23 ديسمبر، 2024 3:20 ص

تجليات البحث عن الحكمة في رواية أمجد توفيق (طفولة جبل)

تجليات البحث عن الحكمة في رواية أمجد توفيق (طفولة جبل)

تجليات البحث عن الحكمة في رواية أمجد توفيق (طفولة جبل)
رنا صباح خليل

عند تَلَقينا لرواية (طفولة جبل) للروائي أمجد توفيق كانت أولى غوايات القراءة لدينا متمثلة بعنوان الرواية فهو البوابة التي تمنح قارئها ترحيب الدخول لكشف المخبوء وسبر أغواره، وعلى حد قول رولان بارت” إن العناوين عبارة عن أنظمة دلالية سيميائية تحمل في طياتها قيما اخلاقية واجتماعية وايديولوجية وهي رسائل مسكوكة مضمنة بعلامات دالة مشبعة برؤية العالم يغلب عليها الطابع الأيحائي “(1) .

ومن روافد تفكيكنا للعنوان استقينا النظر الى جماليات قراءته في ضوء أفق انتظار القارئ كي نستكنه ما بامكانه أن يضيف الى نسيج النص الروائي ولحمته من دلالات، إذ يأتي العنوان مموسقا على ايقاع تنحته جملة أسمية تنداح في تشكيلها البلاغي نحو المجاز، وبالأمكان قراءة المكونات البنائية لعنوان (طفولة جبل) فهو يتألف من مسند اسمي مركب يتصدره اسم بصيغة مصدرية؛ إذ إن طفولة مصدر الفعل (طَفُلَ) أُضيف لهذا المصدر الذي يشير الى ـ مرحلة زمنية تتقدم عمر الانسان ـ المسمى الذي تبناه ويتصف به وهو (الجبل) عبر صيغة المضاف والمضاف إليه لتأخذ جملة (طفولة جبل) دلالة الخبر لمبتدأ محذوف تقديره اسم الإشارة (تلك) ويكون التقدير تلك طفولة جبل .

ولو توجهنا بعنواننا نحو وقائعه السردية وربطنا ما بينها من وشائج بغية الوصول لمفتاحها التأويلي كما يورده جيرار جينيت نقلا عن امبرتو ايكو من أن هناك قراءة للرسالة المضمرة في العنوان قبل أي شيء، فذلك يستدعينا الى تجزأتها وبالتالي فان مفردة (طفولة) لو اردنا تفعيل معانيها لأبقتنا حبيسي جملة تصورات منها البراءة واللعب والملائكية وقصور الرؤية وعدة رمزيات من بينها البداية والمستقبل والنظرة الآنية، الا إننا لا يمكننا اقناع بصيرتنا في إن تلك الصفات والمرموزات يمكن أن يتبناها ذلك الدال الكبير الذي يطلق عليه لفظة (جبل) ولكن يمكن أن نتقبله مجازيا إن قمنا بأنسنته وفقا لما تقتضيه الرؤية الأدبية، ولكننا في هذه الحالة ايضا لم نصل بعد لما توحيه دالة النص العنواني بما يخدم الروي، فالجبل هو الصبي (بارق) الشخصية المحورية الأساس وبطل الرواية الأوحد الذي لا يمكن تشبيهه الا بالجبل فهو على الرغم من صغر سنه كان يتمتع بصفات لا يمكن أن تتوفر لدى الكبار، فقد قدمه الراوي إلينا محاكيا للطبيعة شاعرا بها متألما لأنتهاكاتها، له القدرة على الأحساس بالجمال وله نظرته الخاصة للناس بدءًا بتعامله مع المجنونة وتقربه منها ومن شجرتها وعصافيرها الى طبيعة علاقته بأهله وادراكه لخصوصية ارتباطه بأخيه ومن ثم قراره عندما اصبح فتيا الاختلاء بنفسه والابتعاد عن أهله رغبة في اكتساب الخبرة والتعلم، الا إن ما جعلنا نتوهم الطفولة لذلك للجبل فتلك كانت لعبة الروائي التي أوهمنا بها من خلال جعله للجبل أحد شخوص الرواية فهو يولد كل يوم وهو متخم بماء الندى، والراوي يساؤلنا كيف يفكر الجبل؟ وما الذي يمنحه الانتماء؟ وتلك تساؤلات تضفي على النص مسحة من التأمل والانبهار إن تماهينا مع فلسفتها وطريقة الكاتب في طرحها بأسلوب رومانتيكي فلسفي ففي صفحة 13 من الرواية” صخرة صغيرة .. صخرة كبيرة.. صخرة عملاقة .. هي أحاسيس الطفل في توحده مع شقيقه الجبل .. كيف تتفتق الصخور؟ قطرات من ندى تفتت الصخرة من العمق الى العمق.. هل يعني ذلك افتقاد الصلابة أو التماسك؟ انه لا يعني غير الاحتفال.. غير القدرة على الحب،..” ومن ثم قام الروائي بتقليد الجبل مقاليد الراوي المشارك للراوي العليم، وذلك ندركه عندما نكمل قراءتنا لرحلة الروي، واظن إن تلك طريقته فقد جعل من الزمن في روايته (الساخر العظيم) أحد الشخوص البارزين الذين كانوا يشاركون الروي ويدلون بآراءهم واحكامهم .

خزائن الروي ومدخراته الفلسفية

بداية علينا أن نتعامل مع الجبل كدال أساسي بعدما اشرنا اليه من اهمية تفاعله مع البطل؛ ذلك التفاعل الذي يصل حد ان جعله معلما له تعلم منه إن الصدق الذي يرغمه الخوف عليه غير الصدق النابع من القلب وتلك كانت أولى المفاهيم التي تلتها مفاهيم القدرة على السخرية والقدرة على الأسى وعلاقة اللغة بالحواس والكثير الكثير الذي يوصله في النهاية الى إن الخبرة مهمومة بالتفسير والتكرار.. وإنها تطعن أعمق ما في الجبل، قدرته على النسيان التي تؤهله للاستمتاع بأي فعل، وهنا علينا كقراء لهذا الفكر عكس مصادر القوة فيكون الأنسان المتمثل بالطفل بارق فاعلا والجبل متلقيا بعدما اصبح الجبل احاديا بفعل النسيان وليس رمزا للهم المعرفي، وهذا يثبت ضمنا إن نزوع بارق نحو الكوخ في حقل أبيه كان نتيجة عدم اكتمالية الأدراك الفلسفي المعد سلفا في ذهنه، ذلك إن طبيعة علاقته بالجبل توحي له إن عليه أن يفهم الكثير وأن لا يتحرك ضمن دائرة التمني التي لم تتحقق على المستوى المتخيل في مهابة الجبل وجموحه.

تبدأ رحلة بارق نحو ذاته باستنطاق الحواس بعدما تلمس الحاسة التي ربطته بالفتاة بهار عندما تعلق بصوتها وتعلقت هي بمرآه لتكون دالتها حاسة البصر ودالته حاسة السمع، ومن كلا الحاستين يتكون احساسا مفارقا للطبيعة يبثه السارد بدلالة تيقن بارق من احتراق باب بيت بهار بعد استيقاظة من غيبوبته التي اصابته اثر حادث مقتلها واصابته، تلك الحادثة كانت بداية قرار العزلة، يذهب للكوخ حاملا معه لوازم قليلة كان من ضمنها كتبا ضمت (دون كيخوته، ملحمة كلكامش، تاريخ العراق القديم ، هكذا تكلم زرادشت، الف ليلة وليلة، ديوان طرفة بن العبد) ولايخفى عند مطالعة هذه المجموعة من الكتب ما نجده من خيط رابط يجمعها يمكن ان تمثله مقولة ديكارت المشهورة (أنا افكر إذن أنا موجود) هي كتب أغلبها يدعو للتفكير على اعتبار إن الوعي والعقل هو أساس الوجود؛ فرواية دون كيخوته استطاعت أن تحدث نقلة في الفكر التنويري الأوربي في القرن السابع عشر وحققت القطيعة بين الزمن التقليدي بكل منجزاته الثقافية والفكرية والولوج الى زمن العقل والحسابات الكمية التي لا ترتهن الى استيهامات الخيال وخلجات الوجدان وكل ذلك يتم عبر شخصية الرجل المحب للفروسية الذي يقرر خوض رحلة نحو اعادة الأمجاد وتتحول الى رحلة نحو المعرفة ، أما ملحمة كلكامش فلا تخفى اسطورة بحثها عن الخلود، وباقي الكتب التي انتقاها الروائي عن قصد مؤداه إن رحلة المعرفة لا يغذيها الا نسغ الفكر الذي يتواجد في الكتب، وفي اشتغال كهذا يجب أن يكون إنتخاب الكتب يصب في خدمة النص الروائي وطبيعته، فشعر طرفة بن العبد فيه الكثير من الاختراق والتجاوز الحسي الذي يوظفه في خلق كيانات مفارقة للناقة والحصان والمرأة وهو يجوب الصحراء، اما الف ليلة وليلة فهو كتاب المغامرات بلا منازع ، ما لفت انتباهنا ونحن نقرأ الرواية افكار فردريك نيتشه وطروحاته التي يبثها عبر كتاب هكذا تكلم زرادشت وهو احد الكتب التي كانت مصاحبة لبارق، إذ نجد اغلبها متبناة في نصنا الذي نحن بصدده ومنها جعل الأخلاق اكثر سيادة وإن الأرادة هي من تحدد اتجاهاتنا واتجاه الحياة نفسها، وهذا يمثله بارق بتمارينه التي يجددها كل صباح برفقة الجبل والنهر والحيوات التي تكتنف الطبيعة ومنها محاولته الوصول في تسلقه الى السلسلة الثالثة للجبل، ومن الطروحات الفلسفية ايضا معرفة كيف يمكننا أن نضع للغريزة مقصدا ساميا، وهذا ما ساعد بارق في السيطرة على حاجاته فكان يأكل اوراق الكروم ويمتص سيقان النباتات حين يجوع، إذ إن غايته لا تقف في طريقها الحاجة للطعام المثالي وكأنه كان يهدف الى تحويل الطبيعة الى عمل فني بتناغمه معها، والتعايش بظلها وغير ذلك أن نفعل الفضيلة لذات الفضيلة ولا ننتظر ثوابا عنها لأن الوصول اليها هو ثوابها، وردم الوصاية الممقوتة التي مثلها بارق بعدم مبالاته بوصاية والديه عليه حتى وان استأذنهما قبل تنفيذه لقراره بالابتعاد عنهما .

