8 أبريل، 2024 6:05 ص
Search
Close this search box.

تحديات الفكر القومي العربي بين الواقع الراهن والخطاب والاستجابات الحضارية

Facebook
Twitter
LinkedIn

محاضرة ألقيت في ندوة الفكر القومي التي نظمها مركز ذرا للدراسات والأبحاث يوم 2 تموز / جويليه 2017 بإحدى قاعات جامعة السوربون بباريس
دراسة في ست حلقات

القسم الأول
تحديات الواقع العربي

بعد حصار وغزو واحتلال العراق 2003 وما أفرزته سنوات أحداث الربيع العربي وظهور ما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية”، وبعدها وبفعل درامي مفاجئ ومشبوه تم إعلان ما يسمى ” الدولة الإسلامية في العراق والشام” التي عرفت وشاعت اختصارا بــ ” داعش” وما يعقبها اليوم من تداعيات لازالت مستمرة من خلال الحرب القائمة على أراضي سوريا والعراق وليبيا واليمن وما يصاحبها من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في اغلب بلدان الوطن العربي مشرقا ومغربا، لذلك فان الفكر القومي العربي يقف أمام تحديات جديدة وهو مدعو أيضا لمراجعة شاملة لمواجهة الاستجابات الحضارية المطلوبة ؛ خصوصا وان الواقع العربي يعكس حالة من التردي والتصدع ، وهو في أقصى تراجعاته التاريخية.
وإذا ما استمر الحال على هذا المنوال فان المستقبل القريب والبعيد يهدد أن يكون العرب خارج صناعة التاريخ، فهم اليوم في دور سلبي لا قرار له، وباتوا متأثرين لا مؤثرين، ومتفرجين غير مشاركين، ومقتادين غير قائدين، ومنفذين غير مخططين، وهم الأضعف اليوم بين أمم الأرض وشعوبها.
وبتراجع دور النخب العربية على جميع المستويات وفشلها في إدارة مجتمعاتها نحو النهوض والتنمية والارتقاء الحضاري فان مراجعة الفكر القومي العربي باتت مهمة كل من يعنيهم الأمر به، قادة فكر، وسياسيين، وفاعلين اجتماعيين، ونخب علمية وتكنولوجية وأكاديميين باحثين في حقول علم الاجتماع والسياسة والثقافة وعلوم الحضارة والتاريخ.
ورغم ان كثيرا من النخب الفكرية والسياسية العربية استسلمت لواقع من وهم ظنت به أنها من خلال حقب قصيرة نسبيا من عقود استلامها السلطة أنجزت في القرن الماضي مهمات معينة، منها الحفاظ على الاستقلال الوطني ومنجزات محدودة من التحرير الاقتصادي للخروج من التبعية ، ومحاولات بناء الدولة القطرية، إلا أن الواقع المعاش وحتى الأمس القريب يشير إلى أنها فشلت حتى في تحقيق أهدافها المعلنة الكبرى في انجاز الكثير من قضايا التحرر الوطني والقومي، وتحقيق مضمون شعاراتها في الحرية والوحدة وبناء الدولة القومية الكبرى، كما فشلت أيضا في ضمان احترام حقوق المواطنة لرعاياها، سواء كانوا من العرب أو من بقية الأقوام والاثنيات الأخرى المتساكنة مع العرب في اكثر من بلد آو إقليم عربي.
وعلى الصعيد النظري فان عددا من تيارات الفكر القومي العربي التحرري عبرت عن مواقف تقدمية من قضايا الحياة، خاصة في موقفها النقدي من التيارات الرجعية والمحافظة والمتزمتة، وعبرت من خلال حصيلة كتابات العديد من المفكرين العرب عن موقف نقدي من التيارات السلفية.
ورغم علمانية البعض منها فإنها لم تتوان عن محاولات تحرير الدين من الخرافة واللفظية والشكلية والاستسلام للواقع، ولكنها في ذات الوقت ووفق تصورات تكتيكية أخرى سايرت بعض التيارات المحافظة في مجتمعاتها، منها الدينية أو العشائرية والقبلية والجهورية للحفاظ على توازنات الحفاظ على السلطة فحاربت بعضا من تيارات التقدم واليسار، سواء في صفوفها أو من خصومها فكرست وضعا قمعيا لا مبرر له، سوى الوهم بنظرية المؤامرة والخوف من إسقاط السلطة فأطلقت العنان لقوى وأجهزة المخابرات التي أصبحت اليد العليا في السلطة والمجتمع، وحتى على تنظيمات الحزب الحاكم نفسه.
لقد طرحت منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي بعض التيارات الفكرية القومية كحزب البعث وحركة القوميين العرب والقوى الناصرية وقوى وحركات واتجاهات قومية رؤيتها حول علمنة الحياة الاجتماعية فتعامل مفكروها مع الدين كحالة استنهاض لأمة العرب، فجرى تمييز نظري بين ” دين الرسالة” الذي بات يعكس موقفا جديدا من الحياة وبين ” دين المؤسسة” الذي سار وفق أنماط تقليدية لم تملك روحا انبعاثية ونهضوية بمضمون ثوري وتحرري.
وعلى مدى العقود الثلاث الأخيرة ، وإزاء تنامي نشاط قوى رجعية عربية، منها اتخذت من الدين وتياراته الاسلاموية السياسية مسارا في نشاطاتها فتعيد طرح سؤال جوهري وأزلي: (هل هناك واقع أمة أم حقيقة أمة عربية مأزومة) ويطرح البعض البديل الطوباوي بالحديث عن ” امة إسلامية تتجاوز احتواءً مقصوداً لوجود الأمة العربية؟؟” .
وقد استغلت مثل هذه القوى الرجعية نتائج الهزائم والنكبات العربية المتتالية في فلسطين 1948 والعدوان الثلاثي على مصر 1956 وقضية الانفصال بين سوريا ومصر 1961 وتحويل حرب تحرير الأراضي العربية المحتلة في سيناء والجولان وغيرها إلى حرب تحريك قاد ردتها الرئيس المصري أنور السادات 1973 وحيث استغلت القضايا التي تعرض لها العراق منذ 1990 ، وما بعدها لخلق وإشاعة حالة من التشكيك بجدوى الفكر القومي، وتحميل الأنظمة والأحزاب والقوى القومية الحاكمة خلال تلك الفترات المسؤولية في التراجع العربي العام، فطرحت قوى الإسلام السياسي شعارها ” الإسلام هو الحل”.
إن الرد على مثل هذا الجدل سيتجاوز أطروحاته وعمومياته أعلاه من خلال العمل على تشخيص أولي ينطلق أساسا من تشخيص علمي لعناصر الضعف التي تكمن في واقع الأمة العربية ، بكافة شعوبها، على المستويات القطرية والقومية، وهي: التجزئة ، التخلف، التبعية، تسلط الأنظمة المستبدة والعميلة، تنامي الفكر الرجعي السائد، وأخيرا التأثر بالعولمة وشيوع الفكر الليبرالي الهجين الفوضوي والاستخدام الأسوأ للديمقراطية في تطبيقاتها المشوهة في عديد من البلدان العربية.
ولعل أخطر العناصر تاريخيا، ومنذ بداية القرن العشرين وخلاله في الوطن العربي، تكمن في استهداف الفكر القومي ومنعه على مراحل من بناء وتحقيق وبناء الدولة الوطنية والقومية، والتي انتهت بتكريس حالة متقدمة من المشروع الصهيوني وهو ” تجزئة التجزئة ، وتقسيم المقسم”، بدءاً من اقتطاع لواء الاسكندرون والأحواز وضمهما إلى دول الجوار الإقليمي تركيا وإيران قبل قرابة قرن، ثم استمرار حالات الانتداب والوصاية الاستعمارية البريطانية والفرنسية والايطالية على عدد آخر من بلدان الوطن العربي، مشرقا ومغربا، متحولا ذلك الانتداب إلى فرض وظهور دول النفط الخليجية وكيانات لا ترتقي إلى حالة دول، كالمحميات النفطية في الخليج العربي ، هذا يجري بالتزامن مع مراحل تنفيذ المشروع الصهيوني بتقسيم فلسطين وسلخها تماما عن الجسد العربي، والسعي إلى إقامة دولة الكيان الصهيوني على أراضيها منذ 1948 في سابقة دولية لم تتعرض لها حالة لوطن مستلب، تم ذلك بتوافق إرادات دولية معروفة، انطلاقا من وعد بلفور ومعاهدات سايكس بيكو وغيرها من المخططات المعلنة منها، وغير المعلنة.
وهكذا كان هدف تقسيم اليمن، والسعي لاحقا إلى تقسيم العراق والسودان ومصر وليبيا ودول المغرب العربي، وهو المشروع القديم المتجدد الذي لازال قائما وموضوعا على طاولات مخططات الدول الكبرى المستعدة لتحقيق المشروع الصهيوني على مراحل، وأخرها تمكين العصابات الإرهابية المتبقية من فلول تنظيم القاعدة من إقامة دولة كارتونية مفضوحة أطلق عليها ” الدولة الإسلامية في العراق والشام ” داعش” والتي امتدت سلطتها على مسار مواقع النفط والغاز وطرق تصديره وتأمين وصوله إلى الموانئ المقصودة.
وكما أن سقوط تلك الدولة الكارتونية داعش كان مكلفا جدا، حيث جرى وفق خطة نفذت بوضوح حيث تدمير وخراب شامل ومنظم طال لأهم المدن العراقية والسورية التي ارتسمت عليها خارطة داعش لتدمر مدن بكاملها مثل الفلوجة والرمادي وصلاح الدين والموصل وبيجي والشرقاط وأطراف من ديالى ودير الزور والقائم والرقة وطالت الحرب الأهلية في الشام مدنا وحواضر سورية في الرقة وحماه وحلب وأطراف وأحزمة عواصم عربية كبرى مثل بغداد و دمشق .
والعنصر الثاني هو سيادة التخلف والفقر، في عديد البلدان، فقد تدهورت أوضاع أغلب البلدان العربية الاجتماعية والاقتصادية، حتى بات ينطلق عليها القول “أنها تحولت من بلدان نامية إلى بلدان ينمو فيها التخلف”.
ويبدو ذلك واضحا من تراجع كبير لمؤشرات ومعدلات التنمية الحقيقية، رغم انتشار مؤسسات التربية والتعليم والثقافة والخدمات الصحية وانتشار وسائل الإعلام ، خاصة في دول الريع النفطي، إلا ان الفجوة العلمية التكنولوجية أفرزت مظاهر تخلف مضاعفة أخرى، سنتطرق لها في سياقاتها العامة والخاصة.
كانت لعوامل التبعية الاقتصادية نتائج ثانوية انعكست على تفاوت النمو بين البلدان العربية وتشجيع النموذج الارتدادي في الفكر لدى قطاعات شعبية هامة، أهمها مشاغل الشباب الذي يشكل 60 % من نسبة السكان في الوطن العربي، دفعته ظروف البطالة والتعمية الفكرية والفراغ السياسي إلى تبني أفكار الرجعية السلفية بكل مظاهرها، وهي تمثل الارتداد عن روح العصر ومنطق الحداثة، بحيث دفع الانغماس لقطاعات كبيرة من هؤلاء الشباب، وبتمويل سخي، وتنشيط وترويج إعلامي من دول النفط الخليجي إلى التورط والانخراط بكل أشكال الإرهاب، بدء من حمل السلاح والتوجه للحرب في أفغانستان، وبعدها النشاط ضمن تنظيمات القاعدة ، وما انشطر منها، وعودتهم لتبني مثل ذلك الإرهاب وتطبيقاته ضد أبناء جلدتهم وشعوبهم، كما حدث في سنوات العشرية الدموية السوداء في الجزائر(1990 ـ 2000) وبعدها أوضاع العراق وسوريا واليمن وليبيا منذ 2003.
ان الحكومات العربية الفاسدة التابعة للغرب وبتأثيرات منه عملت على استبعاد النخب القومية وذوي التوجهات الوطنية من الوصول إلى التواجد في النخب السياسية صاحبة القرار في إدارة الحكومات والجامعات والصحافة وقطاع الأعمال وغيرها، مما سبب إرباكا واضحا في التوجهات السياسية والفكرية لهذه النخب ولتلك الدول نفسها، انعكس على قضية غياب الوعي والهوية والتوجه لاحقا في الانغماس في اللهو الفارغ وضياع الانتماء الوطني والقومي، وفقدان التمسك بالهوية.
كما حاول الغرب والصهيونية زرع بذور عدم الثقة في قدرة العرب على استيعاب العلوم والتكنولوجيا، وضعف العرب في قدرات البناء والتنمية وإعادة الأعمار، وأنيط الدور الرائد في التخطيط والتنفيذ لكبرى المشاريع للشركات الاستشارية الغربية والمقاولين التابعين لها والمهندسين الغربيين، حتى استصغر العرب أنفسهم، ووصلوا إلى طلب الحماية الأمنية لدولهم ومدنهم ومؤسساتهم، وعجزهم حتى من مواجهة عصابات الإرهاب السائبة والمنفلتة، وتعرض بلدانهم إلى الاجتياحات الإقليمية المسلحة ومظاهر العصيان، وصولا إلى ظهور دول منحرفة وشاذة مثلتها “داعش” التي سادت على مدى ثلاث سنوات وهي تسيطر على أراضي واسعة من العراق وسوريا ومثيلات داعش مجسدة بصور أخرى مثل ظهور سلطة الدولة المليشياوية داخل الدولة، كما جسدها وضع حزب الله اللبناني على ارض لبنان، ودولة الحوثيين في اليمن، والتغول الكردي الانفصالي في شمال العراق وسوريا على حساب تراجع وانعدام سيادة الدولة العربية القائمة هنا وهناك.
ظل تكريس حالة التخلف والتجزئة هو هدف مزدوج للنظم العربية التقليدية، وهو ما ينسجم مع تطلعات نهب النظام الرأسمالي العالمي الجديد، فهذه الدول انكفأت إلى الماضي ومنعت التطور الحقيقي لشعوبها؛ رغم أنها تمظهرت بتوريد الحداثة من مبان وأنماط استهلاك متردية ومنفلتة، وإعلام مرتبط بمنظومات العولمة الثقافية ، فمنعت من ظهور نخب سياسية واجتماعية قطرية منها أو قومية، خصوصا أن حركة رأس المال والشركات الاحتكارية وظهور حيتان الفساد المالي والإداري عملت على منع من ظهور الطبقات الاجتماعية الوسطى بتشتيت النخب العربية إلى مجموعات تعتاش على ريع السلطة وأعطياتها وإكرامياتها، سواء بتمرير صفقات الفساد أو عبر تعاطي الرشاوي المقننة.
إن الغالبية من فئات الطبقات الوسطى يدفعها تردي الأوضاع إلى المزيد من الانسحاق ضمن طبقات الفقراء والمهمشين أو إلى الهجرة والنزوح عن أوطانها ومدنها.
كما تدفع البطالة والحاجة إلى العمل إلى توظيف الدين ورجالاته وأحزابه ومؤسساته الطفيلية على الهامش الاجتماعي التي تدفع نحو تبني أنماط من النماذج المشوهة فعززت من انتشار دائرة الاضطراب الاجتماعي والتصادم وحصار الفكر القومي المتنور فساد القلق ليدفع إلى حالة عدم الاستقرار وانتشار الصدامات المذهبية والطائفية والاثنية، وصولا إلى حالات تخليق فرص الحروب الطائفية والأهلية الخطيرة، كانت مسارحها لبنان والعراق واليمن والسودان وكلها تندرج تحت باب توجهات المخططات الامبريالية القديمة الجديدة لتفتيت العرب وتلاقي الترحاب والتعاون والتنفيذ من قبل حكومة إيران وتطلعات قيادتها الطائفية وما توحي به أحلام تصدير الثورة الخمينية والاضطراب في بلدان الوطن العربي.
وإذا كانت رياح العولمة لدى البعض أنها قد تكون سببا وفرصة في إنعاش أحوال العرب؛ إلا أنها تبدو في جوهرها ونتائجها القريبة والبعيدة عملت على آليات ونظم أخرى، خاصة على استهداف الفكر القومي، بمحاولات دمج المجتمعات العربية في النظام العالمي الجديد بتعويمها على شعارات ليبرالية ظاهرية تدعو لفظيا إلى حقوق الإنسان والديمقراطية وتحرير المرأة وظهور منظمات المجتمع المدني، في حين ركز الإعلام المعولم على استهداف منظم ومقصود للمؤسسات القومية واستهداف الفكر القومي ومنظماته وأحزابه السياسية، ولمنع التقارب العربي وتفكيك ما تبقى من حركات كانت مهتمة في النشاط إلى حد ما في حراك حركة التحرر الوطني والقومي العربية التي انبثقت في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها كانت الداعية لاستكمال بناء الدول القطرية العربية ودفعها إلى التكامل والاتحاد ضمن المجموعات أو التكتلات العربية التي انبثقت في مشرق ومغرب الوطن العربي دون ان تصل إلى حالة الوحدة والتكامل الاقتصادي المنشود والمطلوب.
لقد تم إشغال الوطن العربي دوما بأخطار واستهدافات مرتبطة بسياسات الدول الكبرى والإقليمية وتدخلها في الشأن العربي وهي تدخلات الكيان الصهيوني، ايران، تركيا، أثيوبيا، السنغال وخلفهم دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا والاتحاد الأوربي.
ــ يتبع الحلقات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش

******

القسم الثاني

حول الخطاب القومي العربي
خطاب مأزوم لحالة مأزومة في ربوع أمة باتت مأزومة به
ان ابرز ملامح النكوص والتراجع في الخطاب السياسي القومي تعكس حالة ينبغي مراجعتها بإرادة نقدية شاملة لمحتواه وأسلوبه وتوجهاته الحاضرة والمستقبلية.
ولا شك أن جزءا كبيرا من موروث هذا الخطاب وتشكله تعود إلى التركة السياسية ما بعد الفترة العثمانية، وتنفيذ اتفاقيات سايكس بيكو، وتشكيل بنيات ظهور الدول العربية القطرية، وبعدها تباين مستويات ومراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي لكل بلد عربي، فمنذ الثلاثينيات بدت إرهاصات ظهور حركة تحرر وطني وقومي عربية، تأخرت في تشكلها وتمظهرها القومي، منذ أن فشلت ما سميت به بريطانياً بــ ” الثورة العربية الكبرى” التي أسندت من قبل بريطانيا وضباطها وجواسيسها إلى زعامة دينية وعشائرية كانت هشة، تزعمها الشريف حسين وأولاده، وبتعاون تام مع الانجليز حيث تم تسليم مقادير الأمور إلى السلطات الاستعمارية البريطانية وفرنسا ووكلائها لبناء دول عربية مصطنعة وفق الخرائط الموضوعة لها ، ووفق رغبة وإرادة المقص الاستعماري الغربي ، حيث منحت بعض النخب والعائلات استقلالا مزيفا وتابعا في العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان؛ في حين ظلت أقطار عربية أخرى تحت الحماية والانتداب لبريطاني مثل محميات ومشيخات الخليج العربي وعدن وفلسطين وأقطار المغرب العربي.
ان الدولة العربية القطرية قادتها نخب اجتماعية وسياسية ارتبطت وشائجها مع دولة الاستعمار الأم؛ ومنذ الثلاثينيات ظهرت دساتير ومؤسسات لدول هشة في العراق ومصر وبلاد الشام، وظل التخلف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي سمة عامة لها مما جعلها ترضخ تحت الهيمنة الغربية الاستعمارية الكاملة، وازداد هذا الارتباط مع ظهور ثروات النفط لتوضع الثروات المكتشفة ووارداتها بيد عوائل وحكام تصرفوا بها كثروات شخصية أو عائلية أو قبلية وعشائرية، مما ولد تناقضات اجتماعية وسياسية كبيرة وحادة؛ تتجلى في شكلانية تسيير الدولة، وسيادة الأعراف والقيم العشائرية والجهوية والإثراء الفاحش الذي تجاوز المعقول والخيال وبجانبه فقر وتخلف مريعين.
وفي أوضاع كهذه لم تتبلور بشكل واضح ملامح دولة القانون والمواطنة والتمييز بين السلطات، وانعدام مؤسسات الرقابة والسيطرة، فحدث ذلك الخلل البنيوي على كل المستويات الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية والتفاوت التنموي حتى داخل البلد والقطر الواحد.
وبتكريس قيم الفساد في منظومة الحكم، كان اللجوء إلى الانقلابات العسكرية والتمرد على الحاكم وسلطاته طريقا لبعض الانقلابيين الذين وجدوا في واجهات وشعار الفكر القومي متنفسا لهم للتضليل في مواقف عدة للتكسب والحفاظ على مغانم السلطة الانقلابية، و للحفاظ والبقاء على قمة سلطات الانقلاب دون الوصول إلى الشرعية الديمقراطية المنشودة في البقاء في إدارة حكومة منتخبة وديمقراطية تعتمد سبيل التناوب على السلطة بإرادة شعبية ووفق دساتير دائمة وعادلة.
وهكذا كان تصعيد وتأجيج الخطاب القومي السياسي أسلوبا ديماغوجيا استثمرته كافة الانقلابات العسكرية العربية التي رفعت درجة مسميات الانقلاب إلى توصيف ثوري مبالغ فيه.
ولم تحقق تلك “الثورات الموهومة” انقلابا جذريا في مجالات الحياة العميقة في أقطارها، في تلك البلدان، وخاصة في مصر وسوريا والعراق والسودان وليبيا وحتى أن تلك الظاهرة طالت الجزائر المستقلة بعد انتصار ثورتها بقيادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي واجهت هي الأخرى انقلابا عسكريا مبكرا 1965على سلطة الرئيس احمد بن بله الذي وصل إلى السلطة بعد انتصار ثورة وطنية تحررية حملت السلاح لثمان سنوات، وتمكنت من طرد المحتل بعد 132 سنة من الاحتلال البغيض، وهكذا كان الحال في اليمن الجنوبي وقبله الشمالي.
ان تركة الخطاب القومي العربي لازالت مأزومة، بماضي قريب وبعيد، وهي ثقيلة جدا بمفردات هذا الخطاب واجتراره، وطالما أنها لم تتخلص بعد من شعاراتها ومفرداتها الانقلابية الثوروية، ولم تجر وقفة جريئة وشجاعة إزاء تشريح حالات تلك الانقلابات وظروفها وكشف القوى والشخصيات التي تاجرت بالفكر القومي، وكذلك كشف اللثام عن تمجيد بعض المفكرين القوميين العرب للدكتاتوريات العسكرية والانقلابية التي قادت إلى عديد المغامرات والهزائم المعاصرة في تاريخنا العربي .
منذ منتصف القرن الماضي، رغم المحاولات النظرية التي قادها كتاب ومنظرون سياسيون قوميون، في محاولات منهم لتحليل الواقع العربي، منها تناولت جملة من الظواهر العربية، خاصة:
نشأة الدولة القطرية في البلدان العربية.
العلاقة بين الدين والقومية.
محاولات في البحث في طبيعة تكوين علاقة توافقية بين الديني والقومي.
التمييز بين الإسلام والإسلام السياسي.
وبمصارحة تاريخية يجب ان نقولها انه لم تجر مناقشة كل هذه الأمور بمنظور فلسفي وفكري محايد؛ بل غالبا ما تم ذلك الحوار القومي الإسلامي على استحياء ، وخصوصا بعد الهزائم والنكسات القومية العربية الكبرى، حيث تسارع القوميون والإسلاميون تحت ضغط الأحداث السياسية والاجتماعية إلى اجتماعات ولقاءات مستعجلة وإجراء حوارات لم تنضج بشكل كامل حيث تم الإعلان عن بناء مؤسسات وتشكيلات ومؤتمرات ما أن خرجت أفكارها ومواثيقها إلى جمهورها خارج صالات المؤتمرات إلا وعادت أجواء الانشقاق والريبة والتهم تطلق من هذا الفصيل أو ذاك، لتطال بنقدها فصيلا آخر، للأسف كان ذلك يحدث بالأمس، ولا زال سائدا على العموم حتى هذه اللحظة.
للتذكير: عندما انطلق الفكر القومي العربي ( بشقيه الناصري والبعثي) فانه حرص في منطلقاته النظرية على التأكيد ان لا تعارض أو تناقض مع الوعي الإسلامي، وقيمه الجوهرية، وخاصة في مضامين أهداف تحقيق العدالة الاجتماعية؛ بل وصل الأمر ان البعض من المفكرين القوميين بات يؤمن بالتبادل والتفاعل بين الفكرين القومي والإسلامي، ووصل الأمر: إن البعض بات يؤمن بالتبادل والتفاعل بين الفكرين أيضا، والى اعتبار التعامل مع العلمانية قضية فيها وجهة نظر، وتعامل معها آخرون كما لو كانت شكل من أشكال الكفر، وذهب البعض إلى النصيحة والابتعاد عن نقد الفكر الديني، كمسلمات فكرية توضع في خانة الاتهام بالإلحاد، وكلها أثبت الواقع والتجارب أنها مجرد نظرات نظر واجتهادات مغلوطة من أساسها.
وفي الوقت الذي يدعو فيه غالبية كتاب الفكر القومي إلى الجمع والوحدة من خلال المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمرات الأحزاب القومية والإسلامية، عناوين ومؤسسات عدة ظهرت في التسعينيات من القرن الماضي كان بعض دعاة الفكر الإسلامي يتعصبون ويتصل بهم التطرف إلى تكفير مجتمعات بكاملها؛ مما وضع في يد المجموعات الإرهابية التي يطلق عليها ” التكفيرية” الحجج لتمرير خطابها المتطرف حتى باتت انتقائية في توجيه تهمة الكفر والزندقة لكل من يخالفها توجهاتها، بمن فيهم تيارات إسلامية سلفية ومعتدلة أو مذهبية أخرى، ينكرون عليها حق الحوار والتوحد والاتحاد والاختلاف معهم، وذهب هؤلاء في تعبئتهم المتعصبة إلى اعتبار الفكر القومي فكرا عنصريا تتوجب محاربته واجتثاثه وتصفية رموزه.
وهنا لا بد من التذكير والإشارة إلى بروز وتغلغل تيارات الشعوبية المبطنة بلبوس طائفي في جسد وهياكل المؤتمرات الإسلامية وعملها العلني والمستتر تحت واجهة الحوار والتقريب بين المذاهب والطوائف.
لقد واجه الفكر القومي والعروبي تآمرا شرسا حتى من رجال الدين العرب الذين اشتغلوا من خلال منابرهم وكتاباتهم ودعواتهم إلى: (… فصم الوحدة العضوية بين العروبة والإسلام)، مندفعين اكثر نحو المجموعات العرقية والاثنية والقومية ،غير العربية، لاستعدائها على الفكر القومي والعروبي باسم الإسلام، وهكذا جندت تنظيمات من حركة الإخوان غير العرب في تنظيمات اسلاموية، وحتى إرهابية، انتشرت بين أبناء الأكراد والامازيغ والاتراك وغيرهم.
وما لم تحل هذه الإشكالية والازدواجية في الفكر القومي العربي فستبقى “العلاقة الروحية” بين العروبة والإسلام تحمل تناقضات عدة منها :
في تصادمها مع التيارات الدينية الإسلامية المتطرفة وسعيها من خلال ما طرحته من أفكار تسعى لبناء أنظمة سياسية دينية ” ثيوقراطية” على شاكلة النظام الإيراني، وتكريس سلطة ولاية الفقيه، وصولا إلى بناء سلطة ” حكم الله على الأرض”، أو ” دولة الخلافة” وتبني العنف والحرب وحتى الإرهاب كوسائل وصول لتحقيق تلك الأهداف.
نمت هذه الظاهرة بوضوح بعد عودة خميني إلى إيران، وبما فكرت به المؤسسة الصفوية الفارسية الحاكمة بعده ، حيث عملت بمبدأ تصدير الثورة واستخدام نفوذها المالي والسياسي والتعبوي لاحقا لاحتواء الحركات السياسية والمذهبية الأخرى، بما فيها توظيف أجنحة وشخصيات من حركة الإخوان المسلمين والقاعدة، وحتى داعش، وجرها لتكون ادوات تحقيق المشروع ألصفوي الإيراني في عديد البلدان العربية، فكان لهذا المشروع هدفا رئيسيا هو استهداف الفكر القومي العربي وشيطنته، وخاصة في التركيز على بدايات انطلاقه وتبنيه من رواد الفكر القومي من ذوي الديانة المسيحية كالراحل المفكر القومي الأستاذ ميشيل عفلق وغيره من رواد الفكر القومي والعروبي.
لقد اهتم الفكر والبحث الاستشراقي الغربي بهذه الظواهر وعمل على تغذية النزعات فيها واستغلالها، ولعل كتابات مكسيم رودنسون تتقدم على غيرها حيث تقدم هذا المستشرق غيره محاضرا وكاتبا وباحثا عبر العالم ومن كتاباته ” الإسلام والرأسمالية 1966″ ، ” الماركسية والعالم العربي 1972″ و ” محمد بطبعتين 1961 وبعدها المنقحة في1979″ ة ” ” العرب 1972″ و ” جاذبية الإسلام 1980 و 1989″ وغيرها.
ولعل كتابه ” الإسلام سياسة وعقيدة” قد أصاب ببعض تحليلاته التي تؤكد ارتباطاته السابقة بوصفه باحثا وكاتبا ومستشرقا يعتبره البعض كما انه يعترف ابيضا انه من خوارج الماركسية ومنشقا عن الأرثوذكسية الماركسية وأحزابها الشيوعية .
ورغم أن ماركسية رودنسون ظلت انتقائية ، لكن بقيت في قرارة نفسه ما كان متأثرا به من منظور ماركس، وهو الميدان الأخلاقي؛ لذلك تراه يعتبر انه لا يوجد إلا ثلاثة أشياء يمكن للإنسان أن يتفانى فيها إذا أراد تجاوز مناخ الأنانية المستوية ، هي: الإله، أو الإلهة ، والوطن بالمعنى الأوسع، أي البنية التي ولد فيها، وأخيرا هناك الإنسان بوجه عام .
وقد اختار ماركس الإنسان بوجه عام، وانضم إليه أيضا رودنسون في الاختيار، وهذا يضعه في حالة تعارض على ما يقول مع كل النزعات الأصولية، عرقية كانت أم قومية ، أم دينية؛ ولكونه ابتعد في مناحي كتاباته عن العالم الإسلامي عن تلك النزعة المركزية الأوربية، التي ترى في المجتمع الأوربي كنموذج كوني اعلي، وترى فيه صالحا للمجتمعات، كما تعتبره الكثير من الكتابات الأوربية متفوقا على المجتمعات الباقية من النواحي العسكرية والاقتصادية والتقنية . رودنسون لا يقبل بنقل تطبيقات أصحاب مثل هذه النزعة الأوربية بالنسبة للعوامل الفاعلة في هذه الحضارة الأوربية ونقل تطبيقها بشكل ميكانيكي وفرضها على العالم الإسلامي.
وهكذا كان رودنسون يتصدر في مقاربته للعالم الإسلامي بميزته كباحث من مخالفة تلك المنطلقات الفكرية التي سادت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهي أولوية تقديم النموذج الأوربي وتفوقه، فالمنطلقات التي يأخذ بها رودنسون يوضحها بقوله : ” إني أرفض أن اعتبر الإسلام كلا مفهوميا ، أو منظومة من الأفكار والممارسات واختيار حياة سوف تكون أساساً ونواة لكل أنواع السلوك العام والخاص للعالم الذي يعلن إيمانه باعتناق هذا الدين ، ولهذا أفضل أن أتكلم عن المسلمين أكثر مما أتكلم عن الإسلام، مع أنني ، على صعيد آخر أولي اهتماما للعقيدة والإيمان، ولما يرتبط بهما من شعائر ، إلا أنني اعتبر أن حياة العالم الذي يؤمن به الدين الإسلامي لا يمكن أن تفسر بكاملها بهذا الدين نفسه.
إن تفضيل رودنسون الكلام عن المسلمين أكثر من الكلام عن الإسلام يعود إلى اعتبار: ” إن الكلام عن الإسلام يدخل في نطاق الفكر المثالي الذي يرى العقيدة خارج المؤسسات التي تتجسد فيها”. ويعود رودنسون إلى ” اعتباره أن الانسياق إلى مثل هذا التحليل يقود إلى مقاربة المسيحية بالمنوال نفسه ، أي أن ننسب للمسيحية كل الأعمال الحسنة والشائنة التي قام بها عبر التاريخ البابوات ورجال الكهنوت ، إضافة إلى الأباطرة والملوك في العالم المسيحي” ويضيف كذلك: [كان هتلر معمدا، وبينوشيه المسيحي في الظاهر لا يقل إيمانا عن الأم تيريزا]، ويوضح وجهة نظره: ” هناك تنوع هائل بين البشر الذين يعلنون إيمانهم بالمسيحية من خط الاستواء إلى القطبين” ، وعلى ما يقوله رودنسون ” فلا لاهوتيوا الثورة في أمريكا اللاتينية مسيحيون تماما مثل رؤساء دير سان نيكولادو شاردونيه الأصوليين، وليس بمقدور أحد أن يضع ذلك كله في الجعبة ذاتها وان يشتق كل الفكر الأوربي ـ الأمريكي من تعاليم يسوع، فإذا فعلنا ذلك وقعنا في سخف كبير ، واضح لكل ذي عينين، بيد أننا نفكر تماما بما يشبه هذه الصورة عندما نتكلم عن العالم الإسلامي”.
يعتبر رودنسون في تحليله لقضايا الحداثة والعالم الإسلامي ، وتحديدا تشخيص موقفه من قضايا ومشاكل السلطة وإدارة المجتمع في العالم الإسلامي: ” إن النخب الإسلامية في القرن التاسع عشر سجلت عجز العقيدة الأخلاقية ـ الدينية عن تحقيق مثلها الأعلى ببناء دولة الإسلام الأول، أيام النبي العربي الكريم، فلجأت تحت تأثير الحداثة إلى تجريب بعض الوصفات الغربية، ومنها وصفات عقيدة الحرية السياسية ، ووصفات عقيدة التحول الاقتصادي الاجتماعي، وقد قدمتها تركيا الجمهورية، كما قدمتها إيران إلى شعبها، كما قدمتها مصر وسوريا ولبنان في بلدانها ، لكن هذه الوصفات التي قدمت كأنها الأساس في قيادة العرب نحو الحرية والغنى والتقدم . ولا بد أن تكون لها النتائج نفسها في الشرق، كانت خادعة إلى ابعد حد، إذ أن تبعية العالم الإسلامي للسوق الرأسمالية العالمية والتوسع الديموغرافي المرتبط بالانجازات العامة، لم تؤد إلا إلى تعمق بؤس العدد الأكبر من الناس.
“أن الوصفات الطوباوية التي اقترحها الغرب لم تخلص العالم الإسلامي من تخلفه، كما أن الترياق الإسلامي، الذي يعد به أنصار المنظمات الأصولية لم يخلص المسلمين من الشرور الاجتماعية” ذلك ما يراه المستشرق الفرنسي رودنسون ؛ ” لان الطوباوية تنفي قوانين التاريخ، والترياق يتعلق بعوامل فوق إنسانية، من هنا كانت أسئلة المستقبل”.
بعد أحداث 11 سبتمبر وتفجير برج التجارة العالمية 2001 ، وجدت التيارات الاسلاموية الإرهابية والمسلحة متنفسا لها باقتران خطابها بالتوافق مع الإعلام الغربي وعززت بتبنيها تلك الهجومات دعايات اليمين المتطرف الغربي والمحافظين الجدد، وبذلك دعمت بسذاجة إعلامها الغبي، اتهامات الحركة الصهيونية العالمية للغرب والمسلمين، وبتوصيف الإرهاب العالميـ، إسلاميا، وإلصاقه حصريا بالعرب، وبطائفة محددة من المسلمين، دون غيرهم من الأقوام في العالم، وبهذا تحقق لبعض الإسلاميين المتطرفين، من غير العرب التستر والاحتماء وراء قومياتهم وبلدانهم ووضع العرب في قفص الاتهام .
كانت أحداث الربيع العربي المفصل التاريخي الهام الذي يستحق الوقوف عنده طويلا لتحليل عناصر ومكونات الخطاب العربي الذي كان مغيبا على المستوى القومي تاركا للإعلام القطري بقيادة مطابخ وزمر الخبراء في قناة الجزيرة وأخواتها خصوصا وبقيادة محترفي الإعلام الغربي، حيث جرى تسيير الرأي العام العربي وتوجيهه انطلاقا من محطة وأحداث تونس، وما تلاها تباعا من تساقط أحجار الدومينو العربية، بلدا بعد آخر، حيث ساد الخطاب الاسلاموي الاخواني بوضوح ، وبما اتسم به من ديماغوجية خلط الأوراق كلها ، تمهيدا للقفز إلى السلطة، عبر كل الوسائل الميكافيلية، بما فيها التعبئة الجماهيرية والحشود، وتقديم الإخوان المسلمين كواجهة ومحرك وقادة للأحداث دون غيرهم من الأصوات وتجاهل قادة الميادين في الساحات والمدن الأخرى،.
وهكذا تراجع الخطاب القومي أمام تصاعد زخم الخطاب الاسلاموي بدعم إعلامي انتقائي غذته الأوساط ووسائل الإعلام الغربية بمكر ودهاء، كان خطابا لاهثا وراء الصورة والخبر العاجل والإلهاء بوعود سقوط الأصنام والحكام ، وكان مدروسا لتضليل الإرادة الشعبية وتجنيد زخم فئات الشباب في ساحات التظاهر والاعتصام وبعدها القبول بالنزول وقبول إجراء انتخابات لم يعط لها الوقت الكافي لتعبئة القوى القومية وجماهيرها المشتتة .
وهكذا سا د خطاب ملغم ، ارتفع عاليا فوق كل منصات التجمع والتظاهر، بدءا من ميدان التحرير في القاهرة، مرورا بساحات التحرير ببغداد وساحة الثورة بصنعاء، ومرورا باعتصامات مدن الموصل والفلوجة والانبار ، حيث احتلت الساحات عصب وجماعات لم تفكر بالتغيير الحقيقي المطلوب، قدر ما كانت تستعجل الوقت للسيطرة على كراسي الحكم، حتى ولو بالتعاون مع أجهزة وشرطة ومنظومات أمن وزارات الداخلية البائدة وبقايا الأجهزة المنية، وتحت رعاية وتنفيذ مؤسسات وقادة أركان جيوش الحكام الدكتاتوريين ووزراء دفاعهم .
وهكذا وتمت الانتخابات بحماية وإشراف كل هؤلاء المدانين من أتباع الحكام، شعبيا وجماهيريا، وتمت بكل جلاء لضمان الفوز لشخصيات وأحزاب الإسلام السياسي بواسطة التزوير وتوظيف المال السياسي، والتضحية بالحلفاء في الساحات واستغفال الجماهير العفوية واليائسة بشكل تأمري وخبيث، ذلك كله وأد الانتفاضات الشعبية في كل الأقطار العربية ، وحرم القوى القومية والعلمانية من فرصة النهوض وأخذ زمام المبادرة وقيادة الجمهور لغياب الكارزما والشخصية القيادية المنتظرة تاريخيا، وبعدها فتحت الأبواب والفرص كلها لاكتساح مغول العصر من الدواعش للانتقام من تلك الجماهير المنتفضة، ودفعها نازحة ومهجرة ، خارج المدن في العراء، تنتظر رحمة المخلص لها من قوى الاحتلال وقوى التدخل الخارجي لحمايتها وإطعامها وعودتها إلى مدنها المسبية والمهدمة كأنقاض على العارض الخراب.
إن التركة العليلة الموروثة في حطام الخطاب القومي الذي بدا واهنا بكل الأحداث التي عرضناها بعجالة أعلاه ناجمة عن تراجع الخطاب القومي التعبوي الذي بدا مهتزا ومتراجعا ومشتتا بعد تعاقب الأحداث الدرامية المتعاقبة منذ حصار العراق الاقتصادي وعزله ومن ثم إتمام الإجهاز على نظامه الوطني في لحظة تاريخية وحاسمة في تاريخ العرب تم فيها غزو واحتلال العراق واحتلال العاصمة العراقية بغداد في التاسع من نيسان/ افريل 2003 ، كانت هناك حالة تعبوية أخرى لم يحسب حسابها أصحاب الخطاب القومي بأن كثيرا من جوانب الفكر القومي الشعبوي المتمسح بالأنظمة القومية السابقة لم يعالج مسألة اعتماد العلمانية وخطابها التحرري في إطار الإيمان الواعي لبناء الأنظمة السياسية العربية التي دعمها ونظر لها بقدسية ووثنية من دون أن يتجرأ على نقدها فعلا بموضوعية وشجاعة لتقويم مساراتها التي أخلت بما تعهدت به لشعوبها ولقواها القومية.
وللأسف فان الفكر القومي العربي العلماني وغيره، أصابه الوهن وهو في لحظة الترنح ، لازال يراوح في مكانه، ويتخوف من النقد المطلوب منه ، والذي بات تاريخيا وملحا وآنيا أيضا تتطلبه حالة التعبئة التي يحتاجها الشارع العربي بعد مرور جحافل الغزاة في أكثر من عاصمة قومية.
ولطالما أن تلك الأنظمة القومية تكون قد سقطت لأسباب عدة، خاصة، بسبب موجة التغييرات الخطيرة التي اكتسحت الوطن العربي، ومنها حالات التغيير ألقسري التي تمت بواسطة قوى الغزو والاحتلال وخلالها تمت إعادة الهيمنة الامبريالية من دون مقاومة تذكر على صعيد عدد من البلدان العربية التي وجدت فيها الجماهير انشغالات أخرى أهمها أخطار الحرب الأهلية والصدام الطائفي، ومحاولات فرض سلطات وقوى بديلة خاضعة بتبعية مطلقة للغرب وإيران ودول الجوار وتصاعد قوى الانفصال والتطرف والتجزئة.
وإذا كان الخطاب القومي ظل عاجزا في تخطي عتبات الوصول إلى جماهيره قوميا لأسباب عدة فانه أيضا بات مستهلكا قطريا وجهويا وإقليميا في مشرق الوطن العربي ومغربه، وهذه قضية باتت مستديمة يسودها الانتظار والتململ وغياب نهوض واضح للقوى الشعبية الطليعية .
وإذا كان الأمر في قضية التأخر في المراجعة لهذا الخطاب بسبب ظروف السلطات المهيمنة على الدولة ودكتاتورياتها سابقا مبررا لدى البعض ، فاليوم تلزم المصارحة الجميع بالاعتراف الصريح، بأنه كان يكمن في عجز الخطاب القومي العربي، بإمكانية المراجعة والتحليل النقدي مبررا بسبب تلك الظروف السائدة المرتبطة أساسا برغبة الحاكم العربي الفعلي، وليس بقرار النخبة القومية والوطنية المفكرة المحيطة به، أو تلك التي كانت تعتاش في ظل مؤسساته الحزبية والجماهيرية.
ومن أسباب تلك المراوحة أن الدول العربية التي تبنت الخطاب القومي العربي ظلت عاجزة عن تسويقه قوميا وقتها، ولأنها لم تكن ذاتها في حالة توافق تام ما بين توجهاتها القطرية والقومية وقناعات نخبها، وهكذا ساد خطاب النظام العربي الرسمي وعلى على صوت الخطاب القومي الشعبي العربي، رغم تعدد لهجاته في استهلاك الشعارات القومية ومضامينها، لكنه ظل لفظيا، ودون مستوى التحديات التاريخية المطلوبة منه، بسبب تمسكه بالسلطة واعطياتها وانتظار الأوامر منها ، وتخوين الآخر المصطف في الجانب الأخر من الصراع القطري، واتهامه بما يتهمه الآخر من مواقف تتسم بالمزايدات في المناسبات القومية، كقضية فلسطين والأحواز العربية ، وقضايا أخرى تتعلق بالموقف من انجاز الوحدة العربية، والتكامل العربي، والحضور الدولي، والتحالفات بين المعسكرين الشرقي والغربي، ونوازع التوجهات الدكتاتورية لدى حكام الدولة القطرية العربية هنا وهناك.
وما لم يحترس الخطاب القومي من السقوط في أفخاخ الاستدراج عير العلمي للفصل بين ” الروح القومية المؤمنة الخلاقة” ومثالياتها النظرية فان التوجه نحو خطاب قومي واقعي يكون واعيا في حالات الفرز الصحيح والتمايز بين منظورين احدهما بات تقليدي شعبوي، وآخر متخلف متمسك لفظيا بالإيمان وممارسات الدين وطقوسه.
هناك في الجزائر من يكرر مقولة (شعب الجزائر مسلم والى العروبة ينتسب) في محاولة توفيقية وردت في ظرف تاريخي عبر عنها مؤسس جمعية المسلمين الجزائريين الشيخ عبد الحميد بن باديس ، باعتبار أن شعار جمعية العلماء المسلمين في زمن الاحتلال الفرنسي للجزائر كان ثلاثي الإبعاد للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعب الجزائري المعبأ وراء قيادة جبهة التحري وجيش التحرير، وكان هذا الشعار متجانسا ومتجاوبا مع شعار الجمعية العتيد ( الإسلام ديننا و العربية لغتنا و الجزائر وطننا )، واليوم تلعب الأوساط الاستعمارية القديمة على وتر الفرقة والاحتراب من جديد بثارة لعبتها للتفريق ما بين كل ما هو قومي وعروبي وامازيغي في الجزائر ، في الوقت الذي يعتكف أصحاب الخطاب القومي بتنوعاته العروبية والامازيغية وراء موضوعات يتجاوزها الزمن والجدال المحتدم عن م قضية تدريس اللغة الفرنسية وإحلال اللغة الامازيغية وكتابتها بحروف لاتينية بدل الحروف العربية وكأن قطار التنمية وبناء الجزائر متوقف في محطة واحدة عند إشكاليات التدريس واللغة دون غيرها من الموضوعات ذات الصلة بالإرهاب وتهديد الاستقرار الاجتماعي والوحدة الشعبية والترابية للبلاد .
هل من فرصة خروج من هذا المأزق؟
من جملة عوامل التحنط والشرنقة والرضا الذاتي الشخصاني عند بعض المفكرين العرب وتوجهاتهم السياسية، هو الارتهان للتاريخ والحديث عن امكانيات الإصلاح والنهضة دون الخوض في تفاصيل وآفاق تحقيقها وتحديد القوى الاجتماعية الفاعلة والقادرة على التغيير في كل مرحلة من مراحل النضال والكفاح السياسي والاجتماعي.
وبسبب غياب فرص التفاعلية والاستعداد للحوار القومي وتجاوز الحالة القطرية فان حالة الانغلاق هي السائدة. كما ان غياب فرص تحليل التاريخ العربي بما له وما عليه أدى إلى ضبابية التحليل وتحديد المواقف مما أدى إلى عجز وشلل في إرادة التغيير المطلوبة والملحة راهنا على الأقل.
وفي حالات المراوحة القاسية يسود ملل من مكانية المراجعة النقدية وتجاهل محاولات البعض في تفسير التاريخ ودور العوامل القومية والاجتماعية والاقتصادية. وإذا كان البعض يهرب ظرفيا إلى إشاعة مبدأ التوافقية وإسقاطها ماضيا وحاضرا بتغليب ما يسمى العوامل الروحية لاستنهاض الأمة انطلاقا من محاولات يائسة لاستجلاب الصور الباهتة للماضي وجعلها بديلا للحداثة وما بعدها حيث تسود هذه الحالة من حولنا كعرب نعيش اليوم بين أمم ناهضة فعلا ونحن نتراجع في وحول التخلف.
لا بد من الاعتراف انطلاقا من فهم ومراجعة التاريخ العربي ان العرب لم يقيموا الدولة الدينية العادلة رغم التزامها شكليا وظرفيا بقيم العدالة انطلاقا من الفهم الجوهري للإسلام ودعوته.
الدعوة للإسلام وتطبيق منظومات الحكم باسمه لم تقدم على مدى التاريخ النموذج الذي يسعى البعض إلى بعثه . ان محاولات استنساخ مجتزئات من حالات الماضي هو محاولة انتقائية للاستهلاك ألظرفي وهي لا تخلو من وهم وغالبا ما يصيبها العقم والعجز والركود، وتتغلب عليها عوامل الردة اكثر منها عوامل النهوض.
لا بد من صياغة وعي قومي جديد، يجسد إرادة إنسانية لمواجهة العجز والتخلف والتجزئة. ومن دون عقول متفتحة متسلحة برؤية نقدية للتاريخ والتمييز التام والفهم لخصائص الموروث من جهة وقيم المسؤولية الجمعية التي تحمي الإنسان كفرد وعنصر في تشكيل المجتمع والقوم أيضا وصولا إلى تشكيل الأمة.
وما لم تخرج النخب القومية عن التفكير بمشاريع الإصلاح المتلازمة لأنماط من التفكير النمطي المحسوب على الفكر القومي العربي، ومن دون الشروع بلورة أنموذج عربي نهضوي يسهم في حركة التطور العالمي. لازال الكثير منا أسرى حالة من الوهن بالارتباط بقوانين وشعارات المراحل السابقة والتي تؤكد واقعنا العربي المعاصر استحالة ثبات المكان والزمان وحتى الوعي الذي يجب ان تتسلح به الأجيال الحالية والقادمة.
ان التمسك بتلك الرؤية التقليدية للتاريخ والمجتمع ستعرقل رؤية وتحديد المنظور الحديث للعلم حيال التاريخ نفسه والتطور الإنساني لان التعصب للافتراضات المسبقة في التفكير والاعتقاد بثبات المفاهيم أو ديمومة الظواهر يمنع ازدهار المجتمعات ويدفع نحو المزيد من الأزمات والصراعات في اطر البيئة الداخلية لهذه المجتمعات الماضوية، كما في إطار علاقتها مع البيئة الخارجية، حيث المجتمعات التي تبنت التحديث بشكل مشوه وعشوائي متخبط ومنها ما رفضت التقليدية النمطية فصارت مثلا يضرب به كحكاية مشية الحمامة والغراب.

ــ يتبع الحلقات الثالثة والرابعة والخامسة.
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.
******

محاضرة ألقيت في ندوة الفكر القومي التي نظمها مركز ذرا للدراسات والأبحاث يوم 2 تموز / جويليه 2017 بإحدى قاعات جامعة السوربون بباريس
القسم الثالث
خطاب الصحوات والإصلاح والتغيير
ظهرت الصحوات الإسلامية وتكرر الكذب والوهم بها في العقود الأربعة خصوصا، ولا تخلو مواعيد الإعلان عنها عن أهداف مبيتة لها وضمن الاستهداف المنظم للفكر القومي وخاصة في الوطن العربي.
لقد أنتج العقل الماضوي ظاهرة ما يسمى ” الصحوة الإسلامية” التي أخذت لبوس الدين والإيمان والتقوى تمظهرا وورعا لممارسة السياسة وفق منطق وأخلاق ميكافيلية وذرائعية لتحقيق أغراض مبطنة أخرى تختفي وراء جبة الإسلام وعمامته ولحيته وأشكال أخرى من طقوس مضافة بشكل مفتعل لتضيف نكهة معينة.
ولعل تبني الحركات الاسلاموية وأحزابها وواجهاتها بما يسمى ” الخيار الديمقراطي”، كان من مفارقات البدع الحديثة المبتكرة للدين الذي تخلى ظاهريا عن مبدأ البيعة والشورى وتقليد الإمارة على شؤون المسلمين في الدولة وحتى ما دونها من بنيات تنظيمية بمستوى أحزابهم وحتى فلول جماعاتهم الإرهابية منها وتحالفاتهم الاسلاموية المبتكرة.
يبدو وكأن هذه الجماعات تخلت وأدارت الظهر لمبدأ الشورى وحكم الجماعة. يلاحظ ذلك من خلال الحملات الانتخابية التي قامت بها هذه الجماعات فأكدت قدراتها على التعبئة انطلاقا من المساجد ودور العبادة واستغلت الفتاوى والمرجعيات وبدعم سخي، مالي وإعلامي، يوظفه لها المال السياسي القادم من مختلف مصادره الأجنبية، والموظف بشكل جيد لإنجاح حملات الانتخابات والفوز بها بكل الوسائل البراغماتية والنفعية والمضللة أيضا باسم الدين.
وتبقى شعارات الفضيلة والدعوة إلى الإصلاح والصحوة والاستبصار والتعبئة الجماهيرية تطلق في كل مكان باسم مؤسسات تدعي أنها تواجه:
( الظلم والفساد وقمع الأنظمة السياسية القائمة والدعوة إلى تغييرها… الخ. )، وهي في الحقيقة مؤسسات حملت كل المظاهر والأمراض التي تدعي أعلاه مواجهتها للوصول إلى السلطة، كغاية ووسيلة للحكم لا غير.
ومع ظهور الدولة العربية المعاصرة ، ترسخ معها عبر العهود خطاب تبريري يخدم توجهات السلطة الحاكمة لا غير، غالبا ما اتسم بتراجع العقلانية والمنطق المقبول وحتى الإقناع للرعية والمواطنين في هذا البلد أو ذاك.
يفترض ان من مهمات الدولة العربية المعاصرة التي ظهرت سلطاتها منذ استقلال العراق في عشرينيات القرن الماضي وما بعده من استقلال أقطار عربية ان تقوم هذه الدول الفتية وسلطاتها بالعمل على تحرير الإنسان من تركة قرون التخلف العثماني، وسيادة الروح العشائرية والقبلية، والانخراط في مواطنية هذه الدولة العربية أو تلك من خلال إقامة نظام مدني يتمثل بدولة القانون والمؤسسات والحقوق واعتماد انتماء الفرد إلى دولته من خلال المواطنة التي تكفلها القوانين والتشريعات الدستورية وقيم العدل والمساواة.
لقد تم تجاهل خصائص الدولة المعاصرة في العالم، وهي نتاج تطور ثقافي واجتماعي يجب ان تقوم على مبدأ أساسي بالفصل ما بين الديني والسياسي.
وقد واجه تشكيل الدولة العربية من ظهورها والى اليوم عجزها ان تكون دولة دستورية فعلا، تحكمها مبادئ تجسد الحالة الوضعية للقانون والواقعية السياسية والاجتماعية، فقد ظلت أسيرة التأرجح بين الديني والسياسي ، ولم تتمكن من التخلص من تكرار عبارة : ” الدين الإسلامي مصدر القوانين والتشريعات”، وهي عبارة مطاطة نسبية تلاعب بها المشرعون وكتاب الدساتير، بسبب عدم الإدراك التام وانعدام الوعي للمعنى الحديث لوظيفة الدولة.
وفي الواقع ، يبدو للعامة من الناس ان لا خلاف أو تعارض أو تقاطع بين الدولة والدين، سواء كانت الأغلبية المطلقة للسكان إسلامية أو بنسب معينة.
المشكلة هنا تتمثل عميقا بين طبيعة العقل والسلطة الحاكمة، حيث يميل العقل لتوظيف أدواته الدينية أو الوضعية لتكوين الطابع العام للسلطة، استبدادية كانت أم ديمقراطية.
كما أن التخلف السائد في الحياة العربية يتسع منذ أن سادت روح الاتكال والقدرية وقبول الأمر الواقع ، ورفض صيرورات التقدم وارتفاع معدلات الجهل والأمية؛ مما يدفع الكثيرين إلى وضع الإيمان طريقا وخلاصا نحو الظفر بالجنة في السماء ولو على حساب تدمير الحياة على الأرض.
ان طرح مفهومي ” الأمة الإسلامية” بدلا من الإقرار بوجود ” الأمة العربية” هو جوهر التناقض في لب الخطاب الاسلاموي الذي يسعى إلى لي الحقائق عن طبيعة تكوين الأمم وظهور القوميات الكبيرة منها والصغيرة وتواجدها في أوطان محددة لها في أقطار معينة وانتشارها في بقعة محددة في هذا العالم .
فمفهوم ” الأمة الإسلامية” يعني في الخطاب الاسلاموي هو ” الدين المشترك” ، وفي مضمون أصحاب هذا الخطاب وحسب المبدأ والآية الكريمة : ( إن أكرمكم عند الله اتقاكم)، وهذا مبدأ الهي حكيم، ويستحقه أصحابه من المتقين والمؤمنين ؛ لكن معايير قياس التقى على الأرض لا يجب ان يقوم بها بشر بدل الخالق.
وانطلاقا من فهمهم ان الأمة الإسلامية هي جامع مطلق وحصري لكل أصحاب الدين المشترك على بقعة / بقاع هذه الأرض الواسعة فان المفهوم يأخذ جانبا طوباويا من الصعب حصره وإدارته في نظام أو دولة أو سلطة وحتى في إمارة معينة لهؤلاء المؤمنين بشخص الحاكم/ الخليفة.
ولهذا فإن دعاة الأمة الإسلامية يسعون لتشتيت الروابط العرقية والاثنية والانتماء القومي، مما يؤدي نتيجة منطقية إلى تدمير المشاعر المشتركة التي تربط جماعات بشرية مشتركة تم تحديدها علميا بتعاريف مثبتة في العلوم الاجتماعية وعبر نظريات رصينة حول نشأة الدول القومية بوضوح، تحكمها تواجد وتوافر عدة عوامل وروابط منها: اللغة والوطن والثقافة والانتماء الحضاري والتاريخ المشترك، ويضاف إليها عوامل أخرى كالدين بدرجة ما ، وكذلك المصالح الاقتصادية، حسب التعريف الماركسي الأخير الذي اعتره عامل ومحرك أساسي في التكوينات والتشكيلات القومية المعاصرة .
ان عوامل التلاقح بين الدين والقومية في عملية تفاعلية طويلة تحكمها وجود الدولة لعصور وأزمان لتسهيل عملية الاندماج والتطور المشترك دون تغلب عامل على آخر؛ فقدسية الدين تبقى، تحكمها نظرة الفرد وسط جماعة تشاركه المعتقد بالتوجه معاً إلى السماء لإظهار الطاعة طمعا برضا الله واكتساب عفوه ورضاه وثواب الآخرة.
أما الانتماء القومي فتحكمه نظرية واقعية مُعاشة على الأرض، تكسب الفرد قناعة بالانتماء إلى منظومة بشرية تربطها عوامل الارتباط القومي لتشكيل عائلة وقبيلة ومجتمع متعدد القبائل وصولا إلى حالة ظهور مجموعة متجانسة ثقافيا لتشكيل قومية أو امة معينة، وليس بالضرورة تجمعها روابط عرقية مجسدة في نقاء العرق والدم المشترك، ان العوامل الثقافية والعيش المشترك دفعت مجتمعات معينة إلى الظهور وكأنها قومية؛ كما هو الحال في فهم العروبة عند كثير من أبناء الأعراق الأخرى المتعايشين لقرون مع العرب فتشاركوا في ثقافتهم وانتموا إلى حضارتهم العربية الإسلامية المشتركة.
وما في تباين وإدراك هذين المفهومين تحدث المواجهة بين ما هو قومي وديني، وفي غياب قيام الدولة القومية القوية، غالبا ما كان مصدر تلك المواجهة هي تلك الحركات والنماذج والفرق والنحل المتطرفة في الدين وحتى في حالات القومية والاثنية التي تحاول تسييس الإسلام وتبني إستراتيجيتها على نبذ الفكري القومي وشيطنته واتهامه بالعنصرية؛ في حين كانت العلمانية ملاذ بعض القوميين لنصح الناس ودعوتهم لاجتناب التطرف وحتى التعصب القومي والتمييز الدقيق والعلمي بين الدين والسياسة، من خلال تذكير شعوبهم بان لهم حقوق في ممارسة الطقوس والقيام بالواجبات الدينية والدنيوية كحقوق مشروعة للفرد تكفلها لهم المجتمعات الواعية والدولة .
وفي خضم الجدال المحتدم اليوم بسبب تركة ممارسات الأنظمة المحسوبة على الفكر القومي من خصومها سياسيا وما يتعرض له القوميون من ممارسات الأنظمة والحكومات والجماعات الإسلامية والثيوقراطية فلا بد على الجميع العودة إلى المنطلقات الأساسية في فهم وظيفة وقيام الدولة المعاصرة ، لا على أساس الطراز الديني، ولا العرقي باعتبارها دولة تسلط قوم على أقوام أخرى؛ بل انطلاقا من أساس الرابطة الوطنية التي تجمع أفراد مجتمع ما وخضوعهم طوعيا وبأيمان مشترك تحت سلطة ما، وفق عقد اجتماعي مقبول .
وانطلاقا من تجارب دولية وأوربية معاصرة تتجلى في ظهور الدول القومية في عدة دول كألمانيا وروسيا وفرنسا وبولندا وغيرها، فان الدولة القومية وفق أنماط التسيير الديمقراطي لا تلغي خصوصيات الشعوب والجماعات الدينية آو الاثنية داخلها لأنها تتوجه إلى انجاز وظائف متعددة في مجتمعاتها وتترك للشعب أفرادا وجماعات الانتظام والنشاط في أحزاب وحركتها يحكمها دستور وقوانين لتنظيم العلاقة التنافسية للوصول إلى السلطة .
ان العبادات في الدولة الحديثة وممارساتها حق مكفول وطنيا ودوليا وفي كل الأحوال يجري التعامل معها كمسألة إنسانية بحتة مرتبطة بالفرد المنتمي إلى مجتمع وجماعة بشرية تشكل رعايا أو ساكنة تلك الدولة.
كما ان الدولة الوطنية أو القومية المعاصرة لا تتقاطع في مهامها تجاه حقوق مواطني مجتمعاتها وعليها ان لا تغرق بأية حالة دينية ، أي إنها نرعى حرية الأديان في مجتمعاتها من دون تدخل أو وصاية أو استغلال أو توجيه مؤسساتي أو سياسي وعليها الحذر من التدخل التخصصي الفئوي وتحترم بصرامة تامة مبدأين هما:عزل الدين عن السياسة والابتعاد عن التعصب الديني أو الطائفي أو المذهبي.
ــ يتبع الحلقة الرابعة والخامسة والسادسة.
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.

القسم الرابع
نحو تحديد مفهوم دقيق للمواطنة
قامت الدول العربية قبل الإسلام على أساس قبلي وبارتباط القوم على أساس التعصب القبلي ورابطة الدم والمصاهرة بينهم، وهكذا كانت دولة سبأ يحكمها مجلس قبائل وكذلك دول المناذرة والغساسنة .
وما عدا فترة دولة الرسول وفترة الخلافة الراشدية فان الدولة الاموية يفترض أن تقوم على أساس العقيدة الإسلامية بدلا من الرابطة القبلية ألا أن مبدأ التوريث الذي تمسك به الامويون حصر الخلافة ببني أمية في الشام وبعدهم بني العباس في العراق .
وعندما أصبح نظام الحكم في الدولة الإسلامية ملكيا مطلقا حل الاستبداد محل الشورى وأصبح التمييز بين أفراد الرعية تحكمه فوارق كثيرة منها على أساس قومي أو ديني أو جغرافي؛ فالدولة الاموية اتخذت التمييز بين رعاياها طابعا عروبيا أكثر منه إسلاميا فاقتصرت حقوق الرعية على الصعيد السياسي على مبدأ قوة وحضور القبائل العربية ومدى قربها وحظوتها وتحالفها مع بيت الخلافة.
واختلفت الأمور نسبيا مع الدولة العباسية حيث تقاسم النفوذ في السلطة السياسية العرب ثم الفرس والأتراك كهويات وقوميات صغرى تتنازع وتتحالف حسب الظروف والمصالح.
يتطور فهم مفهوم المواطنة من إدراك مفهوم الدولة التي ترتبط بدورها تاريخيا بمقومات خاصة وظروف تكوين والانتماء لساكنتها في مستقر جغرافي معين وتجمعها ارتباطات اجتماعية سواء كان عرقية أو اثنيه أو انتماء طوعي إلى جماعة بشرية بحكم المصالح المتبادلة والاستقرار معها لتكوين مجموعة تاريخية من الناس تتمتع بالخضوع والانضباط إلى منظومة قانونية تحكمها وتنظم علاقاتها والمحافظة عليها ضمن إطار الدولة .
كما ينبغي التمييز أيضا بين مفهوم الأمة والقومية؛ فالأخيرة لا تتمتع بالضرورة بتنظيم سياسي مستقل لها، بينما الأمة ـ الدولة هي التي تفرض الإطار المؤسساتي بين مواطنيها وتمنحهم حق الجنسية بقانون ودستور ضمن نطاقها الجغرافي والإقليمي المحدد لها، والعمل على كل ما من شأنه المحافظة على وحدة وتماسك الوحدات السياسية التي تحول تلك القومية ومواطنيها إلى أمة وشعب متجانس التطلعات والآمال.
وفي معظم الموسوعات والقواميس العربية خلا الخطاب الإسلامي التاريخي من لفظة ومصطلح المواطنة والمواطنين، التي تقابلها الرعية وهي عامة الناس التي تخضع لحاكم وسلطة ما وقد عبرت عن حالة القبول للسلطة اخذ البيعة للحاكم أو الخليفة وغالبا ما يختزل شخص ما هذه البيعة بحكم منزلته القبلية أو الاجتماعية نيابة عن بقية السكان من العامة.
يشير لويس برنار إلى بعض الإشكاليات المرتبطة بمفهوم المواطنة في اللغات العربية والفارسية والتركية وعموم مفردات الخطاب والفكر الإسلامي عموما، وبعدم وجود لمصطلح المواطن citizen.
و تعرف بعض الموسوعات العربية اصطلاح المواطنة بأنه يشير إلى أمة أو وطن وإنها تبعا لذلك تسبغ على الساكنة في ذلك الوطن صفة المواطن وتفرض عليه واجبات كما تمنحه حقوقا. أما لفظة الأمة والقوم والقبيلة فقد وردت اصطلاحيا في القرآن الكريم في كثير من المواضع.
رغم تطور وظهور الدولة القومية أو الوطنية اعتاد المسلمون على اعتبار صفة الرعية في ديارهم كل من يدين بالإسلام دينا، بغض النظر عن العرق واللون والجنس ، ويشمل ذلك أيضا غير المسلمين من “أهل الذمة” طالما أنهم يدفعون الجزية ويقبلون حماية المسلمين لهم .
ويرى البعض من مؤرخي الدولة العربية والإسلامية في مختلف عصورها بأن الأقليات غير المسلمة في الدول الإسلامية عاشت بأمان في كنف المجتمعات والدول الإسلامية، ويسجل بعض المؤرخين إن مبدأ البر بأهل الذمة قد اتخذ في الواقع التاريخي صورا أدنى من مبدأ المساواة الكاملة مع بقية أفراد الرعية ، لكن هذا الحكم ليس ثابتا وشاملا؛ وإنما كان في حالات لم تلزم الحكام المسلمين بذلك، خاصة عندما توفرت الفرص لغير المسلمين في العمل والاقتراب من دواليب الحكم في الفترات الذهبية في بغداد والأندلس وغيرها من الأمصار والولايات الإسلامية.
وفي فترات ذهبية من تاريخ الدولة العربية الإسلامية في الأندلس حصلت حالات من المساواة وتسنم الوظائف أفرادا وأسر من غير المسلمين، ولم تخل بيوت الخلفاء والأمراء المسلمين من أطباء ومستشارين ومترجمين وفنانين كانوا من أهل الذمة، وخاصة من أهل الكتاب، حيث تسنموا مناصب عليا في دواوين الدولة الإسلامية، وحفظت لأهل الذمة حقوقهم رغم تمسك غالبية المسلمين بأبدية الصبغة التاريخية لعقد الذمة، وبعدم جواز ولاية غير المسلمين المناصب العليا في الدولة الإسلامية.
واستمر هذا الأمر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث تغير مفهوم وتداول لفظة المواطن والمواطنة المرادفة للمقابل الأوربي citizenship بعد أن توطدت صلة بعض الإصلاحيين العرب بالمنظومة الفكرية الأوربية، حمل تباشيرها عدد من الرحالة والدارسين الذين عادوا من ديار الغرب، ومنهم رفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ثم تمثلتها إصلاحات قام بها محمد علي باشا في مصر. أما في بقية البلدان العربية فقد وصلتها بعض من إصلاحات سياسية وإدارية وعسكرية شملت أطرافا من رعايا الدولة العثمانية في العراق وبلاد الشام وغيرها من البلدان.
كانت ترد لفظة الرعايا غالبا في الحالات التي كانت تنظم بها أمور الدولة وعلاقتها مع الأهالي أو الرعية وردت في مراسيم وقوانين وتعليمات إلى الولاة العثمانيين ووكلائهم في حكم البلاد في الولايات العثمانية.
في تعريف للفيلسوف الفرنسي ارنست رينان ورد في محاضرته في جامعة السوربون في عام 1882 : (لا ليست الأرض هي التي تصنع أكثر من العرق امة من الأمم. فالأرض تقدم المادة وحقل الصراع والعمل، أما الإنسان فيقدم الروح . الإنسان هو الأساس كله في تكوين هذا الشئ المقدس الذي نطلق عليه الشعب، والشئ المادي مهما بلغ شأنه لا يكفي لذلك. الأمة مبدأ روحي تحصل من تعقيدات التاريخ العميقة، الأمة عائلة روحية لا مجموعة محددة بترسيمة الأرض فقط).
منذ أواسط القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين استمر العمل النهضوي في البلدان العربية، تحمله رجال عرب من المسلمين وغير المسلمين، تكاملت أدوارهم الفكرية فإضافة إلى محمد عبده والكواكبي فان هناك بطرس البستاني وإبراهيم اليازجي وأديب اسحق وعبد الحميد الزهراوي ورجالات المنتدى العربي وعزيز علي المصري ورجال جمعية العهد وجمعية العربية الفتاة ورجال المؤتمر العربي في باريس 1913 وخليل سعادة وجبران خليل جبران وشعراء وأدباء عراقيون كمعروف كالرصافي وجميل صدقي الزهاوي وشهداء 6 أيار / مايو 1916 الذين أعدمهم جمال باشا ورجال المؤتمر السوري في فلسطين في 7 مارس/ آذار 1920 وعبد الرحمن الشهبندر وغيرهم.
ظل الجدل محتدما حول مفهوم المواطن وحرية الفرد والتزامات المجموع تجاه الفرد وما هي حدود الديمقراطية والقومية والتوفيقية بين كل هذه المفاهيم نظريا وممارسة.
وإذا كان المصلح عبد الرحمن الكواكبي، بنظر المفكر محمد عابد الجابري، هو الأب للفكر الثوري العربي، ودوره لم يكن قوميا فحسب ؛ بل كان أيضا إصلاحيا ففي جريدتيه ” الشهباء” و ” الاعتدال”، وفي مؤلفيه ” طبائع الاستبداد” و ” أم القرى” هاجم الكواكبي مبكرا الاستبداد والسلطة المطلقة، ودعا لأمة ذات ” جامعة سياسية اختيارية لكل فرد حق إشهار رأيه فيها”، وطالب الكواكبي بنشر العلوم، واعتبر ذلك مسؤولية وطنية، وكشف الطائفيين ” ذوي الوجاهة الدينية” وحارب الطائفية والتعصب الديني، مسيحيا كان أم محمديا ، ودعا إلى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية والفكرية، طالما أن هناك ولاء للوطن الذي هو “من أعظم أسباب انتظام العالم، وهو الواسطة الوحيدة لعمار البلاد ونجاحها، وحفظ شرفها وحقوقها” ،.
وإذا كان الكواكبي رغم دعوته الإسلامية بدا كمصلح ؛ فقد كان رائدا في الدعوة للحد من وسائل الاستغلال بين الناس حينما دعا إلى تحديد الملكية الزراعية وتأميم المرافق العامة ودعوته إلى ” مزج دعوة الإحياء القومي الثقافي بالنضال السياسي المباشر” ، وانه ” … انتمى بالنتيجة … إلى طبقة المناضلين القوميين الثائرين” ، وبحق فقد شكل فكر الكواكبي أساسا للفكر القومي والإصلاحي الاشتراكي عند أنطوان سعادة وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر.
وعلى الجانب الآخر فقد دعا محمد عبده إلى تعليم الشعب وتطويره، ليكون قادرا على حكم نفسه. وحسب محمد جابر الأنصاري يكون الشيخ محمد عبده ” أبرز صوت في الفكر العربي الحديث كان ينادي بدور[المستبد العادل]… وقد ارتبطت بفكرة الإيمان عنده بدور وجود “المستبد العادل” لدى الشيخ محمد عبده نظرا قلة ثقته بدور الجماهير ، حيث رأى محمد عبده : ( أن الغوغاء هم عون لغاشم وهم يد الظالم ) ، في حين كان الكواكبي يطرح ( مفهوم الاشتراكية الجماعية المنظمة في البيئة العربية) .
كما عرف عن انشغال الشيخ محمد عبده في المهاترات الدينية وإبراز أوجه الخلاف بين المسيحية والمحمدية، كان الكواكبي يدعو إلى استئصال نفوذ رجال الدين في ميدان السياسة والاجتماع والى الفصل بين السلطتين الروحية والزمنية.
في الأدبيات الماركسية التقليدية تتراجع لفظة المواطنة أمام ضرورة وحدة الطبقات، وخاصة وحدة الطبقة العاملة وحلفائها من فئات العمال والفلاحين الفقراء المعدمين. من هنا نظر الماركسيون إلى ظهور لفظة “المواطنة” كمفهوم ليبرالي كان مرتبطا،حسب فهمهم لها، بربطها إلى حد ما مع نشوء الدولة القومية، واقتصر تداولها على تأكيد الحقوق المدنية والسياسية؛ دون الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإنها والحالة هذه كما يرى الماركسيون: مفردة تعني بحقوق الطبقات التي تملك أكثر مما تعني حماية مصالح الذين لا يملكون من وسائل الإنتاج أو الأرض ، ناهيكم عن تعارض مفهوم المواطنة مع الاتجاه العام للماركسية في الانحياز بعيدا نحو الأممية وتجاوز الوطنية والقومية في سبيل الوصول إلى المجتمع الشيوعي اللا طبقي .
وانطلاقا من مقولات الخطاب اليساري والطبقي في قضية مفهوم المواطنة يجري التأكيد أساسا على نفي وعدم توفر شرط المساواة التي تعد واحدة من أهم الخصائص الجوهرية للرأسمالية وشروط نمط الإنتاج الرأسمالي؛ وحسب الفهم الماركسي والشيوعي، يؤدي تمركز رأس المال إلى عدم المساواة في ملكية وسائل الإنتاج ، ذلك يؤدي حتما إلى عدم المساواة في كل مجال، ضمن التنافس الاقتصادي والى تباين مستويات توزيع الدخل، ويحد من الحرية الاجتماعية التي تحددها المكانة الاجتماعية للفرد وغناه وموقعه الاقتصادي داخل طبقته.
وهكذا فالمواطنة المرتكزة على المساواة الحقة لا تتحقق وفق رؤية الفكر الماركسي إلا في المجتمع الاشتراكي، وبزوال الطبقات، وعندما تتلاشى الفوارق في الملكية وفي توزيع الثروات.
أن ظهور التيارات الليبرالية في ظل الدولة العربية الملكية وبعدها الجمهورية اصطدمت بأكثر من حاجز في ظل تصادم التيارات القومية والشيوعية وظهور حركة الإخوان، مما قاد إلى سبيل انتهاج الانقلابات العسكرية التي حملت بياناتها الأولى الدعوة إلى الجماهير والثورة، ودعت في خطابها التحريضي إلى التقريب بين الطبقات، والدعوة إلى إزالة الفوارق الطبقية والمادية. وحاولت مجموعات من الضباط بعد انقلابات عسكرية ساندتها جماهير معدمة في 23 تموز / يوليو 1953 بمصر و 14 تموز/ يوليو في العراق إلى السيطرة على الحكم والقيام ببعض التغيرات، منها تحديد الملكيات الزراعية، وإصدار تشريعات وقوانين الإصلاح الزراعي وتأميم بعض المرافق الحكومية العامة، وبناء منظومات القطاع العام .هذه الخطوات خلقت مناخا ثوريا وحماسا لدى الطبقات الاجتماعية الدنيا وحراك بعض المثقفين وشغيلة المدن والفلاحين وصغار رتب الجنود.
في ذات الوقت دفعت عددا من الشخصيات والقوى الاجتماعية المحافظة والمرتبطة مصالحها بالإقطاع، وبعض النخب الحاكمة البائدة ، ومنها مجموعات ادعت تبنيها الليبرالية إلى معاداة مثل تلك الخطوات الحكومية الجديدة، فسعت إلى إجهاضها عن طريق بيروقراطية الإدارة وتأليب القوى الرجعية عليها، واستغلت تلك القوى في جوانب من حملتها تلك تحالفات مع رجال الدين ومرجعيات دينية ونادت بتحريم التأميمات، وتكفير داعميها، واعتبار كل ما استرجعته الدولة من أراضي ومصانع وامتيازات من قوى الإقطاع وأصحاب رؤوس الأموال والمصانع بمثابة اغتصاب غير شرعي لأراضي وأموال الغير. ذلك الأمر دفع إلى بلوغ الصراع الاجتماعي والطبقي مداه، والى درجات كبيرة من التوتر الاجتماعي والسياسي انتقل إلى الشارع ، ودفع من جديد إلى تنظيم انقلابات عسكرية، متتالية كان الضباط المغامرون يقدمون عليها، بدعم وتحريض ومباركة بعض الشخصيات والقوى السياسية المتصارعة خلف الكواليس من أجل الوثوب إلى السلطة .
وإذا كانت التجربة اللبنانية قد حافظت على شكل من أشكال النظام الليبرالي الموروث ضمن التركة الفرنسية التي تركها الانتداب الفرنسي وبتقسيم السلطة إلى كانتونات ثلاث ذات بعد طائفي، استمرت إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي فإنها قد شابها الكثير من حالات تكريس الحكم الطائفي وأرست التجربة اللبنانية المحاصصة وتوزيع السلطة بين البيوتات الإقطاعية والطائفية اللبنانية، وخاصة الغنية منها، ولم تظهر مساواة المواطنة، لا في الحقوق ولا في الواجبات، مما مهدت للحرب الأهلية وانقسام لبنان طائفيا إلى يومنا هذا.
وبعد التسعينيات كان سقوط النموذج السوفيتي مدويا ، تبعته حالات التدخل والغزو والاحتلال العديد من الأقطار بعد غزو العراق واحتلاله ،وبسبب فشل العديد من التجارب والنظم الاشتراكية في العالم من بلدان أوربا الشرقية ، وانتهاء حقبة نفوذ سلطات بعض الأحزاب القومية الحاكمة في العراق وسوريا سيكون كل ذلك دافعا إلى إعادة النظر في كثير من المقولات السابقة والخطاب القومي بكل مضامينه الاجتماعية والسياسية السابقة، والتوجه نحو رؤية جديدة قائمة على مبدأ قبول التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والحرص على توافر الفرص لظهور مجتمعات مدنية تتوفر فيها عوامل وشروط وقوانين ودساتير تكفل حماية المواطن وحقوق الإنسان وحرياته، والمشاركة في الاستفادة من الدخل القومي للبلاد في تعويضات توفير السكن والضمان الصحي والتعليم وحق التقاعد وحماية الطفولة والشيخوخة وحالات العجز وحتى تعويضات البطالة .
وهذا يتم عبر توفير فرص المساواة في الحقوق والواجبات دون أي تفريق بين أتباع كل الديانات في البلاد واعتماد مقاييس العصر في احترام المواطنة بمعيار الكفاءة والقدرة على انجاز كل مواطن لدوره واحتلال مكانته في تقسيم العمل الاجتماعي وتوفير ظروف العمل السياسي والديمقراطية والعمل والاستثمار الاقتصادي وفق اطر قوانين البلاد التي تكفل التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال في ثروات البلاد وتنميتها.
ــ يتبع الحلقة الخامسة والسادسة.
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.
******

القسم الخامس

الانتقال والتغيير الديمقراطي وحراك الشباب
ما عدا بعض التيارات الليبرالية العربية، وهي قليلة جدا، تلك التي بشرت منذ العقود الثلاث الأولى من القرن الماضي بإمكانية التغيير والانتقال الديمقراطي في بلدانها، في حين رأى الكثيرون من مناضلي القوى القومية في عدم إمكانية تحقيق مثل هذا الانتقال وإجراء التغيير الديمقراطي المنشود من خلال التناوب السلمي على السلطة، واعتبروا ذلك بمثابة حالة طوباوية بعيدة المنال، نظرا لتعقيد البنيات الاجتماعية العربية، كمجتمعات عشائرية، ومنها محافظة موروثة، وخاصة بما ارتبط منها في انتشار ملكيات الإقطاع العقاري الكبيرة للأرض والملكيات الكبرى للوحدات الصناعية والهيمنة العائلية على الإدارة والجيش ودواليب الحكم من قبل الأسر المالكة وحلفائها في السلطة.
ومع زيادة تمسك قوات الانتداب للدول الاستعمارية بدعم أنصارها في كثير من البلدان العربية، ومع سيادة الأمية وانتشارها على نطاق واسع، فان ممارسة الديمقراطية وانتخاب السلطات التشريعية واستقلالية القضاء وتشكيل الحكومة وفق حق الأغلبية النيابية كانت نادرة ؛ لذا تراجعت آمال القوى والتيارات المعارضة لأنظمة الحكم القائمة آنذاك وعجزها من الوصول إلى حالة الفوز والحكم في بلدانها من خلال البرلمان والمنافسة الديمقراطية فاتجهت الأفكار نحو طرح مشاريع العنف الثوري وتنظيم الانقلابات العسكرية، وهكذا اعتقدت وعاشت جميع التيارات القومية والاشتراكية والماركسية والشيوعية في إمكانية استخدام العنف وسيلة للتغيير وأداة ممكنة لتحقيق الوصول إلى الحكم. كما لحق ذلك أيضا أنصار الفكرة الجهادية الإسلامية وحركة الإخوان منذ خمسينيات القرن الماضي.
وما عدا حالة الجزائر حيث وصلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية إلى الحكم بعد قيادتها للثورة المسلحة (1954 ـ 1962) واستلامها السلطة بعد خروج المحتل الفرنسي بعد أن حكم البلاد 132 عاما، واعتبرت الجبهة التي تحولت بعد نيل الاستقلال الوطني إلى حزب سياسي حاكم يعتبر إن الشرعية الثورية هي مصدر السلطات ويعطي الحق لنفسه في التفرد بالسلطة رغم أنها تبنت شكليا اختيار بعض صيغ الانتخابات لإيصال أنصارها وممثليها إلى البرلمان والحكومة والنقابات والمنظمات الشعبية وتمسكت بقيادة الجيش الذي فرض رجاله على رئاسة الحزب والدولة في عهدي الرئيسين هواري بومدين والشاذلي بن جديد معيدة نفس النمط الذي سارت عليها الأحزاب الشمولية الحاكمة في الدول الاشتراكية أي الجمع بين رئاسة الدولة وقيادة الحزب والجيش .
وفي مصر وبعد نجاح الانقلاب العسكري في 23 يوليو/ تموز 1953 بقيادة جمال عبد الناصر ومعه مجموعة من الضباط الأحرار الذين فرضوا أنماط من التنظيمات السياسية الحاكمة وبعدها فرض أنماط حكم الحزب والتنظيم الواحد كالاتحاد الاشتراكي وحتى الطلب من بقية القوى والأحزاب السياسية حل نفسها والاندماج في هذا التنظيم الموحد، الذي ظلت قيادته بيد العسكر برئاسة الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وأخرهم عبد الفتاح السيسي.
وليس ببعيد عن ما جرى في مصر تكرر ما حدث في العراق بعد انقلاب 14 تموز 1958 حيث تكررت نفس تلك التجربة في العلاقة بين العصب والمجموعات العسكرية التي تبنت استلام السلطة عن طريق الانقلاب العسكري، والتمسك بها من خلال تفرد القيادة وحصرها في مجموعة سياسية معينة أو ارتباطها بحزب سياسي كالبعث في سوريا والعراق والقوميين العرب خلال فترة الرئيسين عبد السلام محمد عارف وأخيه عبد الرحمن محمد غارف مما سمح بشكل نسبي إلى وصول بعض الأجنحة المدنية في هذه التيارات القومية إلى قيادة التنظيمات والأحزاب وهي بدورها تمسكت بقيادة الجيش لنفسها لتسيير عجلة الحزب والحكومة والمجتمع.
لقد مر زمن طويل دفعت به الشعوب العربية ثمنا باهضا نتيجة الحماقات السياسية التي ارتكبت بتسمية الخطاب السياسي القومي للانقلابات العسكرية ومباركتها بتسمية الثورات المرتبطة بتواريخ أيام الانقلاب، وهي في الحقيقة واحدة من وسائل التضليل السياسي حينما يقدم ضابط مغامر على تحريك وحدته العسكرية ليحتل مبنى الإذاعة ومحطة الإرسال والتوجه نحو القصر الجمهوري أو الملكي ويصدر بيانا مفبركا باسم الشعب ثم سرعان ما يشكل مجلسا لقيادة الثورة ومجالس عسكرية وحتى تنظيمات مليشياوية أخرى تحكم وتعدم وحتى تصفي الخصوم باسم الشعب ويصادر الجهاز القضائي والتشريعي بمحاكم عسكرية ومجالس عرفية وخاصة منها أخذت مسميات محاكم الثورة، ويختزل الحكم بمجموعة موظفين تحت إمرة العسكر توضع لنفسها دستورا للبلاد ومجلس وطني شكلي أو برلمان ويجري تشكيل مجلس وزراء ينفذ ولا يحكم وينقاد تماما تحت سلطة المنصب الأول والأوحد في البلاد.
وهكذا انقطعت الصلة بين استراتيجيات تلك الانقلابات ونخبها العسكرية والسياسية وبين هدف تحقيق الديمقراطية، كنظام حكم، تراجع بل تلاشى بشكل وصل في مراحله اللاحقة إلى محاولات الحكام والرؤساء توريث أبنائهم للحكم في أكثر البلدان العربية، وهو ما قاد الأوضاع إلى التعفن السياسي واليأس من الإصلاح ، وعاد طرح الديمقراطية لا مطلبا ليبراليا بل شعبيا أخذ شكل متصاعد مما مهد الطريق إلى الاستنجاد بالقوى الأجنبية، وحتى الاستعمارية وبعدها تحريك أحداث الربيع العربي التي تصدرتها المطالب الديمقراطية والعودة إلى الانتخابات وحكم البرلمان… الخ..
إن القوى السياسية الحاكمة في الوطن العربي في العقود الأربعة الأخيرة من خلال تمسكها بسلطة الحزب الواحد ألغت حتى الخيار الديمقراطي في داخل أحزابها، فعقدت المؤتمرات الحزبية الشكلية، لتزكية وبقاء بطانة الحكم وللمصادقة فقط على بقاء سلطة الأمين العام للحزب ورئاسته للدولة والمجتمع وبشكل مطلق.
وفي الوقت الذي مورس العنف بكل أشكاله ضد الخصوم تم استبعاد الخيار الديمقراطي والتغيير حتى من داخل منظومة الحزب الحاكم نفسه وأجهزته التي تذاوبت وانحلت فأصبحت جزء من سلطة القمع للدولة، كما تراجعت لدى المعارضات السياسية إمكانية التغيير الديمقراطي السلمي، فذهبت هي الأخرى إلى تبني العنف السياسي، مطالبة بشعارات إسقاط النظام وإلغاء سلطات الحزب الواحد، وهكذا علقت في الأذهان لدى العامة: إن الثورة تستدعي العنف بالضرورة، وصار هدف تحقيق الديمقراطية بعيد المنال بالوسائل السلمية والتنافس من خلال الاحتكام إلى صندوق الانتخاب.
ترسخت الفكرة لدى أجيال من العرب إن إستراتيجية الانتقال الديمقراطي باتت في قطيعة مع إستراتيجية الثورة أو حتمية التغيير وحتى الإصلاح الممكن؛ فحتى تلك القوى التي وصلت إلى السلطة بعد غزو العراق وأحداث الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وبلدان أخرى تبنت هي الاخرى خيار العنف والتزوير واستخدام المال والإعلام السياسي لإقصاء خصومها من أمكانية التناوب على الحكم، وان من كان يطرح التغيير من خلال تثوير المؤسسات بات في قطيعة مع شعارات الأمس القريب ونسف منهجه، وألغى كل مضامين التغيير الاجتماعي والسياسي، نظرا لتشابك علاقات القوى الصاعدة مع القوى الإقليمية والخارجية وتجنيدها علاقات السلطة التي صارت بيدها مع القوى والمراتب الاجتماعية التي نسفت الخيار الديمقراطي ومنعت الانتقال الديمقراطي لغيرها من المنافسين لها.
وفي الوطن العربي لازالت تسود ثقافة التمسك بالسلطة، وبأي ثمن، وباتت قوى المعارضة بالأمس سلطة تمارس نفس القمع الذي عانت منه قبل ذلك وعارضته؛ بل أبدت في أكثر من حالة، وضعا شرسا ودمويا ضد جماهيرها.
ورغم تكرار عدد من دورات الانتخابات في عدد من البلدان العربية فلا تزال ثقافة الممارسة الديمقراطية عند السلطات ومعارضاتها متراجعة على حد سواء، ولا تعكس وعي القبول في التناوب السلمي على السلطة، ومباركة الفائز، والتعاون معه في بناء ثقافة سياسية رصينة ترسي تقاليد سياسية تخفف من حدة الصراعات السياسية الموروثة عن عقود الماضي، التي لازالت تطبع العملية السياسية ولعبتها الانتخابية بالحدة والشراسة وتحولها إلى حلبة لصراع سياسي، غالبا ما يخرج عن أطره السلمية المطلوبة ديمقراطيا.
لم تبذل القوى السياسية في الوطن العربي جهدا في إعادة تشكيل الوعي لدى الأجيال الصاعدة و،عدادها للممارسة الديمقراطية من خلال منح الثقافة السياسية صفة السياسة نفسها والابتعاد عن إذكاء الصراع في مناحي تأليب نوازع الذات الدنيا وشحذ التوترات الجهوية والطائفية السياسية والاجتماعية، ومنع خلق المنافسة المدنية النظيفة، ومغادرة ذاكرة وقضايا الثأر السياسي، وكبح جماح غريزة التفرد والاحتكار في السياسة وكل ما يتعدى ويتجاوز حقوق المواطنة والمساواة لكل الفئات الاجتماعية المشاركة في العملية السياسية وخارجها في المعارضة .
إن واحدة من أهم شروط التغيير والانتقال الديمقراطي في المجتمعات التي تعاني من التمزق والصراعات الناجمة عن عهود الكبت السابقة هو صعوبة الاستعداد والتكيف لفهم القبول النسبي بالآخر ومنحه الفرصة دون الاستئثار المطلق بحق الأغلبية الفائزة اليوم، فهناك فرص التراضي والتوافق والتعاقد والتنازلات المتبادلة بعيدا عن الصفقات التآمرية التي تكرس التسلط والاحتكار المطلق للسلطة على حساب الإصلاح والتغيير والحرص على المشاركة الواسعة لكل قطاعات المجتمع ومنها منظمات المجتمع المدني التي تم تهميشها تماما.
وكما أن النضج لأي عملية سياسية لا يتم من خلال النجاح في دورة أو دورتين بممارستها بل في مدى عمق التفاعلية في سلوك الأجيال وتراتبية الأولويات في تنفيذ البرنامج الانتخابي ليكون وطنيا يحقق لكل عناصر المواطنة المشاركة فيها والمساواة في الواجبات والحقوق أيضا.
إن مستقبل نجاح قضايا الانتقال الديمقراطي في بلداننا العربية مرتبط أساسا بشريحة تعليم وتربية وتوجيه الشباب العربي والأجيال الصاعدة بعد أن فشلت الأجيال السابقة من تحقيق الحلم الديمقراطي؛ فوفقا لتقارير التنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة عام 2011 ، فان متوسط أعمار السكان في البلدان العربية الخمسة التي انتفضت بدرجات متفاوتة، منها تونس، مصر، البحرين، سورية، المغرب، والتي شهدت حراكا ثوريا يراوح بين 20.1 و 30 عاما وكلها أعمار تحت المتوسط العالمي البالغ 29.2 عاما.
هؤلاء الشباب وغيرهم من بلدان عربية أخرى،كاليمن وليبيا، وبالإضافة إلى اقرأنهم في العراق خاصة الذين تراكمت عليهم سنوات الحصار والغزو المتتالية منذ 1990 لم يجدوا ومنذ 2003 سوى مظاهر الدم والقتل والتفجيرات والحرب الأهلية والصراع والتعبئة الطائفية والبطالة التامة وانعدام أي متنفس حقيقي وطبيعي للتعبير عن حرياتهم ومكنون حالتهم النفسية وتفريغ مكبوتاتهم سوى ما هو معروض أمامهم من مظاهرا لعنف الموجه والمتصاعد؛ ولهذا فان عملية زجهم في عملية سياسية تكفل انتقالا ديمقراطيا لبلدانهم ليست بالمهمة اليسيرة.
وفي نظرة يسودها الكثير من الشك يبدو لأفراد الجيل المخضرم السابق لهذه العينة من الشباب العربي إنهم في نظر الكبار أنهم مجرد شباب يافع بعيد عن السياسة يعانون من قضية الانتماء والهوية الوطنية أو القومية، وهم بعيدون عن المشاركة السياسية في بلدانهم ،وهذا خطأ وفهم جسيم بعيد عن الواقع.
فهذا الجيل رغم بعض الفراغ الثقافي أو نقص التعبئة الفكرية القومية فهو شباب واعي كل الوعي، مدرك لما يجري من حوله من أحداث؛ لذا نجده متفاعلا ومساهما بفعالية كبيرة عبر وسائط التواصل الاجتماعي وفي حراك الشارع العربي، وهو أسرع من استجابات الأجيال السابقة في القدرة والتعبئة بحكم مستويات تعلمه ، وإمكانيات استخدامه لتقنيات التواصل الاجتماعي، وحيازته على هواتف محمولة ويحسن استخدام بريده الالكتروني وبعضهم له مدوناته ولديه القدرة على القيادة والتعبئة والتواصل قطريا وقوميا وهو من أكثر الأجيال فهما لواقعه من تلك الأجيال التي سبقته، فهو يختزل مفردات الخطاب السياسي القديم ، متجاوزا صيغ وأساليب بياناته الطويلة وفذلكاته البلاغية وتكراراته المملة، باستخدامه لغة الترميز المكثفة والجمل القصيرة، واستعماله ببراعة النقد الجاد وحتى استخدام السخرية المرة موظفا النكتة والصورة والتعليق والخبر والدعابة والكاريكاتير والأغنية السياسية كوسائل شعبية للتعبير عن الرأي، وهو سريع الاستجابة إلى التعبئة المطلوبة إذا ما اقتنع بالفكرة ووضوحها، كما له حرية وإمكانية الانتقال بتوظيف الفيسبوك وتويتر ويوتيوب والمدونات والرسائل النصية وكل ما يتطلبه الحراك المطلوب منه.
لقد ذهب والى الأبد وقت طباعة وتوزيع البيان الورقي والجريدة الحزبية وتوزيعها وحتى الارتهان لأخبار الإذاعات وعواجلها، فبات بالإمكان استخدام الهاتف المحمول بذكاء ليقوم بدور الصحفي والمراسل من عين المكان وبسرعة الضوء، وان يقوم الشاب بتغطية أي حدث وعلى المباشر، متجاوزا كل فضاءات الكون الكبير لنقل المعلومة أو تفاصيل الحدث وتوجيه الخبر او المعلومة، حتى باتت فضائيات كبرى تجري متلهفة لأخذ أخبارها من هاتف جوال أو محمول ينقل صورة لتظاهرة أو مؤتمر أو حدث سياسي أو اجتماعي هام ، ومن أية نقطة من هذا العالم.
ولهذا لا بد من العناية بتشذيب الخطاب القومي العربي وإعداده بلغة تتوافق مع إمكانيات نشره وفهمه وتحميله لمفردات الواقع ولا بد من إثرائه وزجه بذكاء واستيعاب في حملات التضامن الوطني والقومي كقضية فلسطين وتعبئته بما يجري في بلدان عربية من أحداث صعبة كالعراق سوريا واليمن وليبيا وفلسطين ولبنان.
وهو شباب به من التحدي والحراك الكثير من الطاقات والإرادات، مستعد كل الاستعداد في المشاركة والمتابعة في الأحداث السياسية الوطنية والقومية، شرط منحه الفرصة دون وصاية وتركه يختار قياداته الميدانية التي تفهمه وتشكيل نخبه الوطنية والقومية وتشجيعه الانتماء إلى كل الأحزاب الجديدة ومتابعة التيارات الفكرية وزجه في أنشطة منظمات المجتمع المدني دون خوف عليه؛ لان من طبيعة الشباب الابتكار وعدم الركون إلى الركود والسير في ذات الطرق والمسارات والدروب السابقة التي مشى فيها أسلافه.
إن واحدة من دروس حراك الربيع العربي هي أن مجموعات واسعة من هؤلاء الشباب خرجت عن نمط الحراك القطري والقومي العربي السابق بوجود الكاريزما التقليدية أو حضور الرمز الحزبي أو القائد السياسي الشخصي الذي يوجه الناس في المظاهرات أو يصدر لهم البيانات؛ فالثورات الشبابية تتعلم من تجاربها مستقبلا وستتحرك وتعبأ صفوفها ولن تركن للقمع والإذلال وأنها تعرف كيف ترتب مقاومتها وإعادة تنظيم صفوفها،ولن تتوقف باعتقال أو تصفية هذا القائد أو ذاك في هذه الساحة أو تلك.
كما أن الأجهزة الأمنية والقمعية العربية الموروثة في أجهزة السلطات العربية الحاكمة لا زالت بعيدة عن مستويات الوعي الجديد والحداثي وأساليب التعبئة التي يقوم بها الشباب في العالم الافتراضي وإمكانية نقله إلى الواقع، فهناك شباب متواصلون وهم إعلاميون ومناضلون وقادرون على ربط بعضهم بعضا على مستوى المدن الكبرى وأقصى أطراف الريف وقادرون على التواصل والارتباط والتنسيق والانتقال عبر العالم الافتراضي من ساحة وطنية إلى أخرى قومية، ويمتلكون أدواتهم الإعلامية بأيديهم، تحملها هواتفهم وحركات أصابعهم الرشيقة والسريعة ، وهم بتلك الفطنة والوعي والحذر تجاوزوا عمل المعارضات التقليدية، وقد تنقصهم بعض الخبرات في القيادة والتوجيه فهم ينتظرون أيضا من قيادات الأجيال المخضرمة الفهم الصحيح لما ينادون إليه، ويتطلعون إلى منحهم الفرصة، دون الإفراط في فرض وصاية مركزية عليهم.
وطالما أن قيادات الحركات والأحزاب الوطنية والقومية التقليدية لازالت تظن أنها قادرة على ضمهم واحتوائهم وإخضاعهم لها بأساليب وطرق فهمها السابقة، التي عفا عليها الزمن، فإنها ستكرس بينها وبينهم فجوة كبيرة ،ستكون حتما عائقا وحاجزا صعبا ينبغي تجاوزه.
وانه زمن بات يرفض وجود قيادات مفروضة على منظمات الشباب والطلبة من قبل أشخاص تجاوزوا الأربعين سنة من أعمارهم؛ فكيف لو كانت الكارثة أن يشرف على كثير من الهيئات الشبابية والطلابية في أحزاب وحركات قومية في الوطن العربي ممن هم فوق الخمسين سنة.
إن تجارب الحركات السياسية والجماهيرية الأوربية المعاصرة أظهرت وجود قيادات لأحزاب عريقة هم دون الأربعين سنا، ومن كلا الجنسين، ومنهم مرشحون لرئاسة الدولة والبرلمان والوزارات الهامة في بلدانهم والمثال الفرنسي بات واضحا.
ولعل الألفية الجديدة فاجأت أنماط العمل السياسي والتعبوي السابق بظهور الحركات الاحتجاجية أو السياسية التي لا تتصدرها أحزاب أو تحالفات معينة أو من النوع الذي يتخذ أشكالا وارتباطا حزبية معينة ، أنماط عمل وتنسيق وتعبئة اقرب إلى المرونة في ترتيب هياكلها التنظيمية وحشد إمكانياتها في التجمع أو أو التفرق وحتى التفكك أو الانسحاب في حالة المحاصرة واشتداد ظروف القمع ولا تنتهي فعالياتها باعتقال قيادات المجموعة آو الشخصيات المركزية في التجمع أو الحراك.
وهي كما أكدت الأحداث في عدد من البلدان العربية أن مجموعات الشباب قادرة على الحركة بصورة أوسع ومناوراتها الذكية الالتحام بحركة الشارع والتجاوب معه متحررة من القيود الإيديولوجية الجامدة والضيقة وهي بعيدة عن أشكال التكلس التنظيمي والقبول في الطاعة العمياء لشخص ما أو لتنظيم معين وقبولها استمرار وبقاء قياداتها لفترات ة لسنوات طويلة محتفظة بالسلطة في التنظيمات ومتموقعة على كراسيها العتيدة وتحت عناوينها السياسية المعروفة كأحزاب وحركات اجتماعية بقيت نمطية خاضعة لسلطة قائد الحزب أو مجموعته النافذة وبخطاب سياسي بات متكلس وتجاوزته الأحداث.
إن إرادة التغيير باتت مطلوبة وملحة ، ولا بد أن تكون متسارعة جدا، تبدأ بتغيير القيادات المخضرمة، وإقناعها بضرورة التخلي عن مواقعها القيادية، ولا بد من احترامها لسن التقاعد النضالي، والتناوب على القيادة لصالح الأكفأ والأنشط والأكثر شبابا وحيوية، ولا بد من ترك الفرصة للأجيال الصاعدة.
إنه من المؤسف أن يكون معدل أعمار من حضروا إلى أغلب المؤتمرات الوطنية والقومية العربية هم من يتجاوزون سن الخمسين سنة، منهم تراه في حالة إنسانية بائسة، فمن اهتزت يداه وتراجعت ذاكرته وابتلى به الوهن بأمراض الشيخوخة، وفي مقدمتها الزهايمر، ومشهد هؤلاء الإخوة المناضلين من هنا وهناك بات لا إنسانيا ببعده السياسي والاجتماعي ، لكنه للأسف بات هو المشهد السائد عربيا، حتى باتت قاعات المؤتمرات المكتظة وحضورهم المكلف وانتقالهم اقرب في مهمته إلى نشاط النادي السياحي منه إلى العمل السياسي، وهذا الحال ما يزرع حالات من الإحباط، و يفرض ويجبر أجيال من المناضلين، وخاصة الشباب، من ترك العمل والنشاط السياسي وحتى التنظيم ليأسهم من الوصول يوما إلى مواقع قيادة تنظيماتهم وتغييرها .
ــ يتبع الحلقة السادسة.
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.

******

القسم السادس
قضايا الانتقال وحوار الأجيال

ولا بد أن الحركات الجماهيرية المستقبلية تكون نواتها ومحركها حركات الشباب التي تكون مشبعة بهواجسها الوطنية والقومية وتتعزز قدرتها على استيعاب كل التيارات التي تتوافق مع الاستجابات الشعبية ، ولا يضير آن يتواجد فيها الإسلامي واليساري واليميني والليبرالي والقومي، شرطها خلال الانتفاضات الشعبية أن تكون على توافق وطني وتتجاوز الخلافات السياسية الموروثة لدى الكبار من السياسيين، وأن يكون من أهم شروطها الاستعداد نحو التغيير والقدرة على خلق كتل سياسية أكبر، مؤمنة بالتغيير الفعلي، ولا تتجادل طويلا وكثيرا وتتوقف عند المسائل الايديولجية والنظرية التي لا تمنحها سوى المزيد من الانقسامات والتفكك وحتى الصدام أحيانا، وهذا في مصلحة خصومها.
إن الأحزاب والحركات الوطنية منها والقومية العريقة، والتي امتدت وتشعبت وتغلغلت لسنوات في مفاصل الحياة العربية بشتى أقطارها تخطأ كل الخطأ إن اشتغلت على مبدأ الكسب والتكسب التنظيمي التقليدي لها ولأنصارها واستبعادها الآخرين ومحاولة إقصائهم عن ساحات تواجدها ، ولهذا لا بد من توفير فرص التفاعل والحوار الديمقراطي بأجواء من الحرية الفكرية واحترام مواقع ومكانة الآخرين والسعي إلى بناء التحالفات الجبهوية انطلاقا من الحد المشترك الأدنى، وبس من مستويات وشروط السقوف العليا لأي تحالف مطلوب، وفي حالات التحالفات ليس بالضرورة أن يتم كل شئ بالتوافق بكل شئ .
إن التنوع الإيديولوجي في كل حراك سياسي أو اجتماعي وفي كل تحالف أو حراك سيكون مصدر قوة، وليس سببا للانقسام والتشرذم؛ولا بد من توزيع الأدوار، وفقا للقدرات المختلفة التي تتمتع به كل عناصر التحالف، وخاصة بين الشباب ومنظماتهم التي تتوافر فيها خلفيات ورؤى فكرية مختلفة، ولا ضير من اتخاذ القرارات في نشاط المجموع المتحالف والجبهوي عبر التصويت، وهو ما يقلل من الخلافات الداخلية ولا يحمل المسؤولية طرفا دون آخر.
ويجب أن لا يجري التطير والتخوف من تلك المجموعات التي تعمل خارج اطر الأحزاب والتكتلات الحزبية التقليدية، وفهم طبيعة وظروف ونشاط عمل تلك المجموعات، والذي يبرره البعض منها: إما خوفا من الملاحقة والقمع أو الاتهام بها من قبل النظام السياسي الحاكم.
لهذا لا بد من العمل والنشاط خارج الأطر والقنوات والتحالفات التقليدية قدر الإمكان بالمحافظة على بعض التنسيق والتعاون والتقارب، وليس بالضرورة اللجوء إلى الضم والإلحاق وتطابق الرأي بالكامل.
إن أفضل الحالات في الحركات الاحتجاجية الشبابية الجديدة تلك التي تتسم بطابع تحالفي أو تنسيقي عابر للإيديولوجيات، والتركيز على الأهداف المشتركة والعمل السياسي المباشر أو تحقيق الحراك على الأرض والساحات، والابتعاد عن السجالات والمناكفات الفكرية والنضالية ولا بد من الابتعاد عن روح الأنا المضخمة المعبئة بالنرجسية الثورية والتنظيمية التي تحملها شخصيات وكوادر الأجيال السياسية السابقة.
كما لا بد من الاهتمام بالاغلبيات المجتمعية الصامتة في كل القطاعات، ولا يستهان أيضا بأقلياتها، ولومها من عدم ظهورها بارزة في بعض المناسبات والتظاهرات وبعض أنواع الحراك الاجتماعي أو السياسي ، وترك الأمر لها في تقديرها للأخطار التي تتخوف منها عند الكشف والتعرض للقمع السلطوي وحتى الاجتماعي أحيانا.
إن ثمة خطاب شبابي عربي ثوري بدا يبرز في كثير من البلدان العربية وهو تقدمي في مضمونه موحيا بآمال الشباب ومجتمعاتهم في الإصلاح، من أهم ميزاته انه يفهم لغة التكنولوجيا وتطورها ويدرك قدراتها الرقمية وإمكانياتها في الاستقطاب والتعبئة واستهداف الخصم وزعزعته بأقل الإمكانيات المتاحة لدى الشباب عندما يتوفر الوعي السياسي والاستعداد في الانخراط به وتتوفر الهواتف الذكية والحواسيب المرتبطة بشبكة الانترنيت وقدرات ووقت وتشكيل خلايا مركزية تتابع حالات التعبئة الجماهيرية وإيصال صوت الشارع الذي خانته المؤسسات الإعلامية الرسمية للدولة وتجاهلته النخب السياسية المتواجدة في برلمانات مغشوشة ومعينة بطرق التزوير والاستلاب السياسي وتطبيقات الديمقراطية المزورة .
وإذا كان المواطن في المؤسسة والعمل والمدرسة قد تم تدجينه بوسائل القمع أو الاحتواء والترهيب والترغيب لكن الفضاء الافتراضي حرره من الخوف ومنحه إمكانيات التخفي والحماية ، وكذلك أعطاه فرص التحدي والابتكار وحتى المقاومة و تشكيل وتنظيم قيادات للحركات الاجتماعية والتفاعل معها وتغذيتها وتعبئة الناس من حولها، انطلاقا من وجود المواطن العادي و من لحظة الفضول والاقتراب من الحراك حتى قرار الانخراط بصفوفها والنضال في صفوفها وفق ظروفه وقدراته وإمكانياته وموقعه الاجتماعي والعلمي وحتى سنه ومحل إقامته وهو ما يسمى بالتفاعلية التي لا ترتبط بالضرورة الحتمية بالمكان أو الزمان وتجاوز الفروقات الاجتماعية والسياسية والثقافية على مستوى كل قطر أو إقليم وحتى على المستوى الوطني والقومي.
هنا لا بد من الإشارة والتنبيه من أخطار أخرى قد يتغافلها البعض من نشطاء العالم الافتراضي تكمن في طبيعة وسهولة الاختراق في المجال الالكتروني والسيطرة على شبكات ألنت من قبل مصادر وقوى رصد عالمية مرتبطة بشبكات التجسس ورصد المخابرات الدولية وخاصة الأمريكية منها ،وما لم يتم الاحتراس من ذلك فسوف تنتكس الكثير من حالات الحراك السياسي والاجتماعي في البلدان العربية ، لأن نشطاء المجتمع الافتراضي مثلهم مثل نشطاء الطبقات والفئات السياسية والاجتماعية التي بنت عليها استراتيجيات الأحزاب التقليدية سابقا ، يعملون في ظروف وأدوات معقدة وخطرة أيضا تكمن قي هيكلة المجتمع الافتراضي الذي لازال هشا إزاء حالات الهكر والاختراق وحتى التخريب.
والهيكلة الافتراضية تحتاج غالى قادة نابهين وطبيعة عملهم على الأرض وفي المجال الافتراضي لا بد إن تتم بذكاء يتجاوز ظروف الأمية الالفبائية التي يعرفها العمل السياسي التقليدي وحمايته من رصد القمع والبوليس التقليدي إلى جمع النشطاء الجدد واختيار القادة منهم بخطة وذكاء ودراية عالية خاصة عند دعوة الفاعلين إلى الانخراط ضمن النخب المعلوماتية والسياسية والاجتماعية الساعية إلى التغيير المستقبلي في بلدانهم ، ولا بد من تهيئة ظروف ومستلزمات الانتقال الديمقراطي ومراحل الإصلاح على الأرض والساحات وفي المدارس والجامعات ومنظمات المجتمع المدني ، وهم يعملون أيضا على إعادة النظر بكل المفاهيم الطبقية التقليدية السابقة ، حيث يشكل هؤلاء النشطاء مع جمهورهم المتفاعل والمشارك معهم في الحراك الثوري ضمن تشكيلات وطبقات جديدة من النخب السياسية والاجتماعية التي تكون قد أدارت ظهرها فعلا إلى تلك النظم التسلطية التقليدية الموروثة في مجتمعاتنا ،كتلك النظم القمعية والمترهلة والفاسدة التي أدارت ظهورها لمجتمعاتها وأهملت شبابها واقتسمت خيرات وامتيازات البلاد من دون رقيب آو حسيب لها. ولا شك أنها ستجد في الوقت نفسه الكثير من الاختلافات في نمط التفكير والحرية وروح المبادرة التي لازالت ضعيفة لدى التنظيمات العاملة في مجال المعارضات السياسية التقليدية، التي تميل إلى المحافظة وحتى رفض الليبرالية وأحزابها الجديدة وتوجهاتها العولمية.
قليلة هي النخب الناشطة في الفضاء الافتراضي التي شخصت وكشفت أكذوبة السياسات الليبرالية الجديدة وكثير من مدعي الحداثة وما بعدها، خاصة تلك الجماعات التي رطنت بها السنة نخب محسوبة على أجهزة الحكومات العربية أو تعرض نفسها كوكلاء لتمثيل التوجهات الغربية ومشاريعها في المنطقة. وهي في نفاقها السياسي والإعلامي لم تحسم موقفها بطريقة ثورية وواضحة بعد في مواقف وممارسات عدة لاحظناها تسترت تماما على كل الإمراض والخلل الاجتماعي وما أصاب الشعوب بكل طبقاتها من أمراض يغذيها التدخل الخارجي ويستدعي التحرك الاجتماعي المطلوب جماهيريا وعلى الأرض مواجهة وايقاف مظاهر الفساد المالي والإداري المتغلغل في جسد الدولة القطرية إضافة إلى الفساد الذي ينخر أيضا في هياكل الحركات السياسية وأحزابها وفي مضامين خطابها المستهلك دون تأثير وفاعلية.
لازال هذا الخطاب السلطوي وحتى السياسي المعارض ينتقص ويتجاهل فاعلية الحراك المعبر عنه عبر الفضاء الافتراضي باعتباره لازال بعيدا عن اقتحام أجهزة السلطة وكواليسها وقدرة الأنظمة السياسية على احتواء معارضيها وتدجينهم وشراءهم بالرشى والصفقات .
لقد فاجأت الثورات العربية أكثر القوى ثورية وتفاؤلا حين كشفت مكامن الضعف في التعبئة والحراك المطلوب نظرا لما ينظر إلى هذا الحراك بعد خفوت موجة الربيع العربي واعتباره مجرد حركة احتجاجية قد تكون عابرة، ومحدودة الأثر في كثير من البلدان، كما حدث أخيرا في إيران، ويعتقد البعض أنه يمكن إيقافها بوقف نشاط شبكة الانترنيت وإطلاق أبواق الفضائيات الخاصة للتعبئة ضد أي حراك محتمل.
وغالبا ما تنسب الأنظمة القمعية أن الحركات الاحتجاجية منسوبة إلى فعل خارجي أو تحركه جهات من دول معينة ومعادية، ولهذا تم إهمالها ونسب إلى الربيع العربي وقواه ما نسب إلى ذم الخمرة من المنكرات والموبقات.
كما أن القوى السياسية التقليدية التي تفرجت على الحراك العربية وربيعه عادت شامتة لما آل إليه الوضع العربي، واعتبر البعض: إن كل ما نجم عن الربيع العربي مجرد متاهة قادها برنار ليفي وكوشنر وأمثالهما وحركته أصابع الصهيونية وإسرائيل، وكواليس استوديوهات قناة الجزيرة وغيرها وبتخطيط وإدارة أمريكية وعولمية محكمة.
ومهما اختلفنا مع كل هؤلاء في معايير التقييم للمحصلة النهائية لنتائج الربيع العربي وعن ما جاءت به حصيلة إرهاصات الثورات العربية خاصة فان الأحداث، بما يحسب لها وعليها ،عبرت عن نوع من أنواع الانقطاع والصراع بين الأجيال الجديدة وذوي السلطة في المجالات الأكاديمية والإعلامية والسياسية ، كما عبرت عن مضمون عميق للاحتقان الشعبي العام على مستوى اغلب الأقطار العربية، ورفض الجماهير العريضة بكل طبقاتها الاجتماعية وأجيالها لأساليب القمع والاستبداد ومحاصرة الحريات واستفحال مظاهر الفساد .
ومثل شعار ” الشعب يريد إسقاط النظام” الذي رفعه شباب الثورة الشعبية في اغلب الساحات التي رددت صداه، بصيغة أو أخرى، تحديا لم يألفه الشارع العربي من قبل، مقارنة عندما كان مثل هذا الشعار يلفظ همسا أو نشرا ببيانات مسحوبة بالات الطبع الورقي أو يكتب تحت جنح الظلام على حيطان المدن العربية النائمة ، غالبا ما تمسحه دوريات الشرطة ورجال الأمن وحتى بعض السكان المرعوبين خوفا من سلطات حكوماتهم قبل أن يخرج الناس المبكرين فجرا إلى أعمالهم ودوائرهم ومدارسهم.
هذه الهبة والروح الجديدة لشباب المدن المنتفضة عبر عن رفض هيمنة وسيطرة وذهنية الجيل القديم من السياسيين التي امتدت إلى عقود من الزمن القريب حتى أيامنا هذه ، هذا ليس على مستوى الأنظمة السياسية ومعارضاتها؛ بل حتى وسط النخب الأكاديمية والبحثية التي ترقب التغيرات الاجتماعية على مستوى البلدان العربية باجمعها وتربطها شبكات تعاون مع جامعات أوربية وغربية ومراكز مخابرات وأجهزة رصد متقدمة ولها عيون في كل زاوية وبيت وركن و شارع ومسجد ومدرسة وجامعة ومقهى.
لقد تنكرت كل الأنظمة القمعية العربية فجأة ، ومن دون سابق إنذار، لماضيها القمعي وبدأت تتكلم عن حقوق الإنسان، وتدين وكالات أنباءها وناطقيها الرسميين والإعلاميين، أساليب بعض من رجال وضباط شرطتها وأجهزتها القمعية ، بل أنكرت دول عربية عديدة سجل جرائمها ووسائل تعذيبها وملاحقة معارضيها، ولكنها اتخذت أسلوب الرقية والتكتم والتستر عن أفعالها، وهي تتابع وتسجل كل ما ينشر على النت وفي شبكات التواصل الاجتماعي من أفلام ترصد حركاتها وتفضحها ؛ حتى أنها حاولت أن تهذب بعضا من أفعالها البربرية والدونية تمام وسائل الإعلام وكآمرات الفضائيات التي يمكن شراء صمتها ، لكنها كانت تعجز ملاحظة ذلك الشاب والرجل والمرأة التي تنشر فضائح السجون وانتهاكات حقوق الإنسان في سجون الوطن العربي .
كانت أخبار الانتفاضات تنقل من أقصى القرى وفي عمق مدن البلاد المنتفضة في مصر وسوريا والعراق واليمن فتقيد من حراك يد أجهزة القمع عند التصدي للمنتفضين.
للأسف لجأ الخطاب القومي العربي على لسان الجيل الأكبر من المحللين المتطوعين في استوديوهات البرامج الحوارية للفضائيات العربية من تقليل همة الزخم الثوري في الربيع العربي واعتبروا نشاط الفيسبوكيين مجرد عملية تنفيس لا جدوى من فائدة منها ، وأنها مجرد عالم افتراضي ميئوس منه نتيجة عزلة شعورية عن العالم الواقعي ، ولكن هؤلاء الشباب وخطابهم الإيجازي والدقيق اثبتوا بأنهم يتحركون برشاقة وفعالية اكبر من سبات ومنامات ديناصورات الكثير من الأحزاب والدكاكين السياسية، المعتكفين في أوكارهم ومكاتبهم الحزبية ينتظرون ورود الأخبار من الجزيرة والعربية والحدث والبي بي سي وقناة الحرة الأمريكية.
فضحت أحداث الربيع العربي أيضا الديمقراطيات الزائفة ولصوص وحيتان الفساد في الحكم العربي قبل وبعد الربيع العربي، وحتى ما امتد من فساد وزيف وتجارة سياسية في أحزاب الكثير من المعارضات العربية.
لعبت المدونات العربية ومواقع معينة لأشخاص ومجموعات في أكثر من بلد عربي دورا في الكشف المستمر لما يجري في عالمنا العربي، فهناك مواقع ومدونات وصفحات شخصية صارت أهم من نشرات وإصدارات أحزاب احترفت النشر السياسي منذ أكثر من خمسين سنة.
وإذا كانت أجيال من السياسيين العرب قد تخضرمت وشاخت، ولم تعد تلحق بمسار الأحداث وحتى فهمها، قيادة وتحليلا، فاعترفت بعضها في لحظة نقد ذاتي جريئة وعلنا برفع ذلك الشعار المدوي القادم من تونس الثائرة كان مدويا حيث صرخ كهل ” هرمنا ” .
وأشعلت جذوة الاحتجاج بعد أن انطفأت جثة الشهيد بوعزيزي النار في هشيم عربي ناله الجفاف منذ عقود.
يحدد قانون “مور” بتعريفه ” الجيل التقني”المحدد بفترة زمنية تمتد بين سنة ونصف السنة ، وهذا القانون بسلطته الفائقة على التنبؤ في مسار التطورات الهائلة في التكنولوجيا لم يؤثر في جميع جوانب الاقتصاد العالمي فحسب، بل امتد إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية ، كذلك فان ” قانون مور” غير ، بعمق، الحضارة الإنسانية من خلال تغيير مفاهيمنا عن المعلومات وطريقة وصولنا إليها… وبتأثيراته في الكومبيوتر والاتصالات والالكترونيات المعدة للاستهلاك وصناعة البرمجيات، فانه قد غير عالمنا بأكمله ” .
وبهذا المعنى يصير ويتكون لدينا جيل شاب ثقافيا كل ثلاث سنوات تقريبا، وهي فترة دخول التكنولوجيا حيز الاستهلاك بفضل ظهور منتجات، احدث واصرع وأكثر قدرة، بغض النظر عن العمر الفعلي لها.
إن الخطاب العربي تستوجب مراجعاته كليا، أسلوبا وشكلا وحروفا ومترادفات وتوقيتا وظرفا ولا بد من صياغته من جديد، ضمن مفهوم وقدرة الاستيعاب المطلوبة في الرسائل النصية، باعتبارها باتت صيرورة أساسية من وسائل الاتصال والتعبئة والتعبير.
ومع تحول الفيسبوك والتويتر وغيرهما من مواقع التواصل الاجتماعي إلى منافذ أساسية للتعبير عن النفس والمواقف، صار الاختزال والتكثيف من السمات التي تطبع الكتابة والثقافة إجمالا؛ لذلك يتحتم على كل كاتب في هذا المجال إن يتدرب بصبر على ضرورة تكثيف الفكرة لكي تبقى ضمن عدد محدد من المساحة والحجم المقرر لها .
لذا وجب علينا أساليب وتعلم الاختزال والتكثيف، ونتعلم في ذات الوقت الطريقة الأمثل لشطب الحشوات في نصوصنا السردية، ولا بد من التركيز على الفكرة والمضمون، لكونهما تؤديان إلى ضعف التحليل، إن كان ثمة ما يستوجب دعم الرأي وتبريره، فكثيرا ما أسيء فهم كتابات من هذا النوع.
كما يجب ايلاء النشطاء السياسيين النشاط الحركي activism الأولوية على الأسس المعرفية. ولهذا أسبابه العديدة ، على رأسها البؤس السياسي والمعرفي للأحزاب العربية، وطابعها العام الملحق بالسلطة.
وقد أدى ذلك إلى التخلي عن الحزب، وعما يفترض أن يمثله (الايدولوجيا والأرضيات المعرفية)، فمن المفترض أن يبنى النشاط السياسي على أرضيات معرفية، وإلا أصبح قائما من اجل ذاته، وينتهي بانتهائه، فلا يحقق أثراً يذكر، ويسهل استغلاله. هكذا نقرأ على لسان شباب قاموا بالانتفاضة التونسية عبارات: ( هذه ثورة بلا منظرين ثوريين) و ( أغلب الشباب الذين قاموا بالثورة لم يكونوا مُسيسين؛ وبالتالي لم تكن ثورتهم موجهة سياسيا) و ( يوم الهروب …هروب بن علي أحسسنا بمأزق، فالجميع في الشارع، لكن لا أحزاب قادرة على تحقيق الخطوة الموالية).
ومن تحليل خطاب الشباب العربي الأخيرة عبر مدوناتهم وكتاباتهم الالكترونية وعبر نصوص ومقاطع الأدب الساخر تبدو هناك وحدة الأهداف ووحدة المطالب في خطاب الشباب العربي واضحة بشكل كبير .
وهذا ليس فقط سمتاً لنمط التفكير في القضايا العامة الجامعة للأمة، كالقضية الفلسطينية مثلا، بل حتى المطالب التي تتعلق بالداخل تبدو متشابهة إلى حد بعيد، وهي بالأساس المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة واستغلال القضاء ومحاسبة الفاسدين… إلى غير ذلك من المطالب المشروعة في سبيل الانتقال الديمقراطي الذي أصبح قضية جامعة كبرى.
من خلال النظرة التحليلية لمضامين الخطاب للشباب العربي أيضا، نجد التباين الفكري والعملي الواقعي، مستمدا من خطاباتهم عبر الوسائل الجديدة للمشاركة. يمكن القول إن هذا الخطاب، برغم تميزه وجديته وتنوع وسائله ورصانة مضمونه وتعبيره عن هموم وآمال وآلام وطموحات ألامة، فهو تغلب عليه لغة المطالب، وليس الحقوق، إلا في ما يتعلق بحق التظاهر السلمي، مثلا، وهو الحق الوحيد الذي خرجت التظاهرات لقناعة أهميته؛ لكن خطاب المطالب يحتاج إلى التحويل نحو لغة الحقوق والتمسك بها، والذي يؤدي في النهاية إلى تبني النظم الانتقالية لهذه الشعارات المرفوعة في الميادين أو تلك المعبر عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمساحات الإبداعية، باعتبارها حقوقا للمواطنين، وليست مجرد مطالب تتم المساومة عليها.
وهذا ما يؤكد كذلك: إن هذا الجيل وبالخصائص المشار إليها بات يمثل الأمل الحقيقي لهذه الأمة ، ليس فقط في تطوير المنطقة فحسب، وإنما في بلورة مفهوم جديد أكثر حداثة للهوية العربية.
ــ انتهت الحلقة الأخيرة
ــ للدراسة والبحث مصادر ومراجع والحالات وهوامش.

******

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب