصدقة‭ ‬فما‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتصدق‭ ‬معكم،‭ ‬فقال:‭ ‬ما‭ ‬أحب‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أجر‭ ‬أن‭ ‬تفعلي،‭ ‬فسأل‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬–‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬–‭ ‬هو‭ ‬وهي‭ ‬فقالت‭ ‬يا‭ ‬رسول‭ ‬الله:‭ ‬إني‭ ‬امرأة‭ ‬ولي‭ ‬صنعة‭ ‬فأبيع‭ ‬منها‭ ‬وليس‭ ‬لي‭ ‬ولا‭ ‬لزوجي‭ ‬ولا‭ ‬لولدي‭ ‬شيء،‭ ‬وشغلوني‭ ‬فلا‭ ‬أتصدق،‭ ‬فهل‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬النفقة‭ ‬عليهم‭ ‬من‭ ‬أجر؟‭ ‬فقال:‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أجر‭ ‬ما‭ ‬أنفقت‭ ‬عليهم‭ ‬فأنفقي‭ ‬عليهم»،‭ ‬وعند‭ ‬مماته‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أثرياء‭ ‬المسلمين»!‭ ‬وكان‭ ‬ابن‭ ‬مسعود‭ ‬قد‭ ‬اتخذ‭ ‬لنفسه‭ ‬ضيعة‭ ‬(براذان)‭ ‬فمات‭ ‬عن‭ ‬تسعين‭ ‬ألف‭ ‬مثقال‭ ‬سوى‭ ‬رقيق‭ ‬وعروض‭ ‬وماشية‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه،‭ ‬وأن‭ ‬ابن‭ ‬مسعود‭ ‬أوصى‭ ‬أن‭ ‬يُكفن‭ ‬في‭ ‬حُلية‭ ‬بمئتي‭ ‬درهم»‭ ‬ولا‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬ضرراً‭ ‬على‭ ‬المسلمين‭ ‬الغناء‭ ‬أم‭ ‬كنز‭ ‬الأموال‭ ‬والاثراء‭ ‬على‭ ‬حسابهم،‭ ‬ويمكن‭ ‬مقارنة‭ ‬ذلك‭ ‬بما‭ ‬تركه‭ ‬الخليفة‭ ‬الثاني‭ ‬والرابع‭ ‬من‭ ‬أموال!

الثاني:‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬عباس،‭ ‬وهو‭ ‬صحابي‭ ‬جليل‭ ‬أخذت‭ ‬عنه‭ ‬أحاديث‭ ‬كثيرة‭ ‬موضع‭ ‬شك‭ ‬وجدل‭ ‬بسبب‭ ‬الظروف‭ ‬المحيطة‭ ‬بتاريخ‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬«إذ‭ ‬إن‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬العباسي‭ ‬أقحمت‭ ‬اسم‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬بن‭ ‬عباس‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬التاريخي‭ ‬والديني‭ ‬بوصفه‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬الرموز‭ ‬الدينية،‭ ‬فضخمت‭ ‬شخصيته‭ ‬وعظمته،‭ ‬ولمعته‭… ‬إذ‭ ‬أضفت‭ ‬عليه‭ ‬القداسة‭ ‬ووصفته‭ ‬بحبر‭ ‬الأمة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬بعد‭ ‬ثمانية‭ ‬أعوام‭ ‬من‭ ‬تبليغ‭ ‬النبي‭ ‬بالدعوة»‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬حدثاً‭ ‬والمنطق‭ ‬العقلي‭ ‬يشكك‭ ‬بعدم‭ ‬امكانية‭ ‬الرجوع‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬حيث‭ ‬فاته‭ ‬الكثير‭ ‬منه‭ ‬كما‭ ‬هناك‭ ‬الكثير‭ ‬منهم‭ ‬أكبر‭ ‬منه‭ ‬سناً‭ ‬ومرافقة‭ ‬للنبي‭ ‬محمد(ص)‭ ‬لم‭ ‬يؤخذ‭ ‬عنهم‭ ‬الحديث،‭ ‬عموماً‭ ‬هذا‭ ‬الفصل‭ ‬كان‭ ‬غنياً‭ ‬في‭ ‬المعلومات‭ ‬المتناقضة‭ ‬الجميلة‭ ‬وآراء‭ ‬الفقهاء‭ ‬القيمة‭.‬

