19 ديسمبر، 2024 2:16 ص

تحديث العملية السياسية في العراق ولغة الرياضيات والجغرافية

تحديث العملية السياسية في العراق ولغة الرياضيات والجغرافية

اثبت الواقع السياسي العراقي ان من يتعامل مع العملية السياسية بلغة الرياضيات، رغم أنها لغة العقل، لا يتوقع ان تستتب له الأمور أو تسير بانسيابية. ودون الدخول في تفاصيل نصوص الدستور العراقي أو النظام الداخلي لمجلسي النواب والوزراء، والتي تشترط في أي قرار أو فعل سياسي وجود نصاب معين(عدد)، فأن الواقع اثبت وسار على ان المطلوب قبل أي شيء هو توفر الأجماع وإرضاء الجميع، بعيدا عن المعادلة الحقيقية للديمقراطية أو طريقة عمل النظام البرلماني.
وبذلك بنيت العملية السياسية على ما اصطلح علية “بالتوافقية” في محاكات معدلة للنظام السياسي في لبنان الذي يراعي مكونات الشعب، وتفرعت من هذه المعادلة المحاصصة والتي عملت القوى السياسية باستمرار على تحديث هذه الكلمة وتجميلها لما أفرزته من واقع مرير، تارة بمصطلح الشراكة وأخرى بالتوازن او الوحدة … الخ.
وبعد ان تغير وزن الفواعل السياسية في البيئة العراقية على إثر مجموعة عوامل داخلية وإقليمية (سبق وبيناها في مقالات سابقة)، مع اختلال كبير في الجانب الاقتصادي. جعل العملية السياسية غير صالحة لاستيعاب تفاعلات وحركية هذه القوى بنفس الأدوات والقنوات، وعليه بات مطلب تحديث العملية السياسية امراً ملحاً وحتمياً، وقد أطلق على هذه العملية “بالإصلاح”، كمصطلح أساسي لهذا التحديث، وان كان البعض له تسميات أخرى.
ان هذا التحديث دون شك لابد وان يعيد تموضع الفواعل السياسية في العملية السياسية من جديد، كلا حسب وزن وحجم قوته الحقيقي، وهنا كان المأزق الأكبر. فالبعض لم يستطع ان يفهم ان لغة الرياضيات، وان كانت تفضي إلى نتائج منطقية غير ان تطبيقها في العملية السياسية يمكن ان يفضي إلى نتائج كارثية، كما ان البعض لم تكن لديه القدرة أو القناعة أو القبول، بالتكيف الجديد لوزنه وحجمة في هذه البيئة السياسية الجديدة (بعيدا عن لغة الرياضيات في مجلس النواب). ان قياس وزن القوة والحجم للفواعل السياسية لا يقاس بالعدة والعدد فقط، فهناك عوامل أخرى يجب فهمها ووضعها في الميزان، ولا يخرج الوضع الإقليمي والدولي من ذلك.
ان حرق المراحل والقفز على الأزمات وان كتب له النجاح في تجارب دولية معينة، فقد تكون البيئة السياسية العراقية غير منسجمة أو حاضنه صحية لذلك حاليا، بسبب عوامل متعددة،
لا يسع المجال لذكرها حاليا، أننا بقدر ما نسعى هنا لبيان النتائج التي ترتبت على حركية بعض الفواعل مؤخرا، وقد اخترنا ان نتكلم عن نتيجتين هامتين هما:
النتيجة الأولى/ لغة الرياضيات وإقالة هيئة رئاسة مجلس النواب: كان أساس حركة الفعل لدى النواب المعتصمين، هو الاعتماد على حساب الأرقام في حسم إقالة الرئاسات الثلاث (مثل جمع العدد المطلوب لإقالة هيئة رئاسة مجلس النواب) دون إعطاء العوامل الأخرى وزنها الحقيقي، وضمن هذا المنطق لم يتمكنوا حتى الأن من تحقيق أهدافهم، بل على العكس من ذلك فقد أنتجت حركتهم مشاهد ومعادلات لم تكن بالحسبان، وفي المقابل أيضا لم تكن حركة الطرف الأخر موفقه، عندما اقدم على عقد جلسة غُيب عنها النواب المعتصمين، لإخراج مشهد سياسي جديد في العملية السياسية، بعيدا عن (الأجماع) ومن خلال التوافقية المحدثة التي كانت أيضا لغة الرياضيات العنصر الأساسي فيها.
ان قراءة معاكسة لحركة المعتصمين، نجد أنها قد أنتجت معادلة جديدة، وكذلك ليس للغة الرياضيات مكاناً فيها، فقد استطاعت (جبهة الإصلاح/ المعتصمون) من تحقيق كتلة معطلة، فعلى الرغم ان عدد أعضاء الجبهة يتراوح بين 100و130 نائب، وهو عدد لا يرتقي (بحسب لغة الرياضيات) تعطيل عمل مجلس النواب، غير ان الواقع يثبت ان المجلس ما يزال عاجز عن استئناف عمله وعقد جلساته، رغم ضغط الواقع الأمني في بغداد، وهنا يتأكد في نفس الوقت مبدا الأجماع في ظل الديمقراطية التوافقية العراقية، ومن زاوية أخرى يجد المتابعة ان الشعب قد خرج من اجل رفض هذه المعادلة غير ان الواقع يدفع باتجاه تأكيدها.
وبذلك استطاع المعتصمين ان يكونوا رقما مهما ضمن المعادلة السياسية رغم عمل البعض على تهميشهم وإجهاض حركتهم، وهذه النتيجة هي قابلة للانسحاب والانتقال لبعض الكتل السياسية الاخرى، وعليه يثبت الواقع السياسي الحالي انه لا يمكن القفز على الأسس التي بنيت عليها العملية السياسية، أو تغييب أو إلغاء أو أقصاء الأخر، فالوقت لم يحن بعد لذلك.
النتيجة الثاني/ لغة الرياضيات والجغرافية: لم تحسم بعض القوى السياسية الممثلة لمكون أساسي في العراق، هل هي رقم معطل ام ضامن في العملية السياسية أم أنها شريك أساسي، وضمن هذا التموضع الغير محسوم الوجهة، مع انعدام الإقرار بالوزن الحقيقي والمدفوع بعوامل متعدد محلية وإقليمية، اقدم البعض في مسعى لفرض واقع سياسي مطلق في جزء من جغرافية العراق، في مسعى لزيادة وزن ثقله بالعاصمة ولمحاكات تجربة إقليم كردستان، غير ان الواقع السياسي الداخلي والتوازن الإقليمي والدولي لم يكن يسمح بذلك، وهو ما جعل هذا المشروع
يتحول إلى نقمة، جر البلد إلى أزمات وافقده الكثير من عوامل قوته، وعليه فان أي محاكات لمثل هذا السناريو ولو على جزء صغير من أي منطقة جغرافية في العراق اذا لم يستكمل كل جوانبه المحلية والإقليمية والدولية فلم يكتب له النجاح، بل على العكس ربما يدفع بأزمات مستترة للخروج والنمو.
مما تقدم يتضح لنا حساسية العملية السياسية في العراق وتشابكها مع توازنات محلية وإقليمية ودولية، رغم اننا ناقشنا نتيجتين فقط. فالقوى السياسية المحلية لم تصل بعد الى وزن يدفعها او يؤهلها لفك الارتباط بهذا الواقع الجيوستراتيجي للمنطقة وفواعله الأساسية. لكن هذا لا يعني جمود العملية السياسية وعدم قدرتها على التفاعل والحركة والتحديث، بل على العكس من ذلك، أنها مهيأة في أي وقت للتفاعل إذا ما كان هذا التفاعل بحجم الفواعل وحركيتها من حيث التنسيق ورؤية الهدف ووضوحه، ان هذه التجارب والقراءة تثبت بما لا يقبل الشك عدم صحة أقصاء أي طرف من أطراف العملية السياسية حاليا، وعدم صحة فرض أي طرف مشروعا منفردا على الأخر، والانفراد بمنطقة جغرافية مهما كان حجمها وموقعها.
واذا كان البعض يعول في أجراء انتخابات مبكرة أو غير مبكرة، تغيير هذا المعادلة، فعلية إعادة حساباته من جديد، فغير محتمل ان ترتقي نتائج أي انتخابات إلى إفراز خريطة سياسية او معادلة مغايرة بالمطلق لما هو موجود حاليا من قواعد للعمل السياسي، ان الحل الذي يمكن ان يفضي إلى واقع جديد ويمهد لصياغة معادلة جديدة هو الحوار والتفاهمات وصولا لبناء تحالفات استراتيجية واضحة، سواء بين قوى المكون الواحد أو مع اطراف من قوى المكونات الأخرى، وضمن البيئة الحالية نجد ان فكرة إنتاج (كتلة سياسية عابرة للطائفية)، فكرة متقدمة جدا اذا ما تحققت فأنها تقفز أو تحرق الكثير من المراحل وتختصر الوقت نحو التحول المنشود الهادئ، ولاسيما ان هناك نقاط جديدة يمكن ان تستغل لانضاج هذا المشروع.
ومع هذه الصورة المتشابكة، نجد ان هناك بعض الجوانب الإيجابية أفرزتها الأزمة السياسية الحالية بالتزامن مع الضغط الشعبي، والتي يمكن ان ترتقي لإنتاج مشروع لقيادة للامة، في ظل غياب واضح لمشروع سياسي قيادي ينهض بواقع الأمة وتنميتها، يعتمد على المشتركات ويؤجل الخلافات فالعراق يعيش في مرحلة حساسة على مختلف الصعد ولا سيما الاقتصادية والأمنية مع ما تعيشه المنطقة من تفاعلات مفتوحة على مجمل الوضع الجيوستراتيجي للقوى الدولية. المقال نشر في جريدة العالم.

أحدث المقالات

أحدث المقالات