نيتشه كان يدعو للعزلة ومن أفكاره إن لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، وتلك ثوابت اغلبها آمن بها بارق في رحلته ونقول اغلبها وليس جميعها ذلك إن هناك فروقات جوهرية في بعض المتبنيات ومن ضمنها نظرة نيتشه للمرأة التي خالفها بارق فنيتشه يذم المرأة ويحذر من اتخاذها صديقا وهي لا تصلح سوى للحب ومن اقواله المعروفة ( اذا ذهبت الى المرأة فلا تنس السوط) وبارق خالفها وانساق وراء الصوت الأنثوي عند سماعه لبهار وهي تغني هذا غير إن السارد جعله يتبنى الفلسفة الاسلامية في تعاطيه لفكرة العلاقة مع مريم على الرغم من جعله اياها متبنية للديانة المسيحية، وقد نجح الروائي في هذا الموضع بشكل لافت حين استطاع أن يرسم لنا صورة مختزلة عن الأب يوسف وابنته والكنيسة القديمة واجواء حياتهما المنفردة والغوص في تلك التركيبة الذهنية التي تجعل الأب يطلب من ابنته البحث عن بارق والتقرب اليه والاعتناء به في غربته التي اختارها بنفسه بحثا عن الحكمة، الأمر الذي يجعلنا نتيقن إن تلك الصورة للعلاقة بين أب وابنته لا يمكن لها أن تتوفر الا في الموروث المسيحي، فضلا عن إن رؤيا المكان الذي يجمع كوخ بارق وبيت الأب يوسف والكنيسة قد أثارت تداعيات الزمن الماضي للأب وابنته فأخذ الراوي يسردها علينا محاولا خلق صورة متضادة بين ماضي مريم من خلال مشاعر الحب وصور البراءة وحرية أب يثق بابنته ويخشى صورة الحاضر القلقة والمستقبل المجهول، اما فذلكة السارد فتتجسد لنا في اثبات الفكرة الشائعة لدى الطرح الاسلامي عن طريق رضوخ بارق وتقبله لممارسات مريم الجنسية معه على اعتبار إن المرأة هي صاحبة الغواية الاولى التي تسببت في النزول من الجنة، وكأنه يريد أن يطلق العنان لحواسه كي تكتشف وتفهم السر وتحلل النتائج وهذا لم يأتي صراحة في النص إنما نستشعره عندما نتشرب طريقة عرضه من لدن الروائي ودوال ومؤشرات الجمال الذي يكتنف صوغ الفعل في الممارسة الجنسية التي تبتدأ باستعارات تناغي المسافة ما بين غصنين يتسرب من خلالها ضوء الشمس لينعكس على ثدي مريم وجزء من ساقها وشعرها وهي نائمة في الكوخ الذي يسكنه بارق .

صور ورؤى تتسيد النص الروائي

ان التواشج الصميمي بين العناصر السردية يلغي النظرة الانعزالية في البناء الفني للروي فقد كان لكل اداة من الأدوات الفنية اهميته بدءًا بالحوار والوصف والتنقلات السريعة التي يتوزعها الزمن في مراحل الطفولة والصبا والشباب، وعليه يكون (إغفال النظر اليه ضمن هذه العلاقات والصلات التي يقيمها يجعل من العسير فهم الدور النصي الذي ينهض به) (2) فالحواس على اشكالها استطاعت أن تدخل في بناء الأيقاع الحركي للزمن من حيث البطء والسرعة وهذا ما نجده شاخصا في تبني السارد فكرة الحروف التي كانت تلازم الروي في بدايته كناية عن إن اولى درجات المعرفة تبدأ بالحروف وهذا مافعله الطفل بارق حين كان يرسم كلمة سمكة فوق نهر الروبال أو حرف الحاء المقلوب أو حرف النون وجميع هذه الصور كانت تشكل نوائم تتفتح في دواخل الطفل على شكل اكاليل من حواس تجعله يشعر باختناق الكائنات داخل النهر حينما قام رجل ببناء جدار في المكان الذي يريد أن ينصب شباكه فيه لاصطياد الأسماك للتسهيل في اصطيادها بطريقة ما .

يبدو جليا لنا ارتباط الحواس بالمشاعر ففي رحلة بارق عند صباه معالم وإشارات تدلي بذلك ومنها اعتنائه بالأفعى وصغارها وطريقة التفاهم معها عن طريق حاسة البصر الأمر الذي اوصله الى فرية الاعتقاد فيما يخص طباع الأفاعي مما جعله يشعر بها ويدرك حزنها ويمييزه من رضاها، وهناك من يقول إن لنا حواسا داخلية غير الحواس الخمس المتعارف عليها لازال البحث قائما عليها وهذا فيما يخص الحواس الداخلية كحاسة الشعور بالرضا وحاسة الاطمئنان وغير ذلك، وللوصول الى ظواهرها وإدراكاتها يجب ربطها بالحواس الخارجية؛ فعندما استطاع بارق تشمم رائحة الأنثى قبل أن يدخل كوخه وهو لا يعلم بدخول مريم الية ولا حتى كان قد التقى بها، هذا يثبت إن النزوع نحو الحواس الداخلية ينتمي للروح والنفس والحواس الخارجية تنتمي للجسد لأن جواهر الأشياء تقوم على ثنائية المادي والمعنوي (3) اما ما اختتم به نصنا من ثوابت فهي قد جعلت من بارق يدرك إن المعرفة لا يجب أن تكون بالهروب بحجة التفكير والتأمل فالحياة يجب أن نحياها اولا قبل أن تفقد متعتها ومن ثم نستكشف كوامن الأمور في خلق نوع من التصالح ما بين غليان الداخل واسئلة الخارج، وما توصل إليه بارق يمكن أن نتمثله وفقا لفلسفة توماس هوبزفيما يخص ملكة المعرفة التي يرى فيها انه يجب أن نتذكر ما يتواجد في اذهاننا من صور ومفاهيم للأشياء التي تقع خارجنا بحيث اذا عاش الانسان وقام بتجاهل بقية اشياء العالم، لم يتوقف عن المحافظة على صورة الأشياء التي رآها من قبل وهذا لايعني غياب أو تدمير الخيال نفسه بل إن صورة أو تمثيل صفات الكائنات الموجودة خارجنا هي ما نسميه المفهوم أو الخيال أو الفكرة أو التصور أو المعرفة وهذه المعرفة هي ما نسميها هنا القوة المعرفية أو المفاهيمية أو القدرة على المعرفة والتصور(3) .

الهوامش

1ـ سيزا قاسم ، بناء الرواية، ص103 .

2ـ ينظر : تشكيل الفضاء المتخيل، عواد علي، م. عمان ،عدد 39 ، ايلول ، 1989، ص32 .