20 مايو، 2024 4:07 م
Search
Close this search box.

تحرير الإنسان الشيعي – 10 / الانغلاق الديني والإرهاب الفكري في المؤسسة الدينية

Facebook
Twitter
LinkedIn

لقد ذم القران الكريم والسنة الصحيحة التعصب والتحجر والانغلاق الديني على الآراء والأفكار السالفة في نصوص عديدة منها قوله تعالى { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} وقوله جل ذكره { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } وفي المقابل مدح المتفكرين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه كما يصرح القران الكريم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وقوله جل ثنائه { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } لان التفكر والتأمل والانفتاح والاستماع مثمر يفتح أفاق الإنسان على الله تعالى وعلى الحياة ، فالتفكر نافذة معرفية قل من يفتحها من الناس ويطل من خلالها على رحابه الدين والدنيا لذا قيل في الحديث ( تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة ) ، أما التحجر والتعصب والانغلاق الفكري فهو عقيم ، يحبس الإنسان بين قضبان جهلة وضلال وساوسه ، ويبقه في مكانه بل يرجعه إلى الوراء القهقري، وبالتالي يعيش العزلة عن تطور العالم، فالانفتاح والتفكر والاستماع إلى الآراء المختلفة مثمر وولود، أما التعصب والانغلاق فهو عقيم، وما أروع اسلوب القران الكريم التربوي في قوله تعالى : { إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } في تبين حالة الأخذ والعطاء في الحوار والتعامل مع الأخر في الكثير من المواقف والمواقع ، وما أجمل ما روي عنهم (ع) : ( اضرب الرأي بالرأي يخرج الصواب ) و ( من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ ) فالكثير من آرائنا وأفكارنا ومعتقداتنا ظنية وحتى ما نعتقد صحتها فهي ممكن أن تكون خطأ، وجميل ما قيل ( إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) فكلنا خطاءون ، وكثير من علماءنا وفلاسفتنا كانوا في الشطر الأول من مسيرتهم العلمية يحملون أفكار ومعتقدات خالفوها واستغفروا الله منها في أواخر حياتهم كالملا صدرا الشيرازي وغيره.
وهذا المرض العضال ( التعصب والانغلاق ) تسبب بظهور بعض الفرق الشاذة كالخوارج الذين جمدوا على حرفية بعض النصوص القرآنية، ولم يتدبروا في النصوص الأخرى من الآيات ولم يستنطقوا القران العظيم، والتيار السلفي التكفيري اليوم هم وريث هذا التشدد والتعصب في جانب مدرسة الخلفاء، وعندنا في الجانب الشيعي تيار يشبهه من هذه الناحية وان كان يختلف معه في نواحي اخر إلا انه يشاكله في الكثير من ملامحه وابرز صفه لهؤلاء السلفية (( الشيعة )) هي التعصب على ما يحملوه من تراث ديني وفكري وأراء واجتهادات موروثة،
ولا تستطيع اي شخصية علمية او مؤسسة دينية مهما كان ثقلها اذا تعرضت لهذا التراث المزيف ان تكون بمعزل عن المتحجرين من اهل العمائم وأشياعهم وأتباعهم فكل من يفكر ان يدخل يد التحقيق او التهذيب في التراث الديني يقابل بالصدود والتشويه والتهويل وتوضع في وجهة مئات العراقيل للتضييق على مشروعه التجديدي، وحبسه داخل نفسه، ويموت وفي قلبه الكثير من الحقائق والنكات العلمية والمشاريع الاصلاحية التي لم يستطع ان يتفوه بها، ويذكر المرحوم الوائلي في احد لقاءاته الحملة العنيفة التي تعرضت لها كلية الوعظ والارشاد التي أسسها فضيلته مع أستاذه المظفر (ره) حيث واجهها جماعة السيد الاصفهاني بالتهم والتشكيك والاعتداء على مقرها في النجف ولم تهدأ العاصفة الا عندما تخلى الشيخين عن المشروع وحرمت الحوزة الناس من فضل هذه المؤسسة التي كان الهدف منها تخريج خطباء بمستوى المسؤولية يحملون مشعل الهداية للناس كافة ولاتباع اهل البيت (ع) خاصة .
ان الحقيقة في نظر الكثير من هؤلاء المتشنجين هي الشئ المألوف والمعتاد في محيطهم ، اما الشئ الغريب وما يفوق التصور وان كان صوابا فهو خطأ في نظرهم مئة بالمئة بل هو انحراف عن الجادة ، واذا أرادوا احترام قائلة يقولون هذا رأي شاذ لا يعتنى به، وكم من عالم ومفكر اندثر علمه وضاع جهده بسبب هذا السلطة الدينية المستبدة التي تكتم الأنفاس الطاهرة والأصوات الحرة التي تنادي بالإصلاح الديني وإحياء الفكر وتهذيب الشريعة وتنقية التراث، وتوعية الناس، وكأن القران الكريم يتحدث عن هؤلاء في قوله تعالى { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } ويتقربون بكل ذلك إلى الله ، يحدثنا السيد الخميني (ره) عن بعض آلامه مع هؤلاء المتعصبين قائلا : ( ان المرارة التي تجرعها ابوكم الشيخ من امثال هؤلاء المتحجرين كانت اضعافا مضاعفة من الصعاب والضغوط التي جاءت من غيرهم ) وتعرض لهذه المرارة ايضا السيد الشهيد محمد باقر الصدر(ره)  واتهموه بالخيانة والعمالة لأمريكا !! يذكر الشيخ النعماني في كتابه سنوات المحنة ص107 : (  يبعث احدهم اليه _ للشهيد الصدر _  برسالة اننا نعلم ان الحجز مسرحية دبرها لك البعثيون وأنت تمثل دور البطل فيها ، والغرض منها إعطاءك حجما كبيرا في أوساط الأمة، إننا نعلم انك عميل لأمريكا ولن تنفعك هذه المسرحية، فيقبض الشهيد الصدر على لحيته وقد سالت دمعة ساخنة من عينه وهو يقول : لقد شابت هذه من اجل الإسلام أفؤتهم بالعمالة لامريكا وانا في هذا الموقع؟!! ) وكذلك اتهم تلميذه الشهيد الصدر الثاني وكلنا عاش الأحداث في العراق عندما كانوا يسمونه بـ ( فقيه السلطة ) في حين كان الوحيد من العلماء الذي انتقد السلطة بهذا الشكل الصريح وواجه ازلامها وسط صمت رهيب من قبل رجال الحوزة المتحجرين، وقد ذكر الشيخ عباس الزيدي في كتابه (السفير الخامس) والشيخ قاسم الكعبي في كتابه (الثورة البيضاء) العشرات من هؤلاء المتحجرين من الحوزة النجفية والقمية ، ودورهم في عرقلة مشروعة التغييري، ومنهم على سبيل المثال السيد صالح الحيدري رئيس الوقف الشيعي الحالي الذي كانت له مواقف مخزية من نهضة الشهيد (ره) وتوسل بالأمن الصدامي من اجل ابعاد الصدرين من جامع الخلاني الذي أراد الشهيد الصدر ان يقيم فيه جمعة نظرا لموقعة وتأثيره في العاصمة بغداد، ولم ينجوا منهم العالم المجدد السيد فضل الله عندما اتهموه بالانحراف عن الدين والضلال في العقيدة ، وقد حرم بعض الفقهاء المنغلقين قراءة مؤلفاته وسماع محاضراته بحجة انه(ره) ينكر مظلومية الزهراء(ع) ولديه أراء مخالفة للمشهور، دون التثبت والتبين الذي ذكره القران الكريم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } وكأن المشهور مقدس لا يجوز مناقشته او الاقتراب منه، فراحوا يجزئون كلامه ويحرفوه عن معناه وينشرون كلماته مقطعه في المواقع الالكترونية والمؤسسات التابعة لهم، مع ردودهم التقليدية البائسة على أراء سماحته التقدمية، وخدعوا الرأي العام الشيعي وصار فضل الله المنحرف الضال المضل في حين انه بلغ أقصى درجات النظر والاجتهاد في كافة المعارف الإسلامية .
وهؤلاء المنغلقين هم حجر العثرة في طريق الاصلاح منذ ان وجدت البشرية الى ان يرث الله الارض ومن عليها فنبي الاسلام (ص) عانى من هؤلاء المتدينين الذين كانوا يعبدون كل شئ الا الله تعالى وقد واجهوه بانواع التهم عندما طالبهم بكلمة التوحيد!! فقالوا فيه مجنون وساحر في حين ان الجنون والسحر لا يجتمعان في شخص واحد لان الساحر شخصية ذكية ومؤثرة في الآخرين في حين المجنون فاقد لعقله !! وبقية الائمة (ع) عانوا من جهل محيطهم الديني فنجد في الروايات الواردة عنهم تضارب واختلاف فكل شخص يجيبونه على قدر فهمة ومستواه ولكنهم وضحوا لذوي الالباب واصحاب العقول المنفتحة معالم الدين الاصيل ، ومن هنا على الفقهاء ان يراعوا تلك الروايات الصادرة عن أهل البيت (ع) ومن كان السائل وما هو مدى عقله وفهمه ووعيه لحل بعض التناقضات في اجاوبتهم (ع) للاسئلة التي كانت توجه لهم .
وهنالك ابيات شعر تنسب للامام السجاد (ع) يبين الارهاب الفكري الذي تعيشه الطبقة المتدينة يقول فيها :
اني لا كتم من علمي جواهره ** كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا ابو الحسن ** الى الحسين واوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو ابوح به ** لقيل لي انت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي ** يرون أقبح ما يأتونه حسنا
وهنالك روايات تتحدث عن عصر الظهور تذكر الدور السلبي لهؤلاء المتعصبين في مواجهة المشروع العالمي للامام المنتظر (عج) تقول الرواية كما في معجم أحاديث الإمام المهدي ج3ص307 ( ويسير _ المهدي (ع) _ إلى الكوفة فيخرج منها ستة عشر ألفا من البترية شاكين في السلاح، قراء القرآن، فقهاء في الدين، قد قرحوا جباههم وسمروا ساماتهم وعمهم النفاق، وكلهم يقولون: يا بن فاطمة ارجع لا حاجة لنا فيك فيضع السيف فيهم على ظهر النجف) .
إن السيرة العملية لاهل البيت (ع) كانت خلاف ذلك تماما فالأئمة كانوا محور الحركة الفكرية في عصورهم وهذا الامام الصادق (ع) كان أستاذا لائمة الفرق الاسلامية، ومنفتح على علماء عصره في مختلف جوانب المعرفة، ومحاورا لاكابر علماء عصره ممن ليس على منهجه الاعتقادي بالحكمة والموعظة الحسنة كما علمه القران الكريم، يذكر المفضل بن عمر في مقدمة كتابه التوحيد ان احد الزنادقة ويعرف بابن أبي العوجاء انكر بعض المفاهيم التي تتعلق في التوحيد امامي فلم أملك نفسي غضبا و غيظا و حنقا فقلت يا عدو الله أ لحدت في دين الله و أنكرت الباري جل قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم و صورك في أتم صورة …. فقال يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلمناك فإن ثبتت لك حجة تبعناك و إن لم تكن منهم فلا كلام لك و إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا و لا بمثل دليلك تجادل فينا و لقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت فما أفحش في خطابنا و لا تعدى في جوابنا و إنه الحليم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق و لا طيش و لا نزق يسمع كلامنا و يصغى إلينا و يتعرف حجتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا و ظنننا إنا قطعناه دحض حجتنا بكلام يسير و خطاب قصير يلزمنا به الحجة و يقطع العذر و لا نستطيع لجوابه ردا فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه .
ان الائمة (ع) لم يدعوا اتباعهم للتطرف والتخشب والتعصب الذي نلمسه اليوم من دعاة التشيع بل كانت دعوتهم دائما لترطيب الاجواء والتودد الى الناس، يقول النبي (ص) : ( من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثة الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية ) ، وعن الامام الصادق (ع): ( من تعصب عصبه الله بعصابة من نار ) ، واحد مصاديق العصبية المقصودة في هذه النصوص هي التعصب للاراء التي لا يعلم صدقها من كذبها.. واذا كان ولا بد من تعصب فلنتعصب للمبادئ والمثل لا  للأفكار والاجتهادات الظنية، يقول الامام علي (ع) : ( ان كنتم لا محاله متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق واغاثة الملهوف ) ، وفي رواية اخرى : ( فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال، ومحاسن الامور .. فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للكبر ، والاخذ بالفضل ، والكف عن البغي، والإعظام للقتل والانصاف للخلق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الارض.. ) وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تجاربه ص229 : ( اذا كان لابد لنا من التعصب فلنتعصب للدين ، للاسلام ، لا لمذهب من مذاهبه ، على ان يكون معنى تعصبنا للاسلام هو الحرص على تعاليمه ، واحترام شعائره ، والدعوة الية بالحكمة والموعظة الحسنة ، نتعصب للاسلام ببث روح الالفة والتأخي بين المسلمين جميعاً ) ويقول في موضع اخر (لايسمع لمتعصب كلام ، لان التعصب يعمي صاحبه حتى عن نفسه وواقعه ) ويذكر في كتابه فلسفات إسلامية ص784 ( التعصب عامل هام في اثارة الحروب ، واراقة الدماء ، انه وباء قاتل ).. وللحديث عن التعصب والمتعصبين تتمه اذا شاء الله سبحانه.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب