جرى عادة الكتاب والمؤلفين ومدوني الحقب التاريخية وحتى محللي السياسة والتاريخ على تناول المواضيع المطروحة من الأساس ووصولا الى النتائج، بحثاً وتحليلاً للأسباب والعوامل والمعطيات واستخدام أدوات التحليل المنطقية لكي يكون لدى المتلقي رؤية وخلفية واضحة ووافية عن مسيرة الاحداث وصولا الى النتائج، وهكذا درجت المؤلفات والموسوعات في طرح المواضيع البحثية التاريخية منها والسياسية والاجتماعية وحتى الدينية (الاعم الاغلب منها).
غير اننا في بحثنا نضع امام القارئ أسلوب اخر في طرح الموضوع، حيث نبتدأ حلقات هذه البحوث بعرض النتيجة ومنها ننطلق في التدرج للأسباب والمعطيات والاهداف التي وصلت أخيرا الى هذه النتيجة.
بحوثنا تتناول الحالة العراقية بكافة تفاصيلها ومعطياتها، نحاول قراءة الواقع ومنه ننطلق الى الرؤية المستقبلية وفق الأدوات و (المكائن) التي تمكننا من تقديم صورة عن ما هو متوقع، عن ما هو مرسوم، عن ما مخطط له، من مختلف اللاعبين الظاهرين منهم والباطنين، الكبار منهم والصغار وحتى الدمى التي تتحرك وفق ما يحركه منها سيدها.
وبعد هذا التمهيد السريع ، ارغب بالدخول بشكل مباشر في مفردات الحلقة الأولى من بحوثنا؛ حيث نعرض نتائج الغزو الاورامريكي (الأوربي – الأمريكي) للعراق وما تبعه من اختلال في التوازنات الإقليمية والمحلية (والتي عرضنا كافة تفاصيلها في كتابنا السابق والمنشور تحت عنوان “البعد الدولي لاغتيال العراق).
ما قبل الغزو الاورامريكي للعراق
يمكن ان نقدم رؤية حول بعض المعطيات ما قبل الغزو الاورامريكي للعراق من عدة أوجه، لكننا يجب ان نعرج على عوامل التمهيد لهذا الغزو.
تولى حزب البعث (جناح العراق) الحكم في العراق بعد الإطاحة بالمجلس العسكري الذي تزعمه الجنرال عبد الكريم قاسم عام 1963، حيث كانت ثورة قاسم في 14 تموز 1958 منعطف مهم في تاريخ المنطقة عموما وليس العراق، و يذكر الرئيس الامريكي أيزنهاور الثورة حيث يقول في مذكراته (( تلقيت بصدمة أنباء الانقلاب في بغداد ضد النظام الملكي الهاشمي هذه البلاد التي كنّا نتعمد عليها بكل ثقلنا في ان تكون الحصن الحصين للاستقرار و التقدم في المنطقة .. اذا لم يلق تحول الاحداث بهذه الصورة المعتمة الرد الشديد من جانبنا فقد يؤدي الى ازالة كل النفوذ الغربي في الشرق الاوسط )) على اثر ذلك انزل الأسطول الخامس الامريكي في لبنان بتاريخ ١٥ تموز لحماية حكومة كميل شمعون الموالية الغرب وكذلك لتقوية الموقف في الشرق الاوسط لمنع تمدد الثورة اليها.
من ناحية أخرى ناقش السفيران الامريكي و البريطاني في بغداد الموقف المحلي حيث توصلا ان القيام بعمليات كاسحة و سريعة و متفوقة قد تودي الى اثار عكسية و توقع خسائر بالجالية للبلدين في العراق حيث يوجد ٥٠٠٠ بريطاني و ٢٠٠٠ امريكي على ارضه و قد تحدث اعمال سلب و نهب من قبل الغوغاء ولا يستطيع الجيش السيطرة عليهم.
