أفرزت الانتخابات البرلمانية الروسية الأخيرة،تحالفات غير مألوفة، بين قوى المعارضة الرسمية، وتيارات سياسية، تسعى لدخول البرلمان تحت شعار مكافحة الفساد، وتصف حزب السلطة ” روسيا الموحدة” بحزب” اللصوص والاولغارشيين الفاسدين”.
وتعتبر إنتخابات 2021، أكثر الانتخابات إثارة للجدل، منذ مطلع الألفية الثالثة، لانها جرت على خلفية حملة منظمة قام بها الكرملين، ضد المعارضة غير الرسمية، ووسائل الاعلام الناطقة باسمها أو تواليها، باصدار تشريع يصنفها في خانة العميل الاجنبي، حتى لو كان أجنبيًا واحدا ، أو روسيا سابقا، تبرع بروبل واحد لها.
وجاء إصدار الحكم بالسجن لعامين وثمانية أشهر ، لمن تصنفه وزارة العدل الروسية” عميلا أجنبيا ” يتزعم ” منظمة متطرفة” محظورة تسمى
” صندوق مكافحة الفساد” الكسي نافالني ، إشارة البدء لاجتثاث، أغلبية رموز المعارضة الليبرالية، ومنعها بأوامر قضائية من خوض الانتخابات، استنادا الى تهم مختلفة، يقول معارضو الكرملين إنها ملفقة.
وطالت الحملة أعضاء بارزين في الحزب الشيوعي الرسمي، وعددا من ناشطي حزب شيوعيي روسيا، الجناح الراديكالي المعارض لسياسات الكرملين، ولمواقف الحزب الشيوعي بزعامة غينادي زيوغانوف، الذي يصمه الراديكاليون بالتحريفية، والخنوع للكرملين.
بل يذهب بعضهم الى التأكيد، بان زيوغانوف، تعهد بعدم العمل على زيادة مقاعد الحزب في مجلس الدوما( النواب) نزولا عند رغبة الكرملين، الأمر الذي يفسر حصول الحزب الشيوعي على نسبة ثابتة في الانتخابات منذ مطلع القرن، تتراوح بين 12 الى 15 بالمئة.
ويذكّر هؤلاء بواقعة فوز الحزب في انتخابات الرئاسة عام 1996، حين نافس زيوغانوف الرئيس الراحل بوريس يلتسين وتفوق عليه بنسبة 40 بالمئة، رغم الخروقات التي شابت الانتخابات،وسط إهمال من قيادة زيوغانوف لملاحقة العملية الانتخابية حتى النهاية المظفرة، واستلام منصب رئاسة الدولة الروسية في سابقة لو تحققت، لتغير وجه روسيا والعالم وفق راي غالبية المحللين، بمن فيهم المناهضون للشيوعية، والخائفون من عودة شبحها.
لعل زيوغانوف، خشى الجلوس على عرش في بلد متهالك، حطمته سياسات يلتسين وفريقه، ببيع ممتلكات القطاع العام الى حفنة من تجار الشنطة؛ تحولوا بلمح البصر الى الثراء الفاحش ، على حساب عوز الاغلبية.
وافضى ما أعتبره راديكاليو الحزب الشيوعي موقفا متخاذلا لزيوغانوف، الى انشقاقات، فشلت على مدى السنوات الماضية في الاستيلاء على الحزب الشيوعي الرسمي، رغم ان بعضها حمل نفس الاسم التأريخي، وانحسرت موجة الانشقاقات لتتركز في تنظيمات محدودة العدد، والتاثير في الشارع، في مقدمتها حزب
” شيوعيو روسيا” الذي طالت بعض نشطائه حملة الاجتثاث وعبرت نحو الحزب الشيوعي بزعامةزيوغانوف.
تجلت القطيعة بين الكرملين وقيادة الحزب الشيوعي الرسمي في رفض لجنة الانتخابات، تسجيل أحد آكثر مرشحي الحزب حظوظا في الفوز، رجل الأعمال بافل غرودينين، وقد ذاع صيته بعد ان أحيا الكولخوز( مزرعة جماعية) الميمون باسم لينين في ضواحي موسكو، وحوله الى مشروع تجاري ناجح ، يحقق الأرباح لمئات الأسر، وأسس
” كومونة شيوعية” بعثت الحنين في قلوب من يتحسر على الحقبة السوفيتية.
في تحد، غير معتاد من زيوغانوف، اصر على ترشح غرودينين، رغم اعتراض لجنة الانتخابات، بحجة انه لم يقدم جردا بكل أمواله في الخارج، ودخل الحزب الشيوعي بسبب ذلك في مواجهة مفتوحة مع الكرملين، أفضت الى ملاحقة عدد من أبرز نشطاء الحزب بمختلف التهم، لعزلهم عن الانتخابات، وعرقلة وصولهم الى البرلمان.
لقد ابتكر أنصار السجين الكسي نافالني، الموصوف رسميا بالعميل الأجنبي ، ويطلق عليه الاعلام المضاد، لقب زعيم المعارضة الروسية، ما يعرف بالاقتراع الذكي الذي تتلخص فكرته في منح اي مرشح، يملك فرصة واضحة في دخول البرلمان أصوات المعارضة ، بغض النظر عن توجهاته السياسية، ولقطع الطريق أمام وصول مرشحي حزب السلطة ” روسيا الموحدة” الى مجلس الدوما.
حققت الحملة في إنتخابات محافظة موسكو؛ قبل بضع سنوات، نتائج، شجعت نافالني الذي حصل على قرابة ثلث اصوات المقترعين في انتخابات المحافظ انذاك، باعتماد
” الاقتراع الذكي” نهجا لنشاطه السياسي من خلال ” صندوق مكافحة الفساد” المحظور والمصنف رسميا على انه منظمة متطرفة.
التقت مصالح نافالني، مع نقمة الحزب الشيوعي الرسمي على إجراءات السلطة ضد مرشحي الحزب، فوجه” صندوق محاربة الفساد” المنحل والملاحق أمنيا، انصاره، وقد انتقل أبرز ناشطيه الاعلاميين للعمل في الخارج، نحو التعاون مع مرشحين مختلفين خارج حزب السلطة، وبينهم مرشحون عن الحزب الشيوعي ،وحولوا مواقع التواصل الاجتماعي، الى سلاح موجه ضد حزب السلطة،عن طريق برامج وثائقية مثيرة ، تتحدث عن الفساد، حصلت على ملايين المشاهدات.
ونشبت معركة إلكترونية بين جماعة نافالني، ومؤسسة الرقابة الحكومية الروسية، إستخدمت فيها الأخيرة ، الة الحظر، والغرامات الضخمة، على المواقع المتعاملة مع جماعة نافالني، ووصلت الى حد تهديد شركتي “غوغل” و”ابل”، بعقوبات مالية، ان لم تحظر مواقع السجين رقم واحد في روسيا.
خضعت الشركتان العملاقتان للضغوط، ونفذت شروط الرقابة الروسية، وأصيب أنصار نافالني بخيبة الأمل من خضوع ” الغرب الديمقراطي” لإملاءات “الدكتاتورية”، مفضلا الأرباح المالية، على حرية التعبير.وبدات رحلة البحث عن بدائل في العالم الافتراضي، واشتد وطيس الحرب السبرانية، الى حد كسر العظام.
يعتقد مرشحو الحزب الشيوعي، انهم حققوا في الانتخابات الأخيرة ، غالبية كبيرة، سواء في القوائم الفردية أو الحزبية؛ وان السلطات سرقت انتصارهم عن طريق التلاعب بنتائج التصويت الإلكتروني عن بعد.
وكان نواب الحزب الشيوعي، عارضوا التصويت ” اون لاين” وتمديد فترة الاقتراع الى ثلاثة أيام، وحذروا من التلاعب والتزوير.
وبعد إعلان النتائج النهائية، يقول الشيوعيون ان مخاوفهم تحققت، واعترف سكرتير منظمة الحزب الشيوعي في محافظة موسكو، فاليري راشكين، بفضل اقتراع نافالني الذكي، في زيادة عدد الأصوات لصالح مرشحي الحزب، ويطالب باعادة فرز جذرية للاصوات، والسماح للجان المراقبة بالاشراف عليها، ومن ثم الغاء التصويت الالكتروني في الانتخابات القادمة.
واذ يتعذر على أنصار نافالني الليبراليين، التظاهر باسم منظمتهم المحظورة؛ فسيجدون في دعوة الحزب الشيوعي للاعتصام يوم غد السبت في ساحة بوشكين، إحتجاجا على تزوير نتائج الاقتراع؛ مناسبة للتعبير عن انفسهم والدخول في تحالف تكتيكي، قد يتحول بحكم الضرورة الى استراتيجي في المستقبل؛ بين ورثة النظام السوفيتي،وجيل الشباب ذوي النزعة الليبرالية المناهضة للشيوعية، فكرا وممارسة.
المفارقة ان ساحة بوشكين، موقع الاحتجاج المزمع، كانت تحتضن في الحقبة السوفيتية، احتجاجات المنشقين ، الناقمين على النظام الشيوعي،وكانت أجهزة الامن، تحاصرهم، وتأخذ بعضهم الى معسكرات الاعتقال!