في حوار مع 3 محطات إذاعية روسية، أعرب وزيرالخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن تشاؤم موسكو إزاءفرص تمديد معاهدة “ستارت” الجديدة الخاصة بتقليصالترسانة النووية مع واشنطن، والتي تنقضي مدة سريانهافبراير المقبل.
لكن لافروف في الوقت نفسه شدّد على أن روسيا لنتنسحب من المحادثات بشأن تمديد المعاهدة، معالتنويه بانه “لا يجوز إجراء الحوار على أساس الإنذاراتالنهائية“ الامر الذي يعني أن من أولويات الجهود التيتبذلها القيادة الروسية في المرحلة الراهنة هي محاولةإقناع واشنطن لتمديد الاتفاقية.
ذلك على الصعيد الدولي.
على الصعيد الإقليمي، ومع تصاعد النيران المشتعلةحول المحيط الروسي، تتصدر أولويات روسيا عمليةالقضاء على الإرهابيين المدرجين على قوائم الإرهابالدولية، وتغيير الوضع في الشمال السوري وبخاصة فيإدلب وضواحيها، والذي يشكّل عائقا لحل مشكلة اللاجئينالسوريين في الداخل والخارج، وكثير من القضاياالمتعلقة بسيادة الدولة السورية، والمضي قدما نحوالحل السياسي.
إن منطقة إدلب وما حولها هي منطقة خارجة بالكامل عنسيطرة الحكومة السورية، ترابط فيها نقاط مراقبة تركيةودوريات مشتركة تركية روسية تشرف على نظام وقفإطلاق النار، بالإضافة إلى التنسيق العسكري الأمني التركيالروسي للتخلص من بقايا الإرهابيين “المستوردين” منبلدان مختلفة، ممن لا يشملهم اتفاق تسوية الأوضاع،وتمتلئ ملفاتهم بجرائم إرهابية.
تشير التقديرات إلى أن عدد هؤلاء يبلغ حوالي 3 آلافعنصر إرهابي، اختلطوا بالمدنيين المحليين الذين يمثلونحاضنة شعبية لهم، ما يعقد عملية التخلص منهم.
وينتمي عدد كبير من هؤلاء إلى مناطق القوقاز الروسية،حيث بدأ المئات منهم يفكرون في العودة إلى القوقاز عنطريق البر، من خلال الحدود البرية التركية الأذربيجانية،ثم الأذربيجانية الروسية، خاصة وأن مستقبل “الخلافةالإسلامية” و“الدولة الإسلامية” قد انتهى في بلاد الشامبالفشل الذريع، وأصبح من الواضح أن مستقبلهم علىالأراضي السورية محفوف بالمخاطر.
هذا ما يقلق القادة الروس، وعبر عنه الرئيس الروسي،فلاديمير بوتين، خلال مكالمة هاتفية مع نظيره التركي،رجب طيب أردوغان، سيما وأن بعض التنظيمات الإسلاميةالمتطرفة الداعمة في منطقة الخليج، بدأت لحنهاالمفضل، القديم والمتكرر، بالدعوة للجهاد لنصرة الإسلامفي قرة باغ.. بنفس آلية “الجهاد ضد الإلحاد” فيثمانينيات القرن الماضي، ثم نصرة المسلمين فييوغوسلافيا في تسعينياته، ثم مسلمي الشيشان نهايةالتسعينيات ومطلع الألفية، ومرورا بـانتصار “الإسلام” فيثورات “الربيع العربي“، ثم إنشاء “دولة الخلافةالإسلامية” في الشام. نفس التنظيمات والمؤسساتوالجمعيات الخيرية، بل ونفس الوجوه ونفس الأجهزةالغربية من ورائها، بذات الآلية، وذات التمويلات السخيةالخبيثة، التي تسعى هذه المرة إلى زعزعة الاستقرار فيخاصرة روسيا الرخوة، القوقاز، ومن خلال التخطيط لنقلوتحريض بضع مئات من الإرهابيين للتسرب عبر أذربيجانلخلق توتر في العلاقات الروسية الأذربيجانية، والروسيةالتركية، تمهيدا لإدخال هؤلاء إلى الأراضي الروسية عبرحدود يبلغ طولها 330 كلم بين أذربيجان وروسيا.
قد يندرج الأمر تحت بند “الخيال التآمري“، إلا أنه أقربمما نتصور، وأعقد من كل خيالاتنا الساذجة. ففي عام2016، كتبت الصحفية البريطانية، كارلوتا غال، في تحقيقصحفي بالنيويورك تايمز (21 مايو) تحت عنوان “كيفتحولت كوسوفو أرضا خصبة لداعش“، عن عثور الشرطةفي كوسوفو على 314 من أهالي الإقليم (في السنتينالأخيرتين 2014-2016)، سافروا للانضمام للدولةالإسلامية، وفقا للمحققين في كوسوفو، بما في ذلكانتحاريين، و44 امرأة، و28 طفلا، وهو الرقم الأعلى قياساإلى عدد السكان في أوروبا. وبعد سنتين من التحقيقاتوجهت الشرطة تهما إلى 67 شخصا منهم، وألقت القبضعلى 14 إماما، وأغلقت 19 مؤسسة إسلامية، بتهم خرقالدستور وزرع الكراهية وتجنيد المواطنين بغرض الإرهاب.
لذلك فإن ما يحدث في سوريا وليبيا وقرة باغ وتحركاتالإرهابيين عبر الحدود البحرية والبرية، تجيب على كلالانتقادات التي تساءلت عن جدوى التدخل الروسي فيسوريا، انطلاقا من أن سوريا دولة بعيدة لا تربطها بالدولةالروسية أية حدود، ولا تمثل بالنسبة لروسيا أي أهميةاستراتيجية. وتجيب على كل الأسئلة الخاصة بما يبدوغريبا في العلاقات المتشابكة بين التنظيمات الإرهابيةوالأجهزة الأمنية الغربية.
إن من بين المهام الإنسانية التي تضطلع بها وزارة الدفاعالروسية في سوريا هي إعادة اليتامى الروس من الأطفالالذين قضى آباؤهم وأمهاتهم في سوريا والعراق، ممنيحملون الجنسية الروسية، من القوقاز وغيرها منالمناطق الجنوبية. وبعيدا عن الشق العاطفي المأساويوالعميق لهؤلاء الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة كييخرجوا إلى هذا العالم محمّلين بآثام الماضي، وخطاياالآباء والأمهات، دون بيئة تربوية أو تعليمية صالحة لإنسانسوي سليم، فهناك آلاف آخرين لم ولن يعودوا إلىأوطانهم، وستغذيهم روافد الكراهية والغل والحقد،وتموّلهم المؤسسات والمنظمات والجمعيات بأموالالنفط المهرب وغيرها من منابع تمويل الإرهاب، بتنسيقمن أجهزة تحركها أوهام الغطرسة والقوة والسيطرةوالهيمنة. هؤلاء هم الخطر الحقيقي، لا على المنطقة أوالإقليم أو حتى على روسيا وحدها، وإنما خطر حقيقييهدد العالم أجمع.
لا شك أن كل ذلك إنما يخدم سياسة التصعيد التي يتبعهاحلف الناتو بقيادة واشنطن ضد روسيا، وضد جهودهالإحلال السلام في سوريا. ولعل من بين البراهين المؤكدةعلى ذلك التعليمات التي أصدرتها الولايات المتحدةالأمريكية إلى جميع حلفائها بمقاطعة المؤتمر الدولي فيدمشق بشأن المساهمة في عودة اللاجئين، والمقرر عقدهالشهر المقبل. وكما شرحت سلفا، فإن المماطلة في عودةاللاجئين تهدف إلى استدامة تغذية منابع الإرهاب الدوليبالبشر قبل الأموال، خاصة أن عملية تجنيد شباب يعيشونحالة من البؤس والفقر المدقع، وعدم توفر العمل فيمعسكرات اللاجئين، كمرتزقة في ميادين القتال ولحمبشري تلتهمه آلة الحرب قربانا لأهداف سياسية أوسعنطاقا، هي عملية أسهل كثيرا من تجنيد شباب فقدبوصلته، ثم عاد للوطن بعد صراع دموي مهلك، ويسعىلتضميد جراحه، وبناء مستقبله، وتعمير أرضه بسواعدهالفتية.
إن محاولة خلق بؤر اضطرابات وتوتر في البلدان المجاورةلروسيا، من خلال استثمار تكنولوجيا “الثورات الملونة“،واستغلال السعي الحقيقي والمشروع للشعوب في بحثهاعن الحرية والديمقراطية، وتزكية مشاعر الغضبواستخدام العنف وزرع الفتن الطائفية والعرقية، لتغييرالأنظمة السياسية والتدخل في الشؤون الداخلية للدولذات السيادة، ليس سوى استكمالا للسياسات الغربيةالرديئة التي تنتهجها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفالناتو، سعيا نحو الهيمنة وفرض سياسات الأمر الواقع،وسيادة القطب الواحد. وهو ما يتسق تماما مع إلغاءالاتفاقيات الخاصة بالأسلحة النووية الصاروخيةالمختلفة، وآخرها معاهدة ستارت الجديدة.
يتزامن ذلك مع تصعيد على الأرض سواء في الشرقالأوسط أو في المحيط الروسي كما أسلفت، وعرقلةالتوصل إلى سلام في الشرق الأوسط، وتوسيع تواجدالقواعد الأمريكية على أراضي دول الخليج، والعقوباتالتي تستهدف عرقلة المشاريع الاقتصادية الاستراتيجيةلروسيا. إنه مخطط ممنهج يأتي في “عبوة واحدة” معالحرب الهجينة التي تشنها وسائل الإعلام الغربية علىروسيا، في محاولة لشيطنة كل ما هو روسي، على كلالأصعدة (حتى على مستوى اللقاح الروسي “سبوتنيك V” الذي يفترض أنه يواجه جائحة عالمية تعاني منها البشريةبأسرها!). يهدف هذا المخطط إلى إخضاع روسيا لسياساتالغرب، والتحكم في ثرواتها الطبيعية وموقعها الجغرافي،أو تحييدها من خلال تفتيتها لكيانات سياسية أصغر،لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء، وإثبات التفوق الأمريكيوهيمنة القطب الواحد، استعدادا للمنافسة وربماالمواجهة الحتمية ما بين الولايات المتحدة الأمريكيةوالصين، التي تتحرك بمعدلات اقتصادية فائقة السرعةوآفاق غير محدودة.
في الحوار الذي دار مع وزير الخارجية الروسي، سيرغيلافروف، وردا على سؤال حول جدوى التعامل مع الغرببدبلوماسية لا يفهمها، بينما يتمادى في فرض عقوباتعلى أية حال قال الوزير: “إن الأساس الوحيد الذي يمكنأن تقوم عليه علاقات الدول هو المساواة والاحتراموالمصالح المتبادلة، وهو ما يعني ضرورة أن تتخلى بعضالدول التي تحدد مسار الأمور في الاتحاد الأوروبي عنمحاولاتها التصرف، انطلاقا من الشعور بتفوقها، وتعترفبعدم وجود بديل عن حوار نزيه، يعتمد على الحقائق“. لكن لافروف عاد وأكد على أنه ربما يتعين “التوقف عنالتواصل مع المسؤولين عن السياسة الخارجية في الغربلفترة من الوقت” إذا كانوا “لا يفهمون ضرورة الحوارالمبني على الاحترام المتبادل“.
لذلك فإن المجهودات الجبارة التي تستمر القيادة الروسيةفي بذلها من أجل الحفاظ على الأمن القومي الروسي،بتطوير استعداد الجيش الروسي وقواته الفضائية فيمجال الدفاع الاستراتيجي عن روسيا، بالتزامن مع السعيالدائم لتعزيز مكانة هيئة الأمم المتحدة ودورها فيالحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، هما المحورانالأساسيان للسياسة الخارجية الروسية التي تعتمد علىالاستماع إلى صوت العقل الذي لا يفتقر إلى القوة. وكماتقول وسائل الإعلام الروسية: فإن من “لا يستمع إلىلافروف لا شك سيستمع إلى شويغو“. (إشارة إلى وزيرالدفاع الروسي، سيرغي شويغو).
لقد تقدم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بمبادرةجديدة لتمديد اتفاقية الحد من الأسلحة الاستراتيجيةالهجومية لمدة سنة على الأقل، للحفاظ على بقاء عمللجان المراقبة والتنسيق بخصوص هذه الأسلحة، وعلىدورها الهام في تلطيف الأجواء بين المؤسستينالعسكريتين الروسية والأمريكية. ونأمل أن تجد هذهالمبادرة تجاوبا من الإدارة الأمريكية، لفتح مجال فترةزمنية ولو محدودة، خاصة في ظروف الانتخابات الرئاسيةالأمريكية، كي يتم مناقشة هذه القضايا الاستراتيجية أكثرعمقا مع الإدارة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية.