22 ديسمبر، 2024 11:58 م

تحدي البلاغة (18) إشارات بلاغية خفية (التقييد بالحرف الجار)

تحدي البلاغة (18) إشارات بلاغية خفية (التقييد بالحرف الجار)

الله لاينسى و لاتخفى عليه صغيرة ولايخطا سبحانه ، ولأن من دلائل كماله جل في علاه دقة بلاغة القران في التصوير وجمع الكلم في عقده وبيانه التام الذي بلغ منتهاه ، فان القرآن العظيم نفسه أثر من آثار الله المشيرة الى وجوده و وحدانيته بديع السموات والارض ،
فالتحدي البلاغي في كل آية بل كل حرف في القرآن يصرخ بعظمة منشئه ومنزله فلا حرف في غير موضعه من الجملة ولا موضع في جملة ينقص حرفا ، ولو اجتمع كتاب الارض وفصحاؤها وأدباؤها وبلغاؤها لم يستطيعوا ان يكتبوا مثله بدقته او مثل سورة من مثله ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍۢ ظَهِيرًا﴾ وهذا تحد خطير يجازف بالمصدرية الالهية للقران لو لم يكن فعلا قد تم تفصيل آياته من الله وانما نزل به الوحي لفظا ومعنى ، ولذا فان من مصاديق ذلك انه عند تدبر القران وفحص لغته جملة منضودة وكلمة مفرودة وحروفا مبنية ومحددة ومرصودة ، سترى ان كنت من خبراء اللغة او متذوقيها ومميزيها ان الله ما وضع حرفا في موضع الا كانت الحاجة اليه خطيرة الا أنه لو كان بشرا هو الذي كتب تلك الجملة لأغفلها او غفل عنها ،
وان قلت فكيف لاحظها اهل اللغة الان وهم من وصفتهم انهم كانوا سيغفلونها اقول لك انما عرفنا ذلك وعرفوه و ادركناه و ادركوه بعد ان رايناه مكتوبا في القرآن فاستغربنا اولا ثم تدبرنا فعلمنا بعدها انه كان ضرورة لم ننتبه اليها لو كنا الكاتبين نحن بني البشر.
من امثلة ذلك لاحصره اذ لاحصر له في مقال قصير ولا حتى في كتاب بسيط ،، يقول تعالى في حد وقت الصيام ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ﴾ كثير منا يحفظ او يخطأ في الحفظ فيقول مستشهدا (حتى يتبين الخيط الابيض من الخيط الاسود،،) دون “لكم” ، لانك لاشعوريا تحس بتمام الجملة التي قلتها ولا تحس بالحاجة ل “لكم” ، فنحن ناكل ونشرب حتى يتبين خيط الفجر الابيض فينادي بنا المؤذن فنمسك. ولكن حين تعود لتراجع –ان كنت تحاول حفظ القران- تجد قبل مرحلة التثبيت كما يسميها الحفاظ والمحفظون انك قفزت “لكم” ، فتعود وتثبتها وهكذا ، بيد انك لو توقفت و تاملت او تدبرت في ضرورة وغاية موقع شبه الجملة القصيرة هذه من الجار والمجرور ووجودها بلاغيا وعلميا لما نسيتها بعد ذلك ابدا ،
فالله تعالى قيد جملة تبين الفجر ب “لكم” ، لان الفجر والغسق والليل وهذه الاحوال من الكون انما تظهر لنا و نشاهدها نحن كبشر في اوقاتها وتغيراتها او تختفي عنا، اما الله خالقها ومكونها سبحانه فهي ظاهرة لديه دائما -وقبل اعمال القوانين الفيزيائية والفلكية فيها بإذنه ومشيئته- وبعدها ،
لذلك قال يتبين “لكم” وليس يتبين مطلقا فهو ايضا متبين في الاصل في موقع اخر وكلها متبينة عند الله ،لكن التبين لنا هو الحد ، ولكل فئة مخاطبة في اي موضع من الارض اذ سيتبين لهم في توقيتهم وموقعهم مختلفا عن غيرهم. ولو كان ألف هذه الجملة بشر لغفل ان يقول (لكم) او ربما لنسي ، فان كنت انت تغفل عن مثل هذا او تنسى فالله تعالى لايغغل ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾.
وفي قوله تعالى من سورة البقرة ايضا ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِى﴾ وردت “منهم” في موضع لو كانت في غير القرأن لأغفلت ، فعبارة (لاتكون للناس عليكم حجة الا الذين ظلموا فلا تخشوهم ،،،) لا تنبئ عن خلل في نظر كاتب من الناس ، الا ان الله تعالى قيد بها مجموعة ظالمة بعينها من الناس وهم هنا اهل الكتاب حول تحديد القبلة الجديدة فقد جادلوا وسيجادلون ويلمزون في تحولها واختيار وجهة المسجد الحرام
اذ سبق هذا قوله تعالى في نفس الآية ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَه﴾ ولان فريقا منهم كان يغمز ذلك في باطن قوله فقد استحق إتمام البلاغة ورود “منهم” بعد “ظلموا” سيما وان آية سابقة تقول ﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَٰهُمُ ٱلْكِتَٰبَ يَعْرِفُونَهُۥ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ ۖ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ففريق (منهم) يكتمون الحق ، فسواء كان المقصود في “منهم” التي بعد “ظلموا” قسما من الناس عموما او من اهل الكتاب خصوصا فقد كان احكام ورودها في هذا الموضع لاغنى عنه. فلو كانت في كتاب آخر لأغفلت ولكن ﴿تِلْكَ آيَات الْكِتَاب الْحَكِيم﴾
وانظر مثلها في آية بعدها تماما لكن في معرض آخر يقول الحق تعالى ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ فالعبارة (كما ارسلنا فيكم رسولا يتلو عليكم ،،،) دون “منكم” لم تكن لتثير حفيظة كاتب آخر او تتبعه ، لكن احسن القائلين قيد ب “منكم” لضرورتها في السياق ، فالكلام موجه الان للذين آمنوا ولأن قبله كان ذكر تشكيك اهل الكتاب المساكنين في المدينة وتضليل فريق منهم وانكارهم ان ياتي رسول من غير بني قومهم ، فكان من البلاغة تقييد وصف الرسول ب “منكم” قومه عليه الصلاة والسلام والذين آمنوا به سيما وان الاية التي تتبعها ستكمل مخاطبتهم ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ ومن هذا تتبين لنا ضرورة ورود شبه الجملة المقصودة “منكم” التي قد يخطئها كاتب من البشر ولكنه ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
اما الحرف المنفرد “إلى” في قوله تعالى من سورة المائدة ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ فان القول (تعالوا الى ما انزل الله والرسول،،،) -دون “الى” الفاصلة-كان سيعطف الرسول على اسم الجلالة فاعل “أنزل” وسيجد اهل الاغراض منفذا ان الرسول ينزل ايات مع الله حاشا لله ان يكون له شريك فيما يصنع ، ومن هنا جاءت ضرورة فصل الفاعل المتبوع بحرف عطف عن الاسم المعطوف عليه من بعده ب “الى” لتكون بمعنى (تعالوا الى ما انزل الله وتعالوا الى الرسول) ، وكذلك من وظائفها ان تكسر التساوي فالمجيء المدعوون اليه اولا لايكون الى الله بل الى “ما انزل الله” وهو الكتاب العظيم والى الرسول الذي يحمله ويتلوه عليكم وانزل عليه. فهو ليس كموضع العطف التام دون فصل و دون فاعل “انزل” كما في مثال قوله تعالى ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾
ونرى تقييد القرآن العظيم في بلاغته الساحرة باستخدام الحرف ومجروره في آيات يصعب حصرها منها مثال آخر في سورة النساء في معرض احكام الطلاق ورود شبه الجملة “من بعد” في قوله تعالى ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ﴾ وجاء هذا تقييدا لما بعد الطلقة الثالثة وسر ذلك التقييد ما ورد من الآية التي سبقت في اول تبيان الحكم اذ قال عز من قائل ﴿ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ،،،،﴾ثم استمرت الآية الكريمة في تبيان امور متعلقة بالطلقتين من عدم حلية اخذ الازواج لما اعطوه من مهور ونحوها ، وكذلك جواز افتداء المراة نفسها طلبا للطلاق للمتمسك ان خاف الاولياء ان لايقيما حدود الله ومالى ذلك الى نهاية الاية وتبيان الحدود في ذلك ، فما ان عاد الحديث الى التطليق الثالث في مبتدا الآية التابعة محل الشاهد قال تعالى “فان طلقها” اي الثالثة “فلا تحل له” وهنا جاء دور “من بعد” في بلاغة محكمة ظاهرة فكانت “فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره” اي بعد الطلقة الثالثة ، ولو كان الكاتب مشرعا دنيويا بشرا لكتب في القانون (الطلاق مرتان ،،،، فان طلقها الثالثة فلاتحل له الا ان ،،،) او ان يقع في لبس وتشويش ، ولكن القران العظيم أحكم المسألة بحرفين فقط “من بعد” او لفظتين قصيرتين في موضع لايمكن اغفالهما فيه ولا وضعهما في غيره.
ولو كان كتابا بشريا لما أحكم هكذا ولأغفل كاتبه كثيرا من كلماته والفاظه فضلا عن حروفه ، ولو كانت تلك قوانين البشر وعباراتهم لرأينا فيها كثيرا من أمثال تلك الغفلات والثغور ، ولكن ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