في‭ ‬الفصل‭ ‬الخامس:‭ ‬تلحظ‭ ‬جهده‭ ‬المضني،‭ ‬وتنوع‭ ‬أدواته‭ ‬بالبحث‭ ‬عن‭ ‬أصل‭ ‬مفردة‭ ‬الغناء‭ ‬والمغنية‭.. ‬وجذورها‭ ‬التاريخية‭ ‬وتسلسلها،‭ ‬وتطور‭ ‬التسميات‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي‭ ‬وأخيرا‭ ‬تبلورها‭ ‬لتصبح‭ ‬أغنية‭ ‬وغناء‭ ‬ومغنية‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬وتطور‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬اللاحق‭ ‬موضحاً‭ ‬ومعللاً‭ ‬ذلك‭ ‬عبر‭ ‬تحوير‭ ‬القصائد‭ ‬بما‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬اللحن»‭ ‬أن‭ ‬كلمة‭ ‬الأغنية،‭ ‬أو‭ ‬الغناء،‭ ‬أو‭ ‬المغنية،‭ ‬أو‭ ‬المغني‭ ‬واشتقاقاتها‭ ‬غير‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬والمدينة‭ ‬بالجاهلية‭ ‬أو‭ ‬إبان‭ ‬الدعوة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬إذ‭ ‬إنّ‭ ‬هذه‭ ‬المصطلحات‭ ‬لم‭ ‬تتبلور‭ ‬بعد،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬الحداء‭ ‬والنصب‭… ‬لكون‭ ‬اشتراطاتها‭ ‬لم‭ ‬تتوفر‭ ‬بعد‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬ومكة‭. ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬احتاج‭ ‬لإرهاصات‭ ‬عديدة‭ ‬أخذت‭ ‬كامل‭ ‬مدياتها‭ ‬بعد‭ ‬الفتح‭ ‬وتغير‭ ‬الحياة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬نتيجة‭ ‬تدفق‭ ‬الأموال‭ ‬الهائلة‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬(المفتوحة)‭ ‬ثم‭ ‬قدوم‭ ‬المغنيين‭ ‬والقيان‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬ومكة‭… ‬فانتعش‭ ‬الغناء‭ ‬حتى‭ ‬طغى‭ ‬الشعر‭ ‬الغنائي‭ ‬على‭ ‬الشعر‭ ‬التقليدي‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬العهد‭ ‬الأموي،‭ ‬ونضج‭ ‬مفهوم‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬العباسي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تطور‭ ‬الألحان‭ ‬الغنائية‭ ‬وتعدد‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬وانتشار‭ ‬كبار‭ ‬المغنين‭ ‬والمغنيات‭ ‬مما‭ ‬دفع‭ ‬بعلماء‭ ‬وفلاسفة‭ ‬العصر‭ ‬العباسي‭ ‬نحو‭ ‬إنتاج‭ ‬الكتب‭ ‬النظرية‭ ‬في‭ ‬الموسيقى‭ ‬والغناء،‭ ‬وبدأ‭ ‬مفهوم‭ ‬الغناء‭ ‬واشتقاقاته‭ ‬يطرد‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬متداولاً‭ ‬من‭ ‬مصطلحات‭ ‬قديمة،‭ ‬وما‭ ‬أورده‭ ‬أبو‭ ‬فرج‭ ‬الأصبهاني‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬(الأغاني)‭ ‬يوضح‭ ‬ذلك،‭ ‬ودليلنا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الغناء‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬العهد‭ ‬العباسي‭ ‬وما‭ ‬ظهر‭ ‬من‭ ‬إضفاء‭ ‬كلمة‭ ‬غناء‭ ‬واشتقاقاتها‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬ضيق‭ ‬ومحدود‭ ‬جداً‭ ‬كما‭ ‬الذي‭ ‬نجده‭ ‬مبثوثاً‭ ‬في‭ ‬شعر‭ ‬الأعشى‭ ‬أو‭ ‬أمرئ‭ ‬القيس‭ ‬وغيرهم‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الهجري‭ ‬الثاني،‭ ‬هو‭ ‬مقحم‭ ‬على‭ ‬شعرهم،‭ ‬فهم‭ ‬يستعملون‭ ‬مفهوم‭ ‬السماع‭ ‬واشتقاقاته،‭ ‬وبدلاً‭ ‬عن‭ ‬المغنية‭ ‬يستعملون‭ ‬المسمعة‭ ‬والمدجنة،‭ ‬والصادحة،‭ ‬والصناجة،‭ ‬والمزمرة‭ ‬في‭ ‬شعرهم،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬لتلك‭ ‬المفردات‭ ‬واستبدالها‭ ‬بالأغنية‭ ‬والغناء‭ ‬جاء‭ ‬بسبب‭ ‬استعمالها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬عامة‭ ‬الناس‭ ‬لكونها‭ ‬مفهومة‭ ‬أو‭ ‬مستساغة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المتلقي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثاني‭ ‬للهجرة،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬اختلاف‭ ‬البيئة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬والحضارية،‭ ‬لذ‭ ‬اضطر‭ ‬المدون‭ ‬للتاريخ،‭ ‬الكتابة‭ ‬بلغة‭ ‬لحظته‭ ‬التاريخية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬كانت‭ ‬القيان‭ ‬تغيّر‭ ‬في‭ ‬كلمات‭ ‬الشاعر‭ ‬بما‭ ‬يتوافق‭ ‬أو‭ ‬ينسجم‭ ‬مع‭ ‬الإيقاع‭ ‬للأغنية،‭ ‬وموقف‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬واضح‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إذ‭ ‬قال:‭ ‬إن‭ ‬شعر‭ ‬الأعشى‭ ‬الرقيق‭ ‬منحول‭. ‬ويمكننا‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬من‭ ‬أخطر‭ ‬الأدوار‭ ‬وأكثرها‭ ‬شيوعاً‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬القصائد‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬الرواة‭ ‬وتدخلهم‭ ‬السافر‭ ‬في‭ ‬تشذيب‭ ‬القصائد‭ ‬وتحويرها‭ ‬بما‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬النحو‭ ‬ومقاييس‭ ‬التذوق‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬كتابتها»‭.‬

الفصل‭ ‬السادس:‭ ‬هو‭ ‬استراحة‭ ‬أولى‭ ‬للقارئ‭ ‬لما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬مواضيع‭ ‬سلسة‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬المقدسة‭ ‬وأثناء‭ ‬الحج‭ ‬ومكانة‭ ‬المغني‭ ‬والمغنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬«أخبرني‭ ‬الحسين‭ ‬بن‭ ‬يحي‭ ‬عن‭ ‬حماد‭ ‬عن‭ ‬أبيه‭ ‬قال‭ ‬حدّثني‭ ‬بعض‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬قال:‭ ‬حدّثني‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬ابن‭ ‬عائشة‭ ‬حاجاً‭ ‬وقد‭ ‬دعاه‭ ‬فتيةٌ‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬هاشم‭ ‬فأجابهم،‭ ‬قال:‭ ‬وكنت‭ ‬فيهم،‭ ‬فلما‭ ‬دخلنا‭ ‬جعلوا‭ ‬صدر‭ ‬المجلس‭ ‬لابن‭ ‬عائشة‭.‬

وهذا‭ ‬الموقف‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مكانة‭ ‬المغني‭ ‬المرموقة‭ ‬في‭ ‬التراتبية‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬تأثير‭ ‬الموارد‭ ‬التي‭ ‬حصل‭ ‬عليها‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والمكي‭ ‬بالبنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الذي‭ ‬انعكس‭ ‬على‭ ‬بناه‭ ‬الفوقية‭ ‬من‭ ‬تغيير‭ ‬في‭ ‬القيم‭ ‬والأعراف‭ ‬وتأسيس‭ ‬أخلاقيات‭ ‬جديدة،‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬التحولات‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وخلق‭ ‬صيغ‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬تتناسب‭ ‬مع‭ ‬المتغيرات‭ ‬الاقتصادية،‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬والثقافية‭…‬»‭ ‬والكرنفال‭ ‬المرافق‭ ‬لجميلة‭ ‬المغنية‭ ‬عند‭ ‬حجها‭ ‬وموقف‭ ‬شخصيات‭ ‬إسلامية‭ ‬وعلمية‭ ‬مرموقة‭ ‬من‭ ‬الغناء‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬صدر‭ ‬الإسلام‭ ‬وما‭ ‬تلاه‭ ‬من‭ ‬عصور‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭.‬

الفصل‭ ‬السابع:‭ ‬بمثابة‭ ‬استراحة‭ ‬ثانية‭ ‬بما‭ ‬يحتويه‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬وقصص‭ ‬طريفة‭ ‬أبرزها‭ ‬قصة‭ ‬الإمام‭ ‬أبي‭ ‬حنيفة‭ ‬مع‭ ‬جاره‭ ‬السكير‭ ‬وتقبله‭ ‬له‭ ‬رغم‭ ‬سكره،‭ ‬وقصة‭ ‬نصر‭ ‬ابن‭ ‬حجاج‭ ‬الذي‭ ‬عاقبه‭ ‬الخليفة‭ ‬العادل‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬بالنفي‭ ‬لذنب‭ ‬ارتكبه‭ ‬غيره‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬به‭. ‬طبعاً‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬مرتبطة‭ ‬بالغناء‭.‬

في‭ ‬النهاية‭ ‬توصلت‭ ‬الى‭ ‬استنتاج‭ ‬إن‭ ‬إباحة‭ ‬الغناء‭ ‬لا‭ ‬يتوافق‭ ‬مع‭ ‬تطلعات‭ ‬ومصالح‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينة،‭ ‬كما‭ ‬يزاحمهم‭ ‬على‭ ‬مساحة‭ ‬الزمن‭ ‬المتاح‭ ‬للاستحواذ‭ ‬على‭ ‬الجمهور‭. ‬كذلك‭ ‬يعتمد‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬الحاكم‭ ‬مع‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية‭ ‬ومدى‭ ‬قوتهما‭ ‬وضعفهما‭ ‬وتشددهما‭ ‬وتسامحهما‭ ‬واتفاقهما‭ ‬واختلافهما،‭ ‬وأحياناً‭ ‬سلطة‭ ‬الحاكم‭ ‬تبيح‭ ‬وتحجم‭ ‬المؤسسة‭ ‬الدينية،‭ ‬وعندما‭ ‬يكون‭ ‬الحاكم‭ ‬ضعيفاً‭ ‬تتشدد‭ ‬المؤسسة‭ ‬بالتحريم‭ ‬خدمة‭ ‬لمصالحها،‭ ‬فما‭ ‬مسموح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ممنوع‭ ‬في‭ ‬السعودية،‭ ‬لكن‭ ‬ثمة‭ ‬حقيقة‭ ‬ساطعة‭ ‬أن‭ ‬الغناء‭ ‬والموسيقى‭ ‬والفنون‭ ‬حاجة‭ ‬إنسانية،‭ ‬فليس‭ ‬عبثاً‭ ‬يمنح‭ ‬الله‭ ‬جلت‭ ‬قدرته‭ ‬موهبة‭ ‬الغناء‭ ‬لهذا‭ ‬والرسم‭ ‬لذاك،‭ ‬كما‭ ‬بين‭ ‬الكتاب‭ ‬هناك‭ ‬50‭ ‬مليار‭ ‬خلية‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬البشري‭ ‬تختص‭ ‬بالموسيقى!‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنه‭ ‬جهد‭ ‬مميز‭ ‬ومتفرد‭ ‬يستحق‭ ‬القراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬عنه‭.‬