23 ديسمبر، 2024 9:02 ص

تجلي البيان في آيات القرآن (15)

تجلي البيان في آيات القرآن (15)

تبيان الإعتبار من قصة قارون
﴿إِنَّ قَٰارُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ﴾
القصص
قارون هذا من العبر العظيمة في القرآن الكريم وكل ما في كتاب الله عبرة أو حكمة أو موعظة يلفها جميعا الهدي وصلاح الانسان منيرا دربه بالتشريع واضعا له شرائط العمل وشعائر العبادة وقوانين التعامل ، وقصة قارون القصيرة السطور القليلة الاحداث العظيمة العظة تشكل واحدة من نقاط التوقف التي يزخر بها هذا الكتاب الإلهي العظيم البيان ، لم تأخذ أحداث قصة قارون الا بضعة آيات من سورة القصص التي تشتمل على 88 آية ، تبدأ من قوله تعالى مخبرا عن تلك الشخصية ذات الثراء الأسطوري الذي ظل مضربا للأمثال في الغنى الى اليوم : إِنَّ قَٰارُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ)
في الآية المحكمة بيان طاغي معززا بمجاز مبني على استعارة لتبيان ثقل الخزائن التي ملكها او كثرتها و”كل مجاز يبنى على التشبيه يُسمى استعارة” عند أهل البلاغة ، وفي قوله تعالى ” إن قارون كان من قوم موسى ” يقول البغوي في تفسيره : كان ابن عمه “موسى عليه السلام” لأنه قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب عليه السلام وموسى بن عمران بن قاهث ، وقال ابن إسحاق : كان قارون عم موسى ، كان أخا عمران ، وهما ابنا يصهر ، ويضيف “لم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من قارون ، ولكنه نافق كما نافق السامري” ، ( فبغى عليهم ) قيل: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل ، فكان يبغي عليهم ويظلمهم ، وقال قتادة : بغى عليهم بكثرة المال ،انتهى كلامه، وهذا عندي أوجه وأنسب للسياق فقد تجبر عليهم وطغى وتكبر بأمواله كما يتفق أغلب المفسرين واللغويين وأصل البغي من “بغى الجرح” إذا ترامى إليه الفساد كما في المعجم . ولكن قال النخعي وقتادة : مجاوزة الحد في كل شيء ،فتطاول عليهم، وتجاوز الحدود في ظلمهم وفي الاعتداء عليهم ، ولم يحدد القرآن كيفية بغيه أو الأشياء التي بغى عليهم فيها، للإشارة إلى أن بغيه قد شمل كل ما من شأنه أن يسمى بغيا من أقوال أو أفعال . انتهى كلامهما ، بل ان بعض اهل السلف يعدون أطالة الثوب بغيا من الاغنياء فكيف بما فعل قارون من العلو والخيلاء ، قال شهر بن حوشب : زاد في طول ثيابه شبرا ، وروينا عن ابن عمر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ” لا ينظر الله يوم القيامة إلى رجل جر ثوبه خيلاء ” انتهى.
وقد كان قارون يحمل مفاتح خزائنه معه اينما رحل ومعه عصبة من الرجال سخرهم لهذا الأمر والعصبة مجموعة في قوامها بآراء تبدأ من سبعة الى عشرة الى اربعين ، “وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه ” هي جمع مفتح وهو الذي يفتح به الباب ، هذا قول قتادة ومجاهد وجماعة ، وقيل: مفاتحه : خزائنه ، كما قال : ” وعنده مفاتح الغيب ” في (الأنعام) أي : خزائنه ، أو جمع مفتاح وكان حقه أن يجمع على مفاتيح ولكن هذه الياء قد تحذف كما أنهم قد يجتلبون ياء في الجمع الذي لا ياء فيه وقيل إن مفاتحه جمع مفتح فلا حذف فيه. “لتنوء بالعصبة أولي القوة ” أي : لتثقلهم ، وتميل بهم إذا حملوها لثقلها ، ” بِالْعُصْبَةِ” أي تنوء بها العصبة أن تتكلف النهوض بها يقال ناء ينوء : نهض بجهد ومشقة وناء به الحمل أثقله وأماله ، وفي القاموس: ناء بالحمل نهض متثاقلا وناء به الحمل أثقله . وهذا من المقلوب في البلاغة ، تقديره : ما إن العصبة لتنوء بها ، يقال : ناء فلان بكذا إذا نهض به مثقلا .وناء فلان بحمل هذا الشيء، إذا أثقله حمله وأتعبه ، قال ذو الرمة :
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ،،،، وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
ومثله : أخذت فلم أملك ونؤت فلم أقم،،،، كأني من طول الزمان مقيد
والباء في قوله بِالْعُصْبَةِ للتعدية والعصبة عند أهل اللغة : الجماعة من الناس من غير تعيين بعدد معين، سموا بذلك لأنهم يتعصب بعضهم لبعض ومنهم من خصها في العرف، بالعشرة إلى الأربعين. والقلب البلاغي في قوله تعالى: “وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَة ” وفن القلب هو الذي المفاتيح هنا تنوء بالعصبة وإلا فالأصل ان العصبة تنوء بالمفاتح أي لتنهض بها بجهد، يقول أبوعبيد: هو كقولهم عرضت الناقة على الحوض وأصله عرضت الحوض على الناقة ومنه قول حسان بن ثابت:
كأن سلافة من بيت رأس ،،،، يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو طعم غضّ ،،،، من التفاح هصره اجتناء
وقد قيل أنه لا قلب في الآية وان الباء للتعدية كالهمزة والأصل لتنوء المفاتح العصبة الأقوياء أي تثقلهم، وهو رأي صاحب العمدة أيضا ، ولكن اذا لم يكن في-تلك الآية- فن القلب ففيها من فن المبالغة ما يصرح عن نفسه وذلك في وصف الكنوز حيث ذكرها جمعا وجمع المفاتيح أيضا وذكر النوء والعصبة وأولي القوة وهي من أجمل المبالغات عند الحاذقين، وهي أن يتقصى القائل جميع ما يدل على الكثرة وتعدد ما يتعلق بما يملكه، وقد ذكر في كتاب الحاوي مثلا من التقصي لعمرو بن الأيهم التغلبي يصف قومه بالكرم فلم يزل يتقصى ما يمكن أن يقدر عليه من صفات فقال:
ونكرم جارنا ما دام فينا ،،،، ونتبعه الكرامة حيث كانا
ثم (إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ) هنا قبل التطرق للمراد انظر بلاغة التعليل ، لأن الفرح المحض في الدنيا من حيث أنها دنيا مذموم على الإطلاق، وعلام الفرح بشيء زائل وظل حائل. وقد طرق أبو الطيب هذه البلاغة بقوله :
كذا الدنيا على من كان قبلي ،،،، صروف لم يدمن عليه حالا
أشد الغم عندي في سرور ،،،، تيقّن عنه صاحبه انتقالا
لكن قارون لا يسمع لقومه فهو متكبر عليهم ، ثم صاغ الله تعالى على السنتهم حكمة عظيمة وازنت بين نصيب الدنيا وذخر الآخرة 🙁 وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ) هذا القانون الذي استقى منه كثيرون من أهل الحكمة والوعظ كلماتهم وارشاداتهم ونصحهم في موازنة امورنا بين قطف اطايب الدنيا والادخار للآخرة ، منها قول منسوب لإمام البلاغة “اعمل لدنياك كانك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا” وفي الآية تتميم بلاغي التتميم:{ولا تنس نصيبك من الدنيا} وهنا لابد منه لأنه إذا لم يغتنمها ليعمل للآخرة لم يكن له نصيب في الآخرة ففي الحديث الشريف: «اغتنم خمسا قبل خمس: منها،، وغناك قبل فقرك،
وذكروه ان يحسن بماله ويشرك الناس كما أحسن الله اليه ورزقه ، ولكنه بجبروته وطغيانه : (قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓۚ) فيذكرنا الله (أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡـَٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ) ويبين لنا غيه وامثاله ممن غرتهم أموالهم فنسوا حقيقة الموت والفناء ونسوا الله ومشيئته ، ثم يبدأ مشهد الاعتبار العظيم من : (فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ فِي زِينَتِهِۦۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ) انظر اولا للذين يريدون الحياة الدني كم تمنوا وتحسروا ان يكونوا مثله او قليلا منه ، واعتبروه ذا حظ عظيم ، ولم ينفع معهم عذل ذوي العلم الذين قالوا : (وَيۡلَكُمۡ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيۡرٞ لِّمَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗاۚ وَلَا يُلَقَّىٰهَآ إِلَّا ٱلصَّٰبِرُونَ) وعادة من يؤتى علما يؤتى الحكمة والقناعة ، لكن لاسامع لهم الا من وعى واتعظ وهؤلاء قليل ، فبقي اهل الدنيا يتحسرون ويتمنون ان يكونوا مكان قارون ولكن امر الله جاء () فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ) خسفت الارض بقارون وبداره المليئة بالخزائن ايضا ، ولم يعد يظهر منه ومما ملك شيئا ، فانظر في لحظة واحدة ماذا قال اولئك الذين تمنوا مكانه : (وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ) أولا تيقنوا بعد صحوتهم من غرور الدنيا انه لايفلح الكافرون وان الله يبسط الرزق كما يشاء لحكمة عنده دون تفسير لدينا ولا حساب وساق ذلك في جملة “ويكأنه” التي يقول عنها إسماعيل بن المتوكل الأشجعي, منقولا عن قَتادة ( وَيْكَأَنَّهُ ) قال: “ألم تر أنه” والقول الآخرما ذكره القاسم عن معمر “أو لا يعلم أنه.”وتأول هذا بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة, واستشهد لصحة تأويله ذلك كذلك, بقول الشاعر:
ســـألَتانِي الطَّــلاقَ أنْ رأتــانِي ،،،، قـلَّ مــالي, قَــدْ جِئْتُمـا بِنُكْـرِ
وَيْكـأن مَـنْ يَكُـنْ لَـهُ نشـب يُـحْبَـ ،،،، بْ وَمـن يَفْتَقِـرْ يعِش عَيْشَ ضَـرّ
وقال بعض نحويي الكوفة: ” ويكأنّ” في كلام العرب: تقرير, كقول الرجل: أما ترى إلى صُنع الله وإحسانه، وأرى ان هذا التعبير يقابل في لغة عصرنا “يبدو انه” التي يستخدمها المثقفون في معرض التبصر بالامر بعد رؤية نتيجته. والأهم من هذا انهم حمدوا الله انهم لم يكونوا مكانه وفرحوا انهم ليسوا أغنياء مثله وإلا لخسف الله بهم الأرض.!
قال تعالى في “هود” : ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ () وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾
وهذا حال أكثر الناس
(إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ)
اللهم اجعلنا منهم .