قابل السفير الامريكي (والديمار غـولمان) عبد الكريم قاسم يوم ١٥ تموز ، عرض السفير على قاسم مسائل كبيرة كان يتوقع أن يناقشها معه
المستقبل وقد وافق عبد الكريم وقال ” نحن العراقيين نرغب بعلاقات طيبة مع الولايات المتحدة ” وطلب (غولمان ) تطمينات خاصة لضمان ارواح وممتلكات الأمريكان وقد حصل السفير على ذلك . كما طلب تطمينات باجلاء الامريكان اذا ما تقرر جلاؤهم من العراق . وقد أجاب عبد الكريم في البداية بانه ظن ان التطمينات التي قدمها من شأنها أن تجعل الأجلاء غير ضروري . ولكن بعد الالحاح وافق على تقديم الضمانات الخاصة بسلامة الأجلاء اذا تطلب الأمر ومع أن المقابلة وصفت بانها جرت في جو ودي وتفاهم تام .
ومن ناحية اخرى اجتمع حلف شمال الأطلسي في باريس يوم ١٥ تموز ، بطلب من الولايات المتحدة لمناقشة الموقف ومضاعفاته في العراق وعرض ممثل الولايات المتحدة معلوماته عن احداث العراق وطلبت لبنان ارسال قوات لحمايتها من ( التمرد ) الذي اندلع بترتيب من الخارج واشار الى تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط وأن فشل الغرب في الاستجابة لطلب المساعدة ستكون له نتائج مدمرة وقد أيدت بريطانيا وتركيا موقف الولايات المتحدة بالتدخل في لبنان وعارضته الاردن .
وعقد الحلف اجتماعا أخر في اليوم التالي حيث تم الاتفاق على استمرار المشاورات في جو هادئ لدراسة احسن طريقة لتنسيق سياسة ذات أمد بعيد وابدى بعض الممثلين في الحلف تحفظهم ازاء الانزال الامريكي في لبنان.
وبعد قرار الحكومة البريطانية التدخل في الاردن عقد ( سلوين لويد ) وزير الخارجية البريطاني محادثات في واشنطن مع ( جون فوستر دلاس ) وزير الخارجية الامريكي وحول عمل الدولتين ازاء التدخل العسكري في الأردن ، الذي يمكن تبريره حسب رأيهم ( بسبب غياب قوات الطوارئ الدولية ، وأن الولايات المتحدة تعلق اهمية كبيرة للدفاع عن حقول النفط في ايران والخليج العربي وان حماية الوضع في الكويت اصبح مهما جدا .. وجرى بحث الأوضاع في لبنان والكويت و ايران والعراق والأردن وتوصلوا الى عدة قرارات :
١ – أن الانقلاب العراقي قد يؤدي إلى حدوث انقلاب مشابه فيجب الاحتفاظ بالحكومات الموالية حتى ولو كان ذلك من خلال عمل عسكري .
٢ –ان الولايات المتحدة يجب أن تكون متهيئة للسيطرة على حقول نفط الأحساء باستخدام قوات او التوصل لترتيبات قابلة للاستمرار مع النظام العراقي الجديد بسبب حاجتهم للعوائد النفطية .
٤ – ليس هناك مجال قطعا للمملكة المتحدة والولايات المتحدة للقيام بحملة عسكرية للاطاحة بنظام التمرد في العراق ، الا اذا حدثت ثورة مضادة فان الوضع سيكون مختلفا .
وهنا نركز على الفقرة الرابعة “الا اذا حدثت ثورة مضادة ” فان الوضع سيكون مختلفا”
ما هو هذا الوضع ، وكيف سيكون مختلفا ، وكيف تم التمهيد لهذا الوضع ومن هي البلدان التي كانت تجري فيها عمليات وضع الخطط وتجنيد العملاء الذين سيصبحون لاحقا قادة العراق.
للحديث تتمة … اذا بقيت للحياة