شعريّةُ الذاكرة في القصيدة السرديّة التعبيريّة .
رابعاً : الذاكرة الشعريّة ( الزخم الشعوري ) عند الشاعرة : مرام عطيّة – قديسٌ في بيتنا – سوريا .
يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .
وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدة السرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015 ,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضنا العربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانوا أوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشار وأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدة الجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقيا واميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتها ويحافظون على تطويرها .
سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبما يُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السردية التعبيرية .
أنّ الذاكرة هي المخزن الآمن والبعيد لآلآف الذكريات التي مرّت عينا , وهناك ذاكرة نشطة وأخرى خاملة , فالذاكرة النشطة هي التي تمتلكها الذات الشاعرة وبمقدورها أن تستحضر تلك الذكريات القديمة الغافية على ضفافها , وبثّ الروح فيها من جديد في الزمن الحالي , هي لحظة الأمساك بالزمن الماضي والعودة به الى الزمن الحاضر من أجل فكرة معينة , او موقف معين , أو الأستشهاد بهذه الذكريات لغاية ما .
رابعاً : الذاكرة الشعريّة ( الزخم الشعوري ) عند الشاعرة : مرام عطيّة – قديسٌ في بيتنا .
في هذا النصّ نجد ( التسجيل اللمسي الروحي ) حيث من خلال مفردات النصّ نشعر بملمس الأشياء والصور التي تنبعث من أعماق الذات الشاعرة , الذات العاشقة للقداسة والأيمان والجمال . وكذلك نتلمس زخم شعوري عنيف يتدفق من خلال مفردات هذه الذات الشاعرة العاشقة للجمال والحياة . اننا نجد هذا الشعور العنوان / قديسٌ في بيتنا / حيث عالم الشاعرة والأجواء المفعمة بروح العشق والتفاني من أجل الآخر , / القدّيس / الولد / الأولاد / طفلة / أمّي / أخوتي / شقيقاتي / أبي / . لقد أخذت الذات الشاعرة هنا الدور الرئيسي داخل / البيت / فهي المحور الأساسي والفعال , نستشعر كم من المشاعر العميقة والمتدفقة من قلبها تجاه هؤلاء المحيطين بها والمتعلّقة بيهم , فالجميع دخل دائرة عشقها الكبيرة , مما يدلّ على رهافة الروح ورقّة القلب , فمثلاً نقرا للشاعرة / للشوقِ ورودٌ وأشواكٌ ، عبقُ تدانٍ و قزحُ ذكرياتٌ ، فإياكَ أن تتجاهلَ رسائل الحنينِ ياولدي ، أو تذريَ سنابلَ الودادِ للرياحِ / , نجد كتلة من الشوقو الحنين والذكريات تتدفق على شكل كتل شمّية وحسيّة ملوّنة بالأشواك والحسرة والألم , ثم تعود الشاعرة لتتوحّد مع الطبيعة رغم واقعها المتازّم بالأزمات والنكبات واللوعة لتحرّك فينا ذكريات قديمة كانت قد همدت وتناسيناها بفعل هذا الواقع / أشغالي المتراكمةِ ، وشاشتي الزرقاءِ ،و أسرعتُ إلى قديسٍ حميمٍ ضعفتْ قواه وغارتْ عيناهُ في أخاديدِ الشيخوخةِ، ينتظرني في بيتنا الدافئ قديسٍ أفنى ربيعَ شبابهِ في رعايتي طفلةً مع أمِّي الحبيبةِ حتى اشتدَّ عودي ، قويتْ جناحاي و أتقنتُ فنَّ الطيرانِ / , أنّه القلب الكبير المنفتح على عوالم الخير والمحبة والسلام في زمن الحرب والظلام والخيبات الكثيرة . ثم تأخذنا الى عوالم قلبها المفعم بالحبّ والعشق , وتحاول أن تغلّب الحبّ القلبي على الحبّ العقلي , كونها شعلة نقيّة من المشاعر الصادقة والأحاسيس المرهفة ’ فهي تقول / جئتُ ومعي الكثيرُ من فاكهةِ القلبِ و القليلُ من خبزِ العقلِ إلى وطني الأولِ وسريرِ مهدي حيثُ كانت سحبُ أخوتي تمطرُهُ زيتوناً ولوزاً ، وصلواتُ الشكرِ والعرفان التي تقيمها شقيقاتي الحبيباتُ كلَّ صباحٍ على شرفاته الواسعةِ تزرعُ ثراهُ الغالي حبقاً ونقاءً
أبي / لقد اجتمع الوطن العائلة الكبيرة / الوطن / والعائلة الصغيرة في قلبها من خلال هذا المقطع النصّي الثريّ والمشحون بالعاطفة . كلّما تجفّ ينابيع الحياة تتدفق أنهار الحبّ البريء والنقيّ من أعماقها , ولم لا وهي / النخحلة الكريمة / والشجرة الرقيقة الأغصان في زمن أصبح الزمن يحمل من القسوة ما كسّر حتى اجنحتها الرقيقة , فهي تقول / أيُّ نهرٍ يتدفقُ في صدري ! حين يجفُّ ضرعُ الحياةِ ، وأيُّ نخلةٍ كريمةٍ ! أعودُ إليها حين ينكرني البشرُ ، أو حين يكسرُ أغصاني الرقيقةَ بلا رحمةٍ الزمانُ
سقاكَ الله الصحةَ والهناءَ أبي ، يانهراً من الحبِّ مازالَ يجمعنا بحنانه كطوقٍ من لؤلؤٍ على جيدِ حسناءَ ابتسمْ أبي / , أننا أمام طوفان هذه الذكريات العاصفة بالذاكرة
وجدنا أنفسنا تعيش في هذه الأجواء الحميمية , ولقد استطاعت الشاعرة ان تحرّك مشاعرنا الدفينة , اننا فعلا نسمع نداءات الذات الشاعرة هنا ونتلمّس عذوبتها , وبدأنا نتعرّف على عوالمها الداخية الدفينة من خلال صدى هذه الذكريات . يبقى الأمل يمور في داخل روح الشاعرة , ويبقى تعلّقها بالحياة رغم قسوتها , فها هي تختتم قصيدتها بهذه اللغة الهامسة اللذيذة / ابتسمْ أبي ، فحين يفترُّ ثغركَ ينتهي الموتُ، وإذ تهمسُ عيناك يشرقُ ألفُ فجرٍ ، يضحكُ الكونُ، ويطلقُ العمرُ سنونواتِ الفرح ./ , أنّها تطلب السلام والأمان والفرح من / الأب / والذي هو المحور الرئيسي في هذه الذكريات التي أصبحت جزء لا يمكن الخلاص منه رغم تقدّم سنوات العمر .
لقد اختارت الشاعرة اكثر اللحظات أشراقا وحيوية في روحها , وشاركتنا بعفوية خصوصية هذه الذكريات , حينما حاولت أقتطاع كتل زمانية وعززتها بهذا الزخم الشعوري العنيف , فكان الزمن والذكريات مندمجان مع بعض اجّجهما هذا الكمّ الفعّال والمؤثّر من المشاعر الدفينة والرقيقة , فكان الحب العميق للوطن والأنسانية والذات , فكان الانفتاح الروحي على كلّ هذه العوالم , لقد حرثت الشاعرة ذاكرتنا وبذرت بذور ذكرياتها فيها , فمنحتنا متعة الأكتشاف الروحية والنشوة والدهشة .
قديسٌ في بيتنا
______________
للشوقِ ورودٌ وأشواكٌ ، عبقُ تدانٍ و قزحُ ذكرياتٌ ، فإياكَ أن تتجاهلَ رسائل الحنينِ ياولدي ، أو تذريَ سنابلَ الودادِ للرياحِ . اليوم دعاني الشَّوقُ لنخلةِ بيتنا الوارفةِ فاعتذرتُ من جامعتي وأولادي .. من أشغالي المتراكمةِ ، وشاشتي الزرقاءِ ،و أسرعتُ إلى قديسٍ حميمٍ ضعفتْ قواه وغارتْ عيناهُ في أخاديدِ الشيخوخةِ، ينتظرني في بيتنا الدافئ قديسٍ أفنى ربيعَ شبابهِ في رعايتي طفلةً مع أمِّي الحبيبةِ حتى اشتدَّ عودي ، قويتْ جناحاي و أتقنتُ فنَّ الطيرانِ جئتُ ومعي الكثيرُ من فاكهةِ القلبِ و القليلُ من خبزِ العقلِ إلى وطني الأولِ وسريرِ مهدي حيثُ كانت سحبُ أخوتي تمطرُ هُ زيتوناً ولوزاً ، وصلواتُ الشكرِ والعرفان التي تقيمها شقيقاتي الحبيباتُ كلَّ صباحٍ على شرفاته الواسعةِ تزرعُ ثراهُ الغالي حبقاً ونقاءً
أبي ، أيُّ نهرٍ يتدفقُ في صدري ! حين يجفُّ ضرعُ الحياةِ ، وأيُّ نخلةٍ كريمةٍ ! أعودُ إليها حين ينكرني البشرُ ، أو حين يكسرُ أغصاني الرقيقةَ بلا رحمةٍ الزمانُ
سقاكَ الله الصحةَ والهناءَ أبي ، يانهراً من الحبِّ مازالَ يجمعنا بحنانه كطوقٍ من لؤلؤٍ على جيدِ حسناءَ ابتسمْ أبي ، فحين يفترُّ ثغركَ ينتهي الموتُ، وإذ تهمسُ عيناك يشرقُ ألفُ فجرٍ ، يضحكُ الكونُ، ويطلقُ العمرُ سنونواتِ الفرح .