23 ديسمبر، 2024 4:55 ص

تجلي البيان في آيات القرآن

تجلي البيان في آيات القرآن

(2) التحوط من المضلين في سورة آل عمران
و لايدع القران في بيانه لمدع او متصيد او متشكك او ذي مآرب اخرى صلحت ام فسدت مصدرا لطعن او موردا لشك فيورد في -آل عمران- ﴿وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾46
فلو كان كاتبا من البشر مهما علت قدراته الادبية و امكاناته اللغوية لاكتفى بقوله إنباءً عن معجزة عيسى عليه السلام :”و يكلم الناس في المهد””ومن الصالحين” ،ولكن القران العظيم و لأنه كتاب عقيدة –في احد ادواره العظمى- يعرف ان نفوس البشر من المحرفين للكلم عن مواضعه ومن المتنطعين ومن المتصيدين سينفذون من اي منفذ ولو كان واهيا، ولكن المنفذ الواهي يغري الاحمق المشاحن و الناعق خلفه ، و ما اكثر الناس الا تابعون ،
ولذا فإنك ترى القران يحكم الآية من آياته فلايدع لمتربص غرضا يطاله او هدفا يناله، فقال “ويكلم الناس في المهد وكهلا” وسيقول المجادل العارف بطرف من البلاغة وفنونها (ولكن الا يعد هذا من الاستطالة غير الواجبة، فالمعجزة هي ان يكلم الناس “في المهد” وهذا ماوجبت الاشارة اليه ، اما (كهلا) فكلنا نكلم الناس كهولا، فما الداعي لذكرها)؟
اقول لك : نعم وقدر تعلق الامر بالخطاب العام و البسيط والذي يعنى بشؤون الحياة الاخرى نعم ، اما في الامور العقدية و توجس مراء الناس وجدلهم و تتبعهم لكل شاردة و واردة ان تعلق الامر بالدين ، فستخرج اليك فرقة -كما خرجت الينا كثير مثلها- لتقول ان الله لم يذكر (ان عيسى تكلم في كهولته ورجولته) و لا اتى باحكام ولا رسالة ، وانما تكلم في المهد فقط “كما اشار الله” اعجازا و تبيانا لخصوصيته ، و لهذا تحوط القران بهذه اللفظة و التي هي من صلب البيان ، نعم لا احد يتكلم في المهد الا عيسى و كذا كثيرون لايتكلمون في الكهولة لعارض يعرض لهم من علة او غيره ، فلاجل هذا ورد البيان بهذا التجلي ،
ولو تتبعنا (ال عمران) في كثير من مواضعها لوجدناها في غاية التحوط من ذلك على الدوام و لانقول في غاية الإحكام فالقران كله محكم بتنزيل الله سبحانه ، وما اراده الله (متشابها) بنصه تعالى فانما اراد منه غاية اشار اليها في معرض آية اخرى (من ال عمران نفسها) ووصف فيها ﴿ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ والذين يتبعون ماتشابه منه ﴿ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ﴾ -قصدا-منه سبحانه ،وهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ ومن اهل الكتاب الذين نزل بعض القران بين ظهرانيهم كانوا يتتبعون الفاظه ليتسقطوا –كما يظنون- وعلى هذا تجد الله تعالى يقول على لسان عيسى عليه السلام:﴿فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِ ٱللَّهِ﴾ ولولا هذا التحوط لقال: “فانفخ فيه فيكون طيرا” واكتفى، فلاشك ان كله باذن الله “خالقه”. ولكن الذين ادعوا ان عيسى هو الله محرفين ماورد في الانجيل لاغرابة ان اقتطعوا نصا من القرآن محتجين على اتباعهم مغررين.
ويتأكد لك هذا المذهب المتبع في القرآن العظيم من آيات أخر في جزء آخر وفي حزب اخر من السورة ذاتها اذ يقول الله تعالى على لسان الحواريين الذين ناصروا عيسى عليه السلام ﴿فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾
مايعنينا منها في هذا المقام ويلفتنا هو تكرار لفظ الجلالة في محل كان يمكن استخدام الضمير العائد عليه كما هو الدارج في اللغة العربية، فلا ضرورة لتكرار اسم ورد للتو “،،نحن انصار الله آمنا بالله،،”بل ايراد ضمير دال عليه (خصوصا كآخر مذكور) بل احيانا مايتقدم على الاخر ان لم يتغشاه لبس، انظر لقوله تعالى في البقرة ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ اي (آتى داود) ولم يكن هو آخر من ذكر بل (جالوت) ولكن هنا عقلا لا لبس اذ ان جالوت هزم وقتل فلن يؤتى الملك مقتولا، و إذن فلا مسوغ لقول (وآتى داوود الملك).
و عودا لآية آل عمران فان المتوقع و المقبول لدى المتحدث العربي الاصيل ان يقول او يسمع “نحن انصار الله امنا به …” و ستكون -الهاء- عائدة على اسم الجلالة حيث هو اخر اسم ورد قبل الضمير العائد، ولمن يحتج باللبس بين الله تعالى و غيره نقول : انما تقدمت قرينة تزيل اللبس هي قول عيسى : “…من انصاري الى الله ..” وعيسى عليه السلام هو المتكلم فلا يمكن ان يكون الضمير عائدا له ان كان (هاء) حيث وجب ان يكون (ك) (آمنا بك) لانه مازال في موضع مخاطب ان اريد عيسى نفسه ، ولكن ورغم كل هذا فقد تحوط القران من هؤلاء الذين “يتبعون ماتشابه منه” او الذين “في قلوبهم زيغ” فاثبت مكررا (لفظ الجلالة) اسما صريحا لكي لا يدع مجالا لمن يريد التأول كأن يقول (عيسى هو الله الذي آمن به الحواريون) ،، وقد فعلوا قبل ذلك مع الكتب السماوية السالفة بعد ان حرفوها او لووا اعناق عباراتها لتوافق هواهم و مبتغاهم ، ولذا أغلق عليهم القران العظيم هذا المدخل .
فانت ترى عبارة “عيسى بن مريم” تملأ آيات القرآن في آل عمران او غيرها للتحوط من الضالين الذين حرفوا كلام الله وغيروا ناموسه و ادعوا ان عيسى ابن الله او انه الله ، وفي زاوية اخرى ومن حزب آل عمران الثاني نجد تحوطا قرآنيا آخر من هؤلاء القوم المضلين اذ يسرد لنا مقطعا قصيرا من قصة نبي الله يحيى عليه السلام فيقول: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾انظر ورود لفظ الجلالة الثاني رغم امكان تعويضه بضمير يعود عليه بنفس القاعدة النحوية السالفة، (،،،ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة منه،،،) فلا شك ان التصديق سيكون بكلمة من الله وليس من غيره، لكن القرآن الكريم لم يرد ان يدع اي مجال للتاويل او التحريف للمعنى خاصة وان لفظ الجلالة هذه المرة لم يكن (آخر اسم مذكور قبل الضمير) كما توجب القاعدة .
ولايقتصر أمر التحوط هذا على سورة آل عمران بل في كل موضع من القرآن وبخاصة تلك المواضع التي تتناول “اهل الكتاب” من المغضوب عليهم ومن الضالين لان فريقا منهم ﴿يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ البقرة 75
ففي سورة البقرة على سبيل الاستدلال لا الحصر ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ ۗ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍۢ﴾
فقد تكررت لفظة “الكتاب” وكانت آخر اسم مذكور ويمكن تعويضه بضمير كعادة اللغة العربية وكما اسلفنا ولكن القرآن اراد التأكيد والتحوط من ان تذهب الاذهان الى لفظة الجلالة التي وردت في الآية، و هذا من التجلي في التبيان ، الا ان الامر مع اولئك القوم مختلف جدا ومقصود في مواضع القرآن جميعا ، ولنختم بما بدأنا في السورة مدار البحث فمنها قوله تعالى :﴿وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا﴾ فلكي لا تتهم مريم عليها السلام -من اهل الاغراض- فقد كررت لفظة “زكريا” رغم وجودها قبلا كآخر اسم مذكور قبل الفعل “دخل” فالعربية تتيح اخفاء “زكريا” في موضع فاعل “دخل” هنا لتكون -(فكفلها زكريا كلما دخل عليها المحراب) الفاعل ضمير مستتر مقدر ب-هو- يعود على زكريا عليه السلام -وهذا ماكان سيفعله كبار الكتاب والمؤلفين، ولكن القرآن اراد ان يجب عن القديسة مريم تلاعب المغرضين فيتأولون ان رجلا آخر غير زكريا عليه السلام -الذي صار أبا لها بالكفالة وهو رجل شيخ كبير-يدخل عليها محرابها، فأغلق باب التقول ، والزيغ والتأول ، بروعة تجلي البيان، الذي يشيع في كل آي القرآن.
وعلى نبينا وآله وصحبه افضل الصلاة والسلام.