كنت قد واعدت القراء الأحبة بالحديث عن علاقة الفقهاء بفريضة الخمس واشرت في اوانها الى ان الكثير من الفقهاء المتقدمين واستنادا الى بعض المرويات عن الائمة (ع) اعتبروا الخمس مباح لشيعتهم في عصر الغيبة!! ، وقبل البدء بالكلام عن هذه الفريضة اود ان انوه الى ان كل التشريعات المالية في الاسلام سواء كانت فرائض او مندوبات دورها الأساسي هو القضاء على حالة الفقر و إيجاد نوع من التوازن الاقتصادي بين الناس لانه ( ما جاع فقير الا بما متع به غني ) و كي لَا تكونَ الثروات دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء ، كما يذكر القران الكريم في إحدى آياته {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ } و كتاب الله ينطق في إحدى نصوصه المباركة محذرا المؤمنين من ان هنالك طبقة من الناس يأكلون أموال الناس بالباطل و بأسم الدين يكنزون الذهب والفضة، ويبخلون في إنفاقها على مستحقيها قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } والايه صريحة في تحذير المؤمنين من رجال الدين المزيفين الذين يصدون الناس عن طريق الله بقبيح افعالهم ، وكما وصفهم السيد المسيح (ع) بانهم قطاع الطرق الى الله، ولا ينبغي ان يكون فهمنا قاصرا ونطبق الاية على الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ من اهل الكتاب فقط ، بل ان القران حي لن يمت وانه يجري على أخرنا كما يجري على أولنا ، وانه يجري كما يجري الليل والنهار، كما يقول صادق اهل البيت (ع)، والحديث الوارد عن النبي (ص) يقول: ( لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة ، لاتخطؤن طريقهم ولا يخطئ شبر بشبر وذراع بذراع وباع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه)، ما اريد ان اذكره هنا قبل اثارة سؤال في غاية الحساسية هو نبذة مختصرة سريعة عن سيرة اهل البيت (ع) المالية وتعاملهم مع الناس ولا سيما الطبقات الفقيرة منهم .
لا يخفى على احد كرم وجود وسخاء الائمة الاطهار من ال البيت (ع) فعلي (ع) كان اسخى الناس كما يقول الشعبي ، وعرف عنه ايام استلامه للسلطة السياسية انه كان يكنس بيت المال بعد توزيعه على مستحقيه بعدالة وقسط ، ويقول يا صفراء يا بيضاء غري غيري، ويذكر من سيرته مع المال انه قسم أموال إحدى غزواته بين المهاجرين والانصار وبقية اصحابه خمسمائة خمسمائة ، واخذ خمسمائة درهم كواحد منهم ، فجاء انسان لم يحضر الواقعة فقال : يا امير المؤمنين كنت شاهدا معك بقلبي وان غاب عنك جسمي فاعطني من الفئ شيئاً ، فدفع الذي أخذه لنفسه ولم يصب من الفئ شيئا، ومما يروى عنه انه اعتق من ماله وكده الف مملوك، وهذا ولده الحسن (ع) قاسم الله ماله ثلاث مرات، وخرج من ماله لله تعالى مرتين، وسمع رجلا يسأل ربه ان يرزقه عشرة الاف درهم ، فانصرف الى منزله، وبعث بها اليه. ويروى عن كرم الحسين (ع) ان أعرابي وفد المدينة فسأل عن أكرم الناس بها ، فدل على الحسين (ع) فدخل المسجد فوجده مصليا فوقف بازائه وأنشأ :
لم يخب الآن من رجاك ** ومن حرك من دون بابك الحلقه
أنت جواد وأنت معتمد أبوك** قد كان قاتل الفسقه
لولا الذي كان من أوائلكم **كانت علينا الجحيم منطبقه
قال : فسلم الحسين (ع) وقال : يا قنبر هل بقي من مال الحجاز شئ ؟ قال : نعم أربعة آلاف دينار ، فقال : هاتها قد جاء من هو أحق بها منا ، ثم نزع برديه ولف الدنانير فيها وأخرج يده من شق الباب حياء من الاعرابي وأنشأ :
خذها فاني إليك معتذر ** واعلم بأني عليك ذو شفقه
لو كان في سيرنا الغداة عصا ** أمست سمانا عليك مندفقه
لكن ريب الزمان ذو غير ** والكف مني قليلة النفقه
فأخذها الاعرابي وبكا فقال له : لعلك استقللت ما أعطيناك ، قال : لا ، ولكن كيف يأكل التراب جودك.
