18 ديسمبر، 2024 11:54 م

(تحديد النسل) .. بين الفكر المادي ومنهاج السماء

(تحديد النسل) .. بين الفكر المادي ومنهاج السماء

كبيرة هي المسافة بين النظرية والتطبيق، فالإسلام على مستوى النظرية نظام متكامل شمولي قادر على قيادة الحياة، وسدّ جميع الثغرات، وملأ الفراغات، أما ما يعتري بلاد المسلمين فهو بلاشك خلل على مستوى التطبيق، وهذا هو السبب القابع وراء ما نراه من المظاهر السلبية الشائنة التي لا تمت للإسلام بصلة، وعلى الأصعدة كافة، ولا نكاد نفارق الحقيقة إذا قلنا إن مجتمعاتنا الإسلامية أخذت تشطّ بعيداً مفارقة أصول دينها ومبادئه وأسسه الرصينة، ويعود ذلك في أغلب الأوقات إلى ما تلاحظه من انحراف القيادات التي تدّعي الوصاية على الدين وأنها الممثل الحقيقي له، فتنشأ نتيجة ذلك ردّة فعل ضد مبادئ الإسلام لا ضد تلك القيادات المدعية، وقد يكون هذا الابتعاد عن الأسس نتيجة طبيعية لما تعتاده الجماهير المسلمة من ممارسات خاطئة تغفل أو تتغافل عنها، وتقرّها المؤسسة الدينية بعدم إبداء الرأي فيها، أو إصدار ما تستلزمه من الفتوى لترشيدها والتنبيه على خطئها.
راودتني هذه الأفكار وأنا أطالع أخباراً عن نية بعض الشباب المثقف إنشاء تشكيل يدعو إلى (تحديد النسل ومناهضة الزواج المبكر)، ولا علم لي، ولا أستطيع البتّ في الأسس الفكرية لهؤلاء الشبيبة، ولا أتهمهم بشيء، إلا أن ما في دعوتهم بشقيها من مخالفة واضحة لمبادئ السماء لا يخلو من علمهم بهذه المخالفة أو عدم علمهم بذلك، وإن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري……
الإيجابي في الأمر أن هذه الفئة الشبابية فئة تحمل هماً، وتبحث عن علاج لمشكلة تراها تهدد المجتمع، ولكن كان من المفترض أن توجّه هذه الفئة همومها وجهودها لحل المشاكل الحيوية التي يعج بها المجتمع، لا البحث عن ثغرات يمرّ بها المجتمع نتيجة ظرف آني، ومحاولة إيجاد حلول ترقيعية لا تنفع حتى مرحلية المشكلة، لأغراض وحده الله العالم بها. أما كان من المفترض بهم أن يشكلوا جماعات ضاغطة لرأب الصدع السياسي، وملأ الفراغ الذي خلفته النعرات والتحزب وضيق أفق أولياء الأمور، حتى يحسب المسؤولون ألف حساب قبل أن يقدموا على خطوة واحدة، في حين أن الانشغال بهذه القضايا يثلج صدور (المتصيدين) ــ وهذه مترادفة من معجم السياسة العراقي بالصاد والسين ــ، ويجعلهم يضحكون منها ملأ قلوبهم.
هذا على المستوى الاجتماعي والسياسي، أما على المستوى الفكري، وكما أشرت فإن شمولية النظام الإسلامي تكفلت بحلّ قضايا المجتمع المختلفة، وليست هذه المشكلة ببدع منها، فالشق الأول من المشكلة وهو قضية تحديد النسل لا نحتاج إلى إجهاد عقولنا لنتوصل إلى تقاطع هذه الدعوة مع دعوة الإسلام، فقد حثّ النبي الأكرم (ص) على التكاثر وتقوية أواصر الأمة وشد بنيانها بالذرية الصالحة، وقد عشنا، ونعيش، مصاديقها كل يوم، والدعوة المناقضة لدعوة النبي (ص) ناجمة عن سوء معرفة بشخصيته، وقصر نظر إلى منظومته الفكرية، وإلا فماذا يعني ذلك أقل من أن النبي (ص) لم يكن على دراية بما ستؤول إليه الأمور، ما سيصبح عليه حال بني آدم، وأنه لم يخطط إلى أبعد من حدود يثرب ومن سنة 11 هجرية؟!! وكل واحدة من هذه تعني عدم استيعاب شخصيته عليه السلام، ومن ثم عدم التسليم بما جاء به (ص).
ولو أجهد هؤلاء الشبيبة عقولهم قليلاً للتفكير بعمق في شخصية النبي الأكرم (ص)، لتوصلوا إلى حلول لكل ما يعتري أذهانهم من مشاكل، لينطلقوا منها إلى العالم الوسيع للتفكير بحلحلة مشاكله، ومن الطريف أن مفكراً عُرف بإلحاده هو الأديب العالمي برناردشو كان يرى أنه لابدّ من العمل بسنّة محمد (ص) في زواج الرجل بأربع نساء لحل مشكلة النقص في عدد رجال العالم الذي ينتج عن الحروب والكوارث، ليستعيض العالم ما فقده بعد فترة وجيزة. بل ويرى برناردشو تفاهة عقول مفكري العالم الذين يحاولون الانتقاص منه (ص)، ويرى أن من الواجب أن يسمى (ص) منقذ البشرية، وأنه لو تولى أمر العالم لوفّق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها، (فما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد ليحل مشاكله).
هذا من الناحية الفكرية العقيدية المبدئية، أما من الناحية الفكرية المادية: فما المانع من أن يكون للرجل عدد من الأبناء إن كان قادراً على تربيتهم، بأن يباشر ذلك بنفسه، أو أن يكون ميسور الحال وقادراً على توفير سبيل التربية الصحيحة، والتكفل بالعيش الكريم، باستحضار المتخصصين لتربيتهم، وبعد ذلك ــ وعذراً على التعبير ــ فإن المكان الأنسب لإقامة مثل هذا التجمع سيكون في البلاد الأفريقية الفقيرة، أو غيرها من البلاد التي يعيش أبناؤها تحت خط الفقر المدقع.
وأنوّه هنا إلى أن ما طرح في هذه الدعوة لا يناقض مبادئ الرسالات السماوية فحسب، بل إنه لا يتوافق والعقل، فإذا كان أصحاب هذه الدعوة منبهرين بالنموذج الفكري الغربي، فهذا على سبيل المثال رأي مفكري الغرب في هذه المسألة، إذ يرى الفيلسوف الغربي (تويني) أن كثرة السكان هي عامل التحدي الذي يخرج أية حاضرة إنسانية إلى الوجود، في حين عدّ (ديورانت) كثرة السكان من أهم أسباب التقدم المدني.
أما ما يصدّر إلينا من هذه الأفكار فهي عمل سياسي بحت، الهدف من ورائه الحد من ازدياد عدد سكان البلدان المناهضة للغرب، وبتعبير أصح: التي يرى فيها الغرب خطراً على مصالحه!! فهل رأى أحد منا أو سمع عن وجود مثل الدعوات في الدول الغربية، أو في (إسرائيل)، بل على العكس من ذلك تماماً، فإننا نسمع بامتيازات يحظى بها المواليد، ومكافآت تمنح لذويهم، مقابل ما يتم تصديره والتحشيد له، والذي يبلغ في بعض الأحيان ذروته إلى أن يتجسد في مؤتمرات تقام لهذا الغرض، كما هو الحال في مؤتمر بكين في تسعينيات القرن الماضي الذي خرج بتوصيات منها: تحديد النسل، وتأخير سن الزواج، وإباحة الإجهاض، والحرية الجنسية، وتدريس مادة الجنس. مع أن الصين التي تمتلك كحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، إنما امتلكته لأنها تمثل كتلة سكانية هائلة تمثل حوالي ثلث سكان العالم، فضلاً عن أن سياسة (الطفل الواحد) التي تعتمدها الصين جاءت بنتائج كارثية على أبناء هذا البلد، إذ تتوقع الأكاديمية الصينية للخدمات الاجتماعية أن 24 مليون رجل صيني لن يتمكنوا من العثور على زوجات مع حلول العام 2020م، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أن العدد قد يتجاوز الثلاثين مليون رجل، حتى يصل إلى الخمسين مليون.
سبق هذا المؤتمر مؤتمر آخر عقد في بلد إسلامي، بل وفي مركز من مراكز الفتيا، القاهرة، أثار موجة من الاستياء والسخط في العالم الإسلامي لتبنّيه مثل هذه الأفكار، وأثيرت حوله الكثير من الشبهات، وكانت شخصية أميركية بارزة هي رئيسة جمعية (الأمهات الصغيرات في أمريكا)، كانت قد حذرّت المسلمين في مؤتمر القاهرة من خطورة الأمركة، في النداء الذي وجّهته إلى المجتمعين، والذي قالت فيه: لقد دمّروا المجتمع الأمريكي وجاءوا الآن بأفكارهم للمجتمعات الإسلامية، حتى يدمروها، ويدمروا المرأة المسلمة ودورها فيها.
المشكلة فينا أننا نتأثر بالظرف الآني ونبحث عن حلول لمشاكل تفرضها علينا المرحلة، فالفشل السياسي والإداري الذي نعيشه في العراق هذه الأيام سلبنا لوح النجاة الذي كنا نتشبّث به وسط بحر المشاكل التي أغرقنا به نظام الحكم المقبور، ولو فرضنا أن أصحاب القرار كانوا أهلاً للمسؤولية، ولم يكن هناك من تقصير في تلبية احتياجات المواطن، وإيفاء حقوقه، فهل سيبقى مسوّغ لطرح مثل هذه الأفكار، ولو ضمن كل عراقي حصته من النفط، وموارده الوفيرة، ولو كان كل مواطن يجد فرصة عمل مناسبة تحفظ كرامته وتؤمن لقمة عيشه، ورفاهية من يعيلهم، هل سيكون من العقل الدعوة إلى تحديد النسل، وتأخير سن الزواج.
وأما الشق الثاني من المشكلة، فإنه لا يقل عن صاحبه من ناحية هشاشة الأس الذي أٌقيم عليه، يقول الدكتور يوسف المدن في كتابه (التربية الجنسية للأطفال والبالغين) في حديثه عن الزواج المبكر: وهذه الخطوة الوقائية ربما تكون حلاً عملياً لمشكلة عدم انضباط الفرد جنسياً، وتتم دائماً بعد بلوغه ـ الحلم ـ مباشرة، إذ يلجأ إليه المربي المسلم بعد فشل التربية الجنسية للطفل خلال فترة الإعداد والتأديب، وحين يشعر الأب بعدم الاطمئنان على مستقبل استقامة ابنه وعفته الجنسية… وقد اقترح علماء النفس، والتربية، والجنس، اعتماد هذا الحل إذا لم تنفع في تربيته جنسياً كل أساليب التربية؛ لأن الزواج المبكر حل مشروع يسمح للبالغ المراهق الذي لم يقدر على ضبط شهوته الجنسية، أن يشبعها دون تعرضه لمخالفات قانونية أو نقد اجتماعي، وضغط عائلي أو قلق نفسي، فالزواج المبكر يزيح التوتر من داخل النفس المراهقة، بل ويحقق له انسجاماً نفسياً، وتقديراً اجتماعياً من الآخرين.
ويتابع: فطالما غير مسموح للبالغ المراهق بتفريغ الشحنة الانفعالية لشهوته كرجل، وهو عاجز عن ضبط اندفاعات هذه الشهوة وإلحاحها الحيواني، فإنه يواجه حينئذ حالة شديدة من الصراع النفسي بسبب تعارض دافعين أحدهما يدفعه في طريق الشهوة، وآخر يصده عن الإشباع، وإذا لم يتمكن المربي المسلم من إزاحة ألم هذا الصراع، فلا مناص من وقوعه في براثن المرض النفسي، ويظل بعد ذلك وقوداً للانحراف الجنسي، يطحنه ألم الضمير وقسوة قانون الغيب الاجتماعي؛ ولهذا قرّر بعض خبراء التربية الاعتماد على الزواج المبكر كخطوة وقائية وعلاجية في آن واحد، وقائية ضد عوامل الانحراف المرتقبة، وعلاجية للتمرد الذي عاشه قبيل المراهقة ضد القيم التربوية.
ويبيّن المدن أهمية هذا العامل التربوي، قائلاً: وقد عاند بعض العلماء طويلاً في دعوتهم إلى رفض الحل للمشكلة الجنسية عند الشباب، لكنّ تضخم أعداد المنحرفين وتفاقم مآسيهم أعاد الوعي إلى بعضهم، وثابوا إلى رشد الحل الإسلامي، فالزواج المبكر نظام قديم اعتمده المربون.. ولم يعد أمام رجال التربية بعد فشلهم في البحث عن طرق علاجية للمشكلة الجنسية إلا اعتماد هذا الحل.
إذاً فهذا العامل من عوامل التربية يقف حائلاً دون انحلال أواصر المجتمع الذي نرى آثاره واضحة في المجتمعات الغربية التي يؤجل فيها مشروع الزواج إلى سن متأخرة، ما دام الفرد منهم يتمتع بـ(الحرية الجنسية)، فيقيم علاقاته أنى شاء، ومع من يشاء، إلى أن ينتبه في لحظة إلى ضرورة الاستقرار فيقرر مع من سيرتبط، بعنوان شريكة الحياة، وقد لا ينتبه! مع الآثار الوخيمة التي تخلفها العلاقات غير الشرعية التي يعيشها قبل قرار الزواج.
قد يكون هذا العامل سلبياً في حالات خاصة، وفي ظرف آني، كأن يكون الشاب غير مؤهل تربوياً لإدارة عائلة، فيصبح من اللازم التريث في الأمر، إلا أن هذا لا يحول دون النظر في الإيجابيات الجمة التي يتضمنها، والتي يؤدي الأخذ بها إلى صيانة المجتمع، والحفاظ على شبكة العلاقات فيه، فقد أكد علماء التربية والاجتماع على جنبة مهمة في هذا العامل، وهي أن الزواج المبكر يكو ن عاملاً مهماً في عملية التربية، إذ يقلص الفارق العمري بين الولد وأبيه، وهذا مهم في عملية التواصل، على العكس من الوضع الذي تكون عليه العلاقة بين الأب وابنه والبنت وأمها مع وجود فارق كبير في العمر يمنع من التواصل الاجتماعي والتربوي، فلكل جيل خصائصه وسماته، وكلما كان فارق العمر أقل كلما كان ذلك عاملاً مساعداً على نجاح المربي في مهمته، ولك أن تتصور طبيعة التواصل بين شاب في 15 إلى 20 من العمر، مع أب في الستين من عمره!؟
ختاماً أقول: إن المتشدقين بمثل هذه الأفكار، إن حدثتهم عن تأثرهم بالفكر الغربي لأجابوك بأنك واقع تحت تأثير نظرية المؤامرة، وبالفعل فإن الغربيين أرادوا لنا أن نصل إلى هذه النتيجة، إذ يواجه نقد الأفكار المتأثرة بالفكر الغربية بهذه التهم، ليمنع النقد والبحث عن الدوافع التي تدفع بأمثال هذه المشاريع إلى الواجهة. وأسألهم: كيف تنظرون إلى القانون الحكومة البوذية في بورما التي يذبح فيها المسلمون وسط صمت مقبع من العالم، والذي يقضي بمنع زواج الشاب المسلم إذا لم يبلغ الثلاثين من العمر، والبنت المسلمة دون أن تبلغ الخامسة والعشرين من العمر؟ ولا يتم الأمر إلا بعد إجراءات روتينية طويلة عريضة، وقد لا تحصل الموافقة عليها، فإذا حملت البنت فإن القانون يلزمها بالحضور شهرياً إلى مركز الشرطة لتصوّر عارية حتى الولادة، (للاطمئنان) على صحة الطفل والمرأة!!!
هذه دعوة جادة لأن يعمل هؤلاء الشباب فكرهم في مشاكلنا الواقعية بشكل أكثر جدية للوصول إلى حلول ناجعة تجعلنا في مصاف الدول والشعوب التي يُنظر لها بعين الاحترام، كونوا جماعات ضاغطة في القرار السياسي والاجتماعي، وأعملوا فكركم في مشاكلنا الواقعية، فبدلاً من هذه الدعوة ألا تعملون عقولكم في إيجاد حل لمشكلة تفاقم أعداد الأيتام والأرامل في هذا البلد العزيز ــ على سبيل المثال ــ ، وإذا ما عملتم على ذلك، فستجدونني ومن يساندني الرأي، أول المجيبين لدعوتكم إن اتسع المكان، إن شاء الله تعالى.