الضرورة … والمنهج
تستند عناصر هذه المقالة على شيءِ من المحاورة العلمية الهادئة بين التراث والمعاصرة ، بين القديم والحديث ، بين ما تركته لنا أجيالٌ من العلماء المتقدمين في فروعٍ معرفية متعدّدة ، يتوّزعون على رقعة جغرافية واسعة ، وينتمون إلى حضاراتٍ مختلفة وبين ما تنتجه لنا المعرفة الحديثة والمعاصِرة من ألوانِ البحث وأصنافِ التفكيرِ التي صار الإعراضُ عنه إعراضاً عن لحظة معرفيةٍ واعدةٍ في تأريخ البشرية العلمي .
والبحث في اللغة أو دراستها واقعٌ في مثل هذا الذي نحن فيه ، إذ إنَّ الحوار بين القديم والحديث، والتباين بين التراث والمعاصرة يلمسان – فيما يلمسان – مخرجات الدراسة اللغوية وضروب الإنتاج الفكري فيها ، والناظر في البحث اللغويِّ في العراق سواءٌ أكان أكاديمياً أم غيره يجد أنَّ اتجاهات هذا البحث تكادُ – في عمومها – تكون مقتصرة على البحث التراثيِّ وحده تقرؤه بأدواتٍ تراثيةٍ ، وتستعرض نصوصه ، وتعرض أفكاره بطريقة معينة من غير أن تكون ثمّة محاولة لتحديث هذه القراءة ، أو الاستعانة بأدوات معاصرة في الوصف والتحليل والتفسير .
والحقيقة العلمية تفرض علينا القول إنَّ هذا الذي ندّعيه من أنَّ البحث اللغوي في العراق بحث تراثي هو ليس على إطلاقه ، بل إنَّ النظر فيما أخرجته بعض المؤسسات الأكاديمية يؤكّد أنَّ محاولاتٍ جادّةً وواضحةً جرت لتحديث البحث اللغوي في العراق ، ولكنَّ مثل تلك المحاولات تبقى محدودة ومحاطة بكمٍّ هائلٍ من الدراسات اللغوية التراثية .
ومحاولة تحديثِ الدراسات اللغوية في العراق تبعثها ضرورةٌ ، وتفرضُ أنْ تكون ذاتَ منهجٍ ، أما الضرورة فإنَّ مخرجاتِ العصر الحديث من البحث في ضروب لسانيةٍ متعددة ، والتفكير في طرق معاصرةٍ لوصف اللغة وتحليلها وتفسيرها ، آخذةً ذلك كلَّه من معارف علميّةٍ وإنسانيّةٍ كثيرة جعل الإعراض عن مثل تلك الضروب وذلك التفكير إعراضاً – كما قلنا قبل قليل – إعراضاً عن مرحلةٍ علميةٍ مبصِرة في تأريخ المجتمع المعرفي .
ولعلَّ ما يميِّز المنتج اللسانيَّ الحديثَ – مما جعلَ الأخذَ به ضرورة ملحَّةً عند محاولة تحديث الدراسة اللغوية في العراق – هو استناده إلى منطلقين أساسيينِ في الدراسة العلمية قد نراهما متقاطعين أو متخالفين ، ولكنَّ دقَّةَ الفلسفة اللسانية المعاصرة جعلتهما متكاملينِ ومتوازيينِ ، أحدهما : الاستناد إلى جهازٍ لغويِّ خالصٍ في محاولة وصف اللغة وتحليلها وتفسيرها ، وهو ما عبّر عنه اللغوي السويسري دي سوسير في آخر كتابه (( علم اللغة العام ص 253 )) ، حين أكّد أنَّ :(( الهدفَ الحقيقي الوحيد لعلم اللغة هو أنَّ اللغةَ تدرس في حدِّ ذاتها ومن أجل ذاتها )) .
أمّا الثاني فهو أنَّ الدراسة اللسانية الحديثة صارت تمدُّ جسوراً وروابطَ مع مختلف الفروع المعرفية الأخرى سواءٌ أكانت إنسانية أم علمية ، فصرنا نقرأ ونسمع عن لسانيات نفسية ، وإجتماعية ، وفلسفية ، وعصبية ، وحاسوبية ، ومن شأنِ هذا الربط العلمي بين ( دراسة اللغة ) وهذه الفروع المعرفية المختلفة أن صار لدراسة اللغة واقعٌ تطبيقي ، وصرنا نجد لهذه الدراسة آثاراً واضحة وملموسة في تعليم اللغة ، وتحليها فضلاً عن وصفها تفسيرها ، بل إنَّ الحديث عن ( اللسانيات التطبيقية ) صار معهوداً في المدوّنة اللسانية الحديثة منذ سنواتٍ كثيرة ، على نحو ما نجد في قول اللساني البريطاني جون لوينز في كتابه : ((مدخل إلى اللغة واللسانيات ( الصادر عام 1981 ) ص 277 )) : (( تضع اللسانيات التطبيقية هدفاً لها تطبيق مفاهيم اللسانيات ونتائجها على أغراض متعدّدة ومن بينها مسألة تعليم اللغة )) .
إنَّ هذا المزجَ بين ( الاستقلالية ) ، و( الجمع بين اللسانيات والفروع المعرفية الأخرى ) بطريقة علمية منظمة جعل تحديثَ الدراسات اللغوية في العراق ضرورة ملحةً تفرضها طبيعة الأشياء والثروةُ المعرفيةُ اللسانية المعاصرة التي بدأتْ تتراكم وتصيِّر لنفسها أسلوباً حديثاً متفرِّداً في الدراسة العلمية المعاصرة .
وأمّا المنهج الخاصُّ بتحديث الدراسات اللغوية في العراق فإنّي أحسب أنّ بناءه لا بدَّ أنْ يكونَ مستنداً إلى دعامتينِ رئيستينِ : إحداهما : الأخذُ بفهمٍ عميقٍ وحديثٍ لظاهرة ( اللغة ) ، ذلك أنَّ كلَّ دراسة لغوية ( مهما كان مستواها التحليلي ) إذا لم تكن مستندةً إلى فهمٍ دقيقٍ لظاهرة ( اللغة ) فستبقى منظومتاها التنظيرية والتطبيقية على غير انسجامٍ .
ولو وازنَّا بين مفهوم ( اللغة ) في التراث اللغوي العربي ، ومفهومها في الأنظار اللسانية الحديثة ، فإنَّ مثل هذه الموازنة ستكشف أنَّ التراث اللغوي العربي لم يعنَ بصياغة مفهومٍ أو تعريف للغة ينطلق من فهمٍ محدّدٍ لها يتبعه سلسلة تنظيمات إجرائية تتناسب مع هذا الفهم ، فأبرز تعريف لظاهرة اللغة في تراثنا العربي كان يراعي الحقيقتين الصوتية والاجتماعية لها ، وهو ماجاء في تعريف ابن جني ( ت 392هـ ) حين قال ( الخصائص 1/87) : (( أما حدّها فإنّها أصواتٌ يعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم )) ،ولكنّا لم نرَ كبيرَ عناية بهاتين الحقيقتين في التطبيق اللغوي
، ولاسيما ما يتّصل بالجانب الاجتماعي ، لأنَّ للجانب الصوتي حضوراً – وإنْ كان محدوداً- في التحليل الخاصِّ ببعض مستويات التحليل ولا سيما الصرفية .
أمّا في الأنظار اللسانية الحديثة فإنَّ القضية فيها تختلف تماماً ، ذلك أنَّ نظرة سريعةً في سلسلة تعريفات اللغة التي عرضها جون لوينز في كتابه ( مدخل إلى اللغة واللسانيات ) تكشف مبلغ عناية الدرس اللساني الحديث والمعاصر بتبنّي كلِّ اتجاه فيه لفهمٍ خاصٍّ به لظاهرة اللغة ، وباتّباعِ سلسلة من الإجراءات التطبيقية التي تتماشى مع ذلك الفهم الخاص بظاهرة اللغة ، وليس أدلَّ على هذا الذي نقوله من ذهاب أحد اللسانيين البريطانيين وهو روبنز ( وأيّده جون لوينز في ذلك ) إلى أنَّ التعريفات المتعدِّدة للغةِ لا تكونُ مهمةً ولا دالّةً إلا إذا كانت تنطلق من نظريّة عامةٍ في اللغة والتحليل اللغوي .
وأما الدعامة الثانية التي يجب أنْ يستند إليها مشروع تحديث الدراسات اللغوية في العراق فهو توسيع مفهوم ( دراسة اللغة ) ، ذلك أنَّ مساحة واضحة في البحث اللغوي الأكاديمي في العراق ما زالت تنظر إلى أنَّ دراسة اللغة هي ( دراسة قواعد النحو والصرف ) بمباحثه المتوارثة ، وبأسلوب بحثه المعروف الذي تسوده الطريقة المعيارية في البحث والتفكير ، وهذا كلّه لم يعد الاكتفاء به ممكناً في عصر بدأت تسوده موجات معرفية جديدة منها ما هو ذو بعدٍ فلسفيٍّ ، وآخر تقاني جعل مشهد الحياة متغيراً ، وثالثٌ يمَسُّ موضوعنا وهو بعدٌ لسانيٌّ خالصٌ حديثٌ ، فكلُّ هذه الموجات المعرفية ألقت ظلالها – أو يجب أن تلقي ظلالها – على دراسة اللغة وفهمها ، وعلى البحث فيها وتفسيرها .
والذي أحسبه أنَّ تحديث الدراسات اللغوية في العراق بالاستناد إلى هاتين الدِّعامتين الرئيستين : تحديث مفهوم اللغة ، وتحديث مفهوم دراستها – فضلاً عن الضرورة التي قدّمنا الحديث عنها – من شأنه أن ينشئ منظومة جديدة آخذة بروح العصر الفكرية ، ومتمثلة من مناهجه الفكرية ما يتناسب مع طبيعة اللغة وكنه دراستها ، ولا يعني ذلك الإعراضَ عن التراث ومباحثه ومناهجه ، بل إنَّ تهذيبه والانتقاء منه ، وقراءته بوسائل فكرية دقيقة ، وإعادة قراءته مناهج بحثٍ حديثة من شأنه أن يصنع – مع الأخذ بمناهج العصر وأدواته الفكرية – تلك المنظومة التي أشرنا إليها قبل قليل ، ويجعل دراسة اللغة أكثر نضجاً وتكاملاً وأخذاً بما دقَّ من منهجٍ وصحَّ من تفكيرٍ .