هل قلص الفيسبوك جيش الصامتين؟ أم أسهم في بارانويا أصابت محبطين لا يملكون فضيلة اعتراف ‘أديب الشباب’ بأنه ‘إنسان مضطهد، وهذا إحساس حقيقي لا مرضيّ’.
قضت الحداثة الإلكترونية على ظاهرة لا يعرفها جيل الفيسبوك من المصريين، وعنوانها محمود عبدالرازق عفيفي الذي سمّى نفسه «أديب الشباب»، منذ نحو أربعين عاما، وبهذا اللقب ضمن شبابا متجددا، لولا أن الشوارع التي تتسلقها كتاباته اكتسحتها حوائط الفيسبوك، بطزاجة تفاعلاتها الفورية، وكانت تعوزه مهارة اكتساب هذا الجانب الحداثي فاندثر، ولا يذكره إلا أمثالي ممن يحتفظون ببعض ما كان يصدره من «كتب»، ولا نعرف هل توفّي؟ أم مازال حيا لا يرزق.
ستقضي الحداثة بقفزاتها التي تجاوزت التحديث النفعي الاستهلاكي على الكثير من أشكال العلاقات القديمة، وربما تساعد على تطور الأخلاق اضطرارا؛ فلا يلجأ أحد إلى احتيالات صغيرة يظنها في مأمن من الافتضاح.
اختفت المراسلات باستخدام جهاز الفاكس، وتروي سناء البيسي أن المفكر المصري جمال حمدان احتاج، قبل شهر من وفاته الغامضة في أبريل 1993، معلومة مهمة، ليضيفها إلى مشروع كتاب عن الصهيونية وإسرائيل، وبجهاز الفاكس تم استقبال الرسالة في اليوم نفسه وإرسالها إليه، فسأل عن هذه «المعجزة»، واعتبرها إحدى مراحل تطور خيال عباس بن فرناس.
ولا يعرف الجيل الحالي دلالة كلمتي “Floppy disk” ذي المجد القديم، إذ نسف التطور التكنولوجي مكانه في أجهزة الكمبيوتر، منذ أكثر من عشر سنوات، وتخلو أجهزة حديثة من مكان لوضع الـ”CD”. كما تخلو البيوت الجديدة من مكتبة لأشرطة الفيديو، وانتهت إمبراطورية أندية الفيديو التي لعبت أدوارا في توجيه صناعة السينما زمنا، ولا علاقة لغيابها بما يطلق عليها حاليا «السينما الأخلاقية»، وإن ظل الرهان على الحداثة الإلكترونية في الالتزام الأخلاقي، فلم تعد المهرجانات تتلقى نسخا من الأفلام التي تشاهدها لجنة أو شخص للاشتراك في المسابقة، وإنما توجد الأفلام في ذاكرة افتراضية ويتيح أصحابها لمن يشاؤون فرص المشاهدة عبر إدخال كلمة سر.
وضحكت صديقتي من الغيظ، وهي تكشف كذبة غير بيضاء، بعد تلقيها ردا من مسؤول بمهرجان مصري أفاد بأن لجنة شاهدت الفيلم، وقرّرت أنه غير ملائم لطبيعة المهرجان. وقالت “كيف حدث ذلك وعدّاد المشاهدة صفر؟”، التكنولوجيا تفضح كذب البشر.
عداد القراءات أيضا كان سيسهم في توجيه «أديب الشباب» إلى عمل أكثر نفعا، ويمنحه بعض التحقق، ويدفعه للكف عن اختلاق معارك مع طواحين الهواء، ويغنيه عن كتابة عنوانه الذي تحتفظ به حوائط في القاهرة «37 شارع محمد مرسي، الإمام الشافعي، القاهرة»، وربما دفعته التعليقات الساخرة على معلقاته إلى الصمت انتحارا، حين يقول في كتابه «إجهاض الحرية، السفر الأول» (1993)، «ويبدو أن الله خلقني إنسانا سيدا وحصورا ومحصنا ضد الانحراف».
ومن مقولاته «أعترف بأنني معجب بنفسي أشد العجب، وكلما تذكرت عظيم صفاتي وحلو شمائلي أقول أحمدك يا رب لأنك خلقتني على هذه الصورة الجميلة. لقد عرفت نفسي فاحترمني الناس ورحمني الله، وآه لو تعلمون أنه لقدر عظيم، ولن يزيد ولو زارني رئيس أميركا في الإمام الشافعي، لأني أصنع قدري بنفسي». وهذه الجملة قالها الممثل مجدي فكري في فيلم «يا دنيا يا غرامي» من إخراج مجدي أحمد علي (1996)، من دون إشارة إلى حقوق الملكية الفكرية لرجل يتعالى حتى على مشاهدة فيلم يستلهم شخصيته ويقتبس كلامه.
في العام التالي لعرض الفيلم نشر في بريد «الأهرام» رسالة موجعة، فهو لم يكتب منذ عشرين عاما على الحوائط إلا مضطرّا، بعدما سدت في وجهه السبل، حتى أن التلفزيون رفض إذاعة إعلان مدفوع عن كتابه «هذا قرآني»، كما رفض إعلانا عن «إجهاض الحرية» ينص على استعداده لمناظرة الشيخ محمد متولي الشعراوي. ولو أدركت الحداثة الفيسبوكية «أديب الشباب» لاستغنى عن الإعلانات التلفزيونية، وربما أنشأ قناة في يوتيوب، ووفّر للباحثين مادة تكمل «هتاف الصامتين» الذين عني بهم سيد عويس. فهل قلص الفيسبوك جيش الصامتين؟ أم أسهم في بارانويا أصابت محبطين لا يملكون فضيلة اعتراف «أديب الشباب» بأنه «إنسان مضطهد، وهذا إحساس حقيقي لا مرضيّ».
نقلا عن العرب