بل ان كل ائمة الطاهرين (ع) كانوا يتفننون في إيصال المال الى الفقراء والمحتاجين فهذا الامام السجاد (ع) يشتري العبيد ويعتقهم في سبيل الله، ويحمل الاموال والطعام وكل ما يحتاج اليه على ظهره لتوزيعه ليلا على الفقراء والمحتاجين ، ولا يعلم به احد حتى يرتحل عن دار الدنيا ، ويحدثنا الامام الصادق (ع) عن كرم ابيه الباقر (ع) قائلا : ( دخلت على ابي يوما وهو يتصدق على فقراء اهل المدينة بثمانية الاف دينار ، واعتق اهل بيت بلغوا احد عشر مملوكاً ) هذا مشهد واحد من سيرة باقر العلم (ع) المالية . ويحدثنا هشام بن سالم عن كرم الامام الصادق (ع) قائلا كان ابو عبد الله اذا اعتم الليل اخذ جراباً – كيس- فيه الخبز ولحم ودراهم ، فحمله على عنقه ثم ذهب الى اهل الحاجة من اهل المدينة فقسمه فيهم وهم لا يعرفونه ، فلما مضى (ع) فقدوا ذلك ، فعلموا انه كان الامام الصادق (ع)، وكان يخصص اموالا لحل النزاع بين أتباعه ، وقد كان يعطي حتى الى من اراد قتله كما جاء في سيرته . وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن الامام موسى بن جعفر(ع) : ( كان سخيا كريما ، وكان يبلغه عن الرجل انه يؤذيه فيبعث اليه بصرة فيها الف دينار .. وكان يصر الصرر ثلاثمائة دينار ، وأربعمائة دينار ، ومائتي الف دينار ثم يقسمها بالمدينة ، وكان مثل صرر موسى بن جعفر اذا جاءت الانسان الصرة فقد استغنى . وهذا الامام الرضا (ع) كان كثير المعروف والصدقة واكثر ما يكون ذلك في الليالي المظلمة ، وكان يقول (ع) : ( المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجة ) ، وكان يفرق ماله كله يوم عرفة ، وكان يعطي من سأله ومن لم يسأله ، ومما يذكر في كرم وإحسان الامام الجواد (ع) ان رجلا اتاه فقال له : اعطني على قدر مروءتك، فقال (ع) : لا يسعني . فقال : على قدري . قال (ع) : أما ذا فنعم ، يا غلام أعطه مائتي دينار – علما ان قيمة الدرهم الواحد في ذلك الزمان كانت تعادل على اقل تقدير حوالي مئة دولار في زماننا – ، وكان يبعث الى المدينة في كل عام باكثر من الف الف درهم. وعن كرم الامام الهادي (ع) يقول اسحاق الجلاب كما في الكافي : اشتريت لابي الحسن غنما كثيرة ، فدعاني فأدخلني من اصطبل داره الى موضع واسع لا اعرفه ، فجعلت افرق تلك الغنم فيما امرني به. وهذا الامام العسكري (ع) يرسل الى ابي هاشم الجعفري مائة دينار وكتب اليه : ان كانت لك حاجه فلا تستحي ولا تحتشم واطلبها فانك على ما تحب ان شاء الله . وخاتمهم صاحب راية العدل الذي قال عنه رسول الله (ص) : ( يحثي المال حثياً، ولا يعده عدا ) ، وقال عنه الامام الباقر (ع) : ( يعطيكم في السنة عطائين ، ويرزقكم في الشهر رزقين ) ، وقال (ع) : ( يعطي شيئا لم يعطه احد من كان قبله ) ..
هذه هي سيرتهم العملية مع المال والحقوق التي ترد اليهم ، اما سؤالنا الذي سنؤجله الى مقال اخر حول مصير فريضة الخمس بعد عصر الغيبة ولمن تسلم هذه الحقوق بعدهم ، وهل للفقيه أي يستولي على اموال الخمس بعنوان انه نائب الامام ، او الاعرف بتوزيعها على مستحقيها ! كل ذلك سنتناوله مستندين الى أقوال الأئمة (ع) الصحيحة وكلمات بعض الفقهاء الاعلام ان شاء الله تعالى .