18 ديسمبر، 2024 11:20 م

مديح الحب
كان ذلك يوم الجمعة مساءً من مساءات أواخر تشرين–نوفمبر– من العام الماضي، بمناسبة حضوري حفل توزيع جوائز مسابقة نجيب الثقافي في جامعة القاهرة، التي شاركت فيها من أجل المشاركة لا غير،كنت في الواقع كنت أستهدف نشر الرواية في احدى دور النّشر المصرية الكثيرة، إذ لم أتوقع فوز روايتي تلك الموسومة ﺑ(البكّاءة) بالمركز الأول في مصر تحديدا بسبب تطور الرواية في هذا البلد، بسبب كثرة الروائيين و المبدعين المجدّدين.
كان سفري سريعًا ومستعجلًا وبمحبة كبيرة لمدينة أحببتها دائما، و لأنّ بعض المدن تظلّ حلما سرمديا، فالقاهرة من بين مدني السّاحرة التي أراها في أحلامي كثيرًا، بلا شكّ، بسبب ذاك الحب الذي أكنّه لأساتذتي الكبار الذين علموني السّحر، سحر الحكاية والقصّة والسّرد، بدايةً منسيادة العميد طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف السباعي، يوسف إدريس، جمال الغيطاني، يوسف القعيد… إلى إبراهيم عبد المجيد، وعلاء الأسواني، فالقائمة طويلة من أسماء لامعة أثرت المشهد الأدبي المصري والعربي بالروائع الخالدة ولا تزال إلى حدّ السّاعة تثير الإعجاب والسؤال النقدي في الملتقيات والجامعات وحلقات النّقد.
في تلك الظهيرة وطئت قدماي أرضية مطار القاهرة، بابتسامات وكلمات خجولة من الموظفين والموظفات خاصّة: (نورت البلد) كانت كافيةً لردم الهوة أو انتزاع ذاك الخوف لما سببته مباراة في كرة القدم وما زرعه بائعو الفتن في دكاكين إعلامية. إذًا، القاهرة بالنسبة لي تعني الآثار و الأدب و الصحافة و النّشر والفن والجمال والتاريخ و النيل و ماسبيرو، هي زقاق المدق والسكرية،و خان الخليلي، و ميرمار. في تجوالي في شوارعها تفاجئني ضحكة نجيب محفوظ المجلجلة و تواضع جمال الغيطاني.
ليس غريبًا أن تجد أمازيغيًّا خجولًا مثلي، يجر حقيبة سفره في شارع طلعت حرب بحثًا عن فندق يليق بمقامي وبجرجرة (1). و سبقني آلاف الجزائريين إلى ها هنا، من قبل، في كلّ الأزمنة وهم يحجّون اليها فرادى و جماعات، من طلبة وأساتذة وعلماء و كتاب وعسكريينومناضلين وعشاق وكادحين أيضًا عبر مئات السّنين، بكلّ وسائل النقل المتاحة أمام هؤلاء المغامرين، فخطّ الجزائر–القاهرة (برًّا وبحرًا وجوًّا) لم يتوقف يومًا عن هذا المدّ الشّاعري، الجميل والتبادل الثقافي و الاقتصادي بغير شروطتذكر، ولو كانت تحدث خلافات بين الحين والآخر، مع ذلك لم تعكّر صفو العلاقات المتينة بين بلدين كبيرين يتنفسان التفاصيل الصغيرة و التاريخ بأنفة و كبرياء.
كان برفقتي الكاتب الجزائري المقيم في القاهرة منذ2012 لخضر بن الزهرة،(وهو أحد النماذج الناجحة في مصر و قصّته المثيرة الجميلة كانت مثار اعجاب من إعلاميين كبار في مصر)الذي تكفل باستقبالي وأخذي إلى الفندق في شارع طلعت حرب العريق. صاحب الفندق لم يستغرب وأنا أقدم وثائقي (جزائري)، في تلك الليلة دعاني لشرب الشّاي وبدا يستعرض حكايته مع الجزائريين (الجدعان) قال ليبفخر: معظم زبائن الفندق من الجزائر، بل أعزّ أصدقائه الأوفياء من الجزائر.
في صبيحة يوم السبت، بينما خرجت أتجول على استحياء، دخلت مقهى بلدي بسيط للغاية، معظم الزبائن هم من العمال البسطاء، جلسوا في صمت يتناولون فطورهم، كنت لا أعرف اسم الفطار الذي أتناوله، صاحب المقهى تفهّم مأساتي ودخل معي في حوار حميمي مفتوح بلغة بسيطة وجميلة عن البلدين الكبيرين.
في ليلة الحفل، وأنا الأسعد بدخولي جامعة القاهرة كلية الطب، كان الحضور رائعًا، جاءوا من ضواحي القاهرة، أغلبهم من الشباب، لقائي مع مؤسس صالون (نجيب الثقافي)كان عفويًّا كأني أعرفه منذ زمن: الدكتور الأديب محمد نجيب عبداللهالحالم استطاع ان يحقق حلمه على أرض الواقع أسس ما يشبه خلية نحل تجمع شباب مصر في صالون أدبي متميز بالأسماء الجميلة التي تبدع أو يدفعها الصالون نحو المجد الأدبي بالتشجيع و الصّقل للمواهب و المسابقة الأدبية السنويةساهمت بشكل ما في تحريك الفعل الثقافي والسردي بتميز يكفي أنها جمعتْ أقلاما من المحيط الى الخليج، و منشط الحفل الأستاذ مرسي عبد العليم منتبها لذا الزخم و منوّها في ’ن واحد بالتّنوع الذي ميّز المسابقة و بالمتوجين من العراق و مصر و الجزائر. ايامي تلك القليلة كانت حلما، إذأتسكع في الميادين من ميدان التحرير –الرمز- إلى ميدان ابراهيم باشا إلى اهرامات الجيزة، أجسّ النبض مع بسطاء أهل القاهرة، مرحبين بي، ومن اللقاءات التي لا أنساها تلك التي جمعتني بالصدفة في ميدان ابراهيم باشا مع شيخ سبعيني، عرض علي تناول الشاي بمجرد أني قلت شكرا، قال أنت: جزائري. قلتُ: أجل، راح الشيخ يتحدث باسهاب كبير عن تاريخ البلد وقراءاته للطاهر وطار و رشيد بوجدرة و كاتب ياسين. و حديث طويل عن جميلة بوحيرد و حبه الكبير للاعب علي بن الشيخ. في النهاية لا يسعنا إلى ان نقول السلام و الأمن لهذا البلد الرائع.

هوامش:
(1) (جبل جرجرة، سلسلة جبلية في شمال الجزائر)