23 ديسمبر، 2024 9:40 ص

تجليات الاغتراب ، شعرية الوطن والبوح الذاتي عند خديجة العلام

تجليات الاغتراب ، شعرية الوطن والبوح الذاتي عند خديجة العلام

الشعر عالم تتعالى لغته على الحدود والمنطق فهو ضد التأطير ويسعى من خلاله الشاعر إلى صياغة جمالية للأشياء المحيطة به،لذا فقد عد اودونيس (الشعر) عدو المنطق والحكمة والعقل،.
من هنا يرى بعض النقاد إن الشاعر المجيد (لا ينقل الدلالات والمعاني بصورة رتيبة كما هي في الواقع ولكنه يروم إلى اكتشاف كنه الأشياء بالشعور و الحدس لا بالعقل و الفكر ( لأن الفكر لا يجوز أن يدخل العالم الشعري إلا متقنعا غير سافر متلفعا بالمشاعر و التصورات و الظلال ذائبا في وهج الحس و الانفعال … ليس له أن يلج هذا العالم ساكنا باردا مجردا)
ولان