ملاحظة اشير إليها قبل البدء بالمقال ان المقصود بالشيعة في العنوان أعلاه هو ليس المعنى العقائدي الذي أوردناه سابقا في بعض المقالات ، وانما المعنى العرفي السائد اليوم ..
ان المتأمل في الكون والأفاق وما خلق الله من كائنات يدرك ان السماء مع الدقة والنظــــــــام { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } وكانت احدى استدلالات علماء الكلام على ( التوحيد ) هو النظام الكوني الدقيق وما يعرف عندهم ببرهان النظم فقالوا ان دقة وانتظام ما في الكون من كائنات وارض وسماء مرتبة، متناسقة ومتفاعلة فيما بينها ومنظمة تنظيما عجيبا مدهشا يدل على ان الموجد لهذا الكون خالقا عظيما ، قادرا عالما ، خلقة وأخرجه من العدم إلى الوجود، وقد سطر هذا المعنى القران الكريم في احدى اياته قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } كما ان اغلب التشريعات الإسلامية والعبادات تدعونا للنظام فمثلا الصلاة لماذا حددها الله في وقت معين، وباتجاه معين، وبكيفية معينة ، وصلاة الجماعة تقودنا للكثير من المفاهيم التنظيمية الحياتية من المكان ( المصلى ) الى ترتيب الصفوف المنتظمة وتكاتف المصلين جنبا الى جنب كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . وكذلك تشريع الصوم لماذا فرضه الله في شهر رمضان ولم يفرضه في شهر اخر يختاره المسلم متى شاء من أوقات السنة ، وكذلك الخمس والزكاة لماذا حدد لها مقدار معين ووقت محدد ، وكذلك الاعياد في اوقات معينة من السنة، وكذلك {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} وكذلك الإمامة لماذا جعل الله إماما معين شخصه الرسول (ص) لامته بعد وفاته، ولماذا لم يجعل الله تعالى إمامين يقودان الناس لماذا القائد الالهي دائما واحد حتى مع وجود امام اخر يكون الثاني تابعاً للأول ، وفي سيرة الرسول (ص) خير أسوة في تنظيم اصحابة ولا سيما في المعارك والحروب، وقد استطاع بواسطة تنظيمه الدقيق لصفوف المقاتلين ان يتغلب على اقوى الجيوش عدة وعدد ، وكذلك الامام علي (ع) والإمامين الحسنين (ع) ، كما ان الحساب في الآخرة يكون في غاية الدقة والنظام { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .
ومع كل هذه الاشارات الربانية والتوجيهات الاسلامية التي تريد منا ان ننتظم في كافة ممارساتنا الاجتماعية والفردية نجد مظاهر التشتت والفوضى عارمة بين ابناء التشيع، فوضى عجيبة ليس لها اول ولا اخر ، فوضى تسللت الى كل شؤوننا الدينية وأمورنا الدنيوية حتى عمت جميع مفاصل الحياة وكأن الله سبحانه أوصانا بها وحثنا عليها، ولم تسلم الحوزة الدينية التقليدية منها بل عاشت واعتاشت عليها ، ووظفتها في صالحها، ورفعت شعار في مرحلة من مراحلها ( النظام في اللانظام ) فشملتها حمه الفوضى فلا مدارس نظامية ولا مناهج تعليمة تتماشى مع روح العصر ولا التزام للطلبة، ولا شهادات تبين مستويات رجالها وبقي الامر عائما خاضع للاهواء والشهرة التي قد تشترى بالمال او التهديد او الوعيد ما الى ذلك .. وعندما اراد بعض الأعلام كالشيخ محمد رضا المظفر وإخوانه في نهاية الخمسينات ان يطوروا واقع الحوزة المتردي وينشئوا مدارس وكليات إسلامية معتبرة ومعترف بها انطلقت الاصوات المبحوحة ضد هذه المشاريع الاصلاحية، والتهمة دائما جاهزة وهي تقليد الغرب الكافر ورددوا شعارهم البائس ( النظام في اللانظام )، ولكن المظفر (ره) أصر على هذا الصرح العلمي وضحى بمستقبلة الحوزوي وترك امور المرجعية للقاعدين، وقد بانت ثمرات هذه المؤسسة العلمية بعد حين، حيث تخرج منها نخبة طيبة من العلماء المشتغلين كالشهيدين الصدرين والشيخ عبد الهادي الفضلي والدكتور احمد الوائلي والشيخ الاصفي والسيد الحيدري والكاتب محمود البستاني والأستاذ السيد عدنان البكاء وعشرات من الأعلام …
وكذلك المدارس النظامية عندما ظهرت لأول مره في العراق وبعض الدول العربية في بدايات القرن العشرين حرم العلماء الانضمام اليها بحجة انها مدارس وضعها الاستعمار، ولم يعطوا البديل بان ينشئوا مدارس نظامية يشرفوا عليها بانفسهم ، فسادت الأمية بين ابناء الشيعة الا العوائل التي تمردت على فتاوى الفقهاء ، ولا ننسى طبعا المبادرات الفردية التي قام بها بعض العلماء كالسيد محسن الأمين والسيد عبد الحسين شرف الدين بإنشاء مدارس أهلية لأبناء الشيعة بجهدهم الشخصي .
وما نعيشه اليوم على الصعيد الديني من انتشار الأفكار وهجوم الاراء وتنوع الاحزاب وتعدد المرجعيات وكثرة المنابر الاعلامية والقنوات الفضائية، وان كان فيه شئ ايجابي وهو الاطلاع والاستماع لمختلف الاراء والاقوال الا انه وبسبب الفوضى وعدم وجود الضوابط والمعايير صار جزء من المشكلة وعقد الوضع الديني اكثر مما هو معقد، فراحت التناقضات تجول في العقل الشيعي فالامام علي (ع) الملتزم الشجاع يصفه بعض الخطباء المخرفين بالخوف في عدة مواقف !!، وينسبون للائمة (ع) السب والشتائم لمن خالفهم!! وقول علي (ع) يصدح ( لا تكونوا سبابين ) والحديث النبوي الشهير يقول ( ليس المؤمن بالطعان و لا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ ) وبعض الخطباء وانصاف العلماء يرفع والاخر يكبس فهذا يكفر وهذا يثير الدفائن وما ذلك الا لتتشتت الاصوات وتمزيق الصفوف التي امر الله ان توحد { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ، كما ان هذه الفوضى اوجدت الكثير من المدعين للمهدوية او النيابة الخاصة كاحمد بن الحسن وحيدر المنشداوي وضياء الكرعاوي وفاضل المرسومي واخرون .. ولو كانت المؤسسة الدينية في النجف مؤسسة منتظمة وتوزع فيها الادوار بشكل صحيح على اساس الاهلية والتخصص لما خرج من خرج من الادعياء وضلل الالاف من الناس.
وما نشاهده اليوم على الساحة العراقية من ظاهرة انقسام الاحزاب على نفسها وانشقاق التيارات فيما بينها ظاهرة طبيعية في ظل هذه الفوضى فكلا يغني على ليلاه ويريد جر النار إلى قرصه، وأتذكر كلمة قالها السيد روح الله (قده) يذكر فيها ان (124) ألف نبي لو وجدوا في مكان واحد لما اختلفوا لأنهم جميعا يقولون ( هو هو ) ولا يرون لانفسهم شئ يذكر مقابل عظمة الباري اما الطبقة العلمائية فكلا يدعوا لشخصه ومرجعيته وكم من محاولة لرص الصفوف فشلت بسبب هذه الأنانيات الموجودة في الحوزات العلمية وأتذكر وأنا اكتب هذه السطور إن الفقيه المبدع السيد هادي المدرسي دعى لتكوين رابطة علماء العراق من اجل توحيد الخطاب ولملمة الاختلافات بين المتصدين وفعلا وافقت بعض الواجهات الدينية وحضروا أول مؤتمر في بغداد ولكن الصنم الأكبر لم يحضر لا هو ولا من يمثله ولم يعتذر عن عدم حضوره وعندها قالها السيد المدرسي بتحسر ( كيف يحضر أو يرسل مندوب عنه وهو اله لا يقاس به احد )، وفشل المشروع الوحدوي ، ومحاولة الشيخ الخالصي فشلت أيضا في إنشاء جماعة العلماء في النجف من اجل وحدة العلماء و وحدة الامة، لان المشاريع المنظمة تخيف بعض المرجعيات لأنها خطر مستقبلي يبدد ثرواتهم ويقضي على رمزيتهم الوهمية وقداستهم المزيفة..
ان الأمة العراقية الشيعية للاسف الشديد امة اتكالية تنتظر من ينظم صفوفها ويوحد كلمتها من المرجعيات الدينية وليست امة مبادرة من تلقاء نفسها، امة تحتاج إلى من يأخذ بأيديها الى طريق الهدى من قبل العلماء وهذه تربية سار عليها أجيال من الناس حتى ان السيد جمال الدين الأفغاني عندما أراد الإصلاح بين أبناء الشيعة لم يتمكن لان العقلية الشيعية تنظر الى المرجع ماذا يقول والقائد ماذا يوجه اما المبادرة والابتكار والاعتماد على الذات فغير وارد في قاموسهم للاسف ، فارسل الافغاني (ره) برسالة الى المرجع في وقته المجدد الشيرازي(ره) صاحب فتوى التنباك يخبره بهذه الحقيقة ويدعوه إلى الأخذ بزمام المبادرة وقيادة الأمة الإسلامية، وفعلا استجاب المجدد لهذه الرسالة وأصدر فتواه الشهيرة بحرمة التنباك ، مما سبب بخسائر كبيرة للشركات الأجنبية المستعمرة في إيران .
وفي الانتفاضة الشعبانية في العراق عام 1991 تجلت هذه الحقيقة بوضوح وكان كان احد أسباب الفشل الذي رافقها هو فقدانها لعنصرين مهمين النظام والقيادة الواعية، فقد عشنا هذه التجربة وشاهدنا الناس تنتظر الاوامر من المرجع المزعوم والقائد المستورد من خارج الحدود، فلا المرجع افتى للناس بالتحرك لاسقاط النظام الاجرامي واخذ زمام المبادرة، ولا القائد عاد الى ارض الوطن وقاد الانتفاضة، والنتيجة هي خراب وقتل ومطاردة وتعسف وجيش من المسحوقين والمعاقين والمعتقلين …
فالتشيع يحيا وينتعش وتدب فيه الحياة اذا اوجد الله له علماء ربانيين واعين يأخذون بزمام المبادرة ، وينتكس ويضمر اذا فرغت الساحة من العلماء الابرار ، ويمكن ان يكون البديل في حالة غياب القيادة الواعية هو اعتماد الناس على أنفسهم وملئ الفراغ الديني والاجتماعي والسياسي بانشاء المؤسسات الدينية والثقافية والانسانية وإحياء مراكز العلم ودور العبادة بما أراده الله والاستفادة القصوى من الخبرات والمهارات والامكانات التي يمتلكها ابناء هذه الامة المرحومة عملا بوصية الامام علي (ع) : ( عليكم بتقوى الله ونظم أمركم ) والله تعالى اذا وجد فينا هذا الاصرار والعزيمة والرغبة بالتغيير سوف يشملنا برحماته الخاصة { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .
[email protected]