18 ديسمبر، 2024 3:57 م

تحرير الفاو.. ذاكرة الجيش سور للوطن

تحرير الفاو.. ذاكرة الجيش سور للوطن

ألا يشبه إخراج داعش من الموصل إخراج الإيرانيين من أرضنا في الفاو؟ وألا يشبه اندحار داعش في الموصل اندحار مقاتلي قاسم سليماني وميليشياته وطردهم من أرض العراق.

استعادة ذكرى معركة تحرير شبه جزيرة الفاو أو الفاو مدينة الحِناء كما يسميها العراقيون، ليست لمجرد كونها تاريخا لتضحيات كبيرة بذلت، أو لأنها محفورة في ذاكرتنا الشخصية كأفراد تعايشنا مع تلك الأحداث عن بعد أو قرب، إنما للتذكير بها كشاهد للحاضر والمستقبل أيضا.

عنوان المعركة “رمضان مبارك” وهي كلمة استبشار نتداولها في التهاني والتبريكات بقدوم شهر رمضان، وكانت كذلك لأنها وقعت في 17 أبريل 1988/ 1 رمضان 1408هـ، وكما يبدو إن توقيت المعركة لم يكن فقط لأغراض إستراتيجية أو تكتيكية.

ما دعاني للكتابة عن تحرير شبه جزيرة الفاو، يعود لأكثر من سبب لكن أهمها إسقاطات الحاضر وبأثر رجعي للنيل من أثر تلك المعركة، وهي محاولات أهدافها باتت معلومة وفجة من قبل دعاة المشروع الإيراني وإعلامهم أو من بعض الذين يتقصدون الانتقاص من الأمة العربية ودولها التي وقفت مواقف مشرفة مع العراق في حربه الشريفة والعادلة، بل وأقول المقدسة نتيجة لمهازل الاحتلال والدور النازي والفاشي الذي لعبته الطغمة الحاكمة في إيران وأدواتها في تدمير الشعب العراقي والانتقام من هزيمتها المنكرة في حرب الثمان سنوات وانهيارها الكلي أمام ضربات الجيش العراقي، ابتداء من معركة الفاو الفاصلة.

تتشابك تحليلات استذكار المعركة هذا العام بالذات من أجل خلط الأوراق. الجيش العراقي نفتخر به وببطولاته في التاريخ الحديث للأمة العربية، ودفاعه عن العراق ضد أعنف مخططات تصدير الثورة الإيرانية بقيادة الولي الفقيه الخميني حيث لم ينتظر طويلا للتعبير عن أهدافه في غزو العراق بشعارات مذهبية، وجدت طريقها إلى العراق قولا وفعلا بعد الاستئثار بالسلطة مع مجيء المحتل وبداية العملية السياسية الكارثية بحل الجيش وترك العراق نهبا لأهواء ملالي طهران وأحزابهم الطائفية.

ومن باب كيل المديح لبطولات الجيش العراقي في الفاو، استغل بعضهم الموقف الإيراني من دولة عربية شقيقة ليلقي تهمة احتلال الفاو في فبراير 1986 على عاتق هذه الدولة لأنها طلبت أو قدمت نصيحة أو معلومة لتحريك قطعات الجيش العراقي المتواجدة في الفاو لمواجهة التحشيد الإيراني في قاطع آخر.

ربما تكون المعلومات المتبادلة بين الأشقاء العرب جزءا من الدفاع العربي المشترك، لكن قيادة عسكرية عراقية كالتي نعرفها وبخبرتها لا نعتقد أنها تنجر خلف رأي أو نصيحة مجتزأة، ولا تخضع إلى تقييم الخبرات وإدارة العمليات وفي مرحلة مواجهات مصيرية ومعارك متواصلة ضارية بكل المعنى.

إيران ومشروعها وتمددها ومواقفها، في أيامنا هذه، تجد لها أصداء تتماهى مع نشاطها السياسي والدعائي المرتبِك في علاقاته مع أميركا، خاصة بعد المتغيرات على الساحة العراقية والعربية والضربة الأميركية على مطار الشعيرات، وما سببته من تداعيات أغضبت المحور الإيراني الروسي.

قبل أيام صدرت تصريحات لضباط من جهاز مكافحة الإرهاب عن ضربة محدودة أقدم عليها تنظيم داعش بالغاز الكيميائي في حي الآبار، أحد أحياء الموصل الغربية، وهي إشارة في صالح النظام السوري وتأتي في إطار التوقعات وأيضا في إطار التهديدات الاستخباراتية الروسية باستراق معلومات عن ضربات كيميائية في سوريا وفي دمشق تحديدا؛ السؤال لماذا لم تستطع الكشف عن كيميائي خان شيخون رغم أن قاعدة حميميم فيها من أجهزة الرصد والكشف والمخابرات ما يتجاوز الحدود السورية وبالتجريب أدت أنشطتها بكل جدارة؟

لا مقارنة بين معركة الموصل ومعركة تحرير الفاو، فالجيش كان جيش العراق خالصا دون شائبة ودون مندسين فرضهم الاحتلال من القوى الميليشاوية التي كانت تحارب ضد العراقيين مع عدو وطنهم الأم

إذن إما هي مقدمة، وإما لتبليغ عناصر مشبوهة في معركة الموصل لتجاوز خطوط الحذر واعتماد الضربة الكيميائية المشار إليها في نطاق واسع، وداعش دائما في الخدمة كما أثبتت الأيام في الاستخدام المزدوج لواجباته في التدمير وارتكاب الجرائم والانتهاكات وأيضا في تبرير الحرب العالمية على الإرهاب التي أودت بالمدن المطلوبة للثأر والانتقام الطائفي القومي الإيراني، وكذلك الإبقاء على الحاكم السوري بتدعيم المواقف الروسية وسيناريوهاتها المكشوفة.

الشيء الآخر تكرار التأكيد على استخدام الجيش العراقي للسلاح الكيميائي في معركة رمضان وتحرير الفاو لتبرير هزيمة الجيش الإيراني وانسحابه المذل من الأرض العراقية. شبه جزيرة الفاو التي أعطى فيها العراق أكثر من 52 ألفا من خيرة شبابه على مدى سنتين؛ هذه الطريقة في التشويه المتعمد تُلقي أسئلة كثيرة على واقع معركة تحرير الموصل من إرهاب تنظيم داعش.

أولها تأخير إنجاز المهمة في الأحياء المتبقية بما يعطي انطباعا عن مواجهة صعبة بما يسمح باستمرار الحصار على المدنيين الذين يعانون من الجوع والرعب والأمراض، كذريعة لحمايتهم للتأني في التحرير مع إعادة الاستهداف وتغيير قواعد الاشتباك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والقصف بالطيران الحربي، وإلقاء الشبهات، حتى وإن كانت مؤكدة عن استخدام داعش لضربة كيميائية محدودة.

لكن التعتيم على المعلومات ونوع الكيميائي المستخدم والتحقيقات يجعلنا في شك من أهداف داعش القادمة أو غير داعش، ونعني تحديدا الفصائل الطائفية وهي جميعا تحت إشارة المرشد خامنئي ووصاياه وبقيادة مباشرة من تلامذة قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الذي افتقدناه في المناطق الساخنة بالعراق، ربما لانشغاله في حماة السورية مع الفصائل المتهمة بتعاونها مع النظام السوري في تدبير الضـربة الكيميائية لإدخال الرعب في صفوف المعارضة المسلحة، أو أن واجباته في العراق باتت محدودة لاختـلال موازين القوى وتفضيلهم الاستجابة للتعاطي المرن والخفي مع الإدارة الأميركية دون إثارة غضبها في العراق على الأقل.

هناك غمزات من الدور المصري في معركة تحرير الفاو، وذلك فخر للعرب وللعراق، فالأرض تتكلم عربي، وتجارب الأمة العربية ومنها مصر وتجاوز جيشها البطل خط بارليف في حرب أكتوبر عام 1973 أكيد دروس مضافة في الإعداد للانتصار المبارك للعراق والعرب، لأن الفاو كانت أول مدينة عربية تتحرر بالقوة العسكرية وزخم القتال من المحتل، لكن ماذا عن الأرض العربية التي تتكلم روسي وإيراني من خلال الألسنة الحادة التي تتجاوز على السوريين والعراقيين وأهل اليمن وغيرهم.

لمعركة الفاو طَعَم النهضة العربية والتلاحم العربي في الملمات لدفع الأطماع التوسعية، وهي مدرسة في فن الصمود والقتال والتدريب والإدارة، بُذِلت فيها جهود لتوفير مناخ وبيئة ومسرح مشابه لموقع العمليات في الفاو، وكان ذلك بالجهد الهندسي الشاق وزراعة أو تثبيت جذوع النخيل ووضع المـوانع وتأثيث ظروف الأرض مع تدريب شاق استمر لأشهر ليلا ونهارا، أثمر في ما بعد عن تحرير شبه جزيرة الفاو، وإعطاء درس عملي للقوات الإيرانية عن جدية العراقيين في ملاحقة قواطعهم بعمليات مماثلة أجبرت الخميني للقبول بوقف إطلاق النار ونهاية الحرب، أي بعد 4 أشهر فقط من معركة تحرير الفاو.

لا مقارنة بين معركة الموصل ومعركة تحرير الفاو، فالجيش كان جيش العراق خالصا دون شائبة ودون مندسين فرضهم الاحتلال من القوى الميليشاوية التي كانت تحارب ضد العراقيين مع عدو وطنهم الأم، والدماء التي سُفكت في أرض ممالح الفاو الشاقة كانت بلا محاصصة في المذاهب والقوميات والأديان، لم يكن في الفاو سوى العراق والعراقيين مقابل عدوهم على الحدود.

لكن ألا يشبه إخراج داعش من الموصل إخراج الإيرانيين من أرضنا في الفاو؟ وألا يشبه اندحار داعش في الموصل اندحار مقاتلي قاسم سليماني وميليشياته وطردهم من أرض العراق؟ أيا كانت العِبَر في التذكير بمعركة الفاو وانتصار الجيش العراقي فيها، إلا أننا اليوم نضعها أمام العرب كإستراتيجية، أمام أمتنا لنبشرهم بيقين وإيمـان أننا قـادرون على النصر على أعـدائنا وهزيمة إرهاب المشروع الإيراني وطرده من أرضنا، كما فعل العراقيون وكما سيفعلون.
نقلا عن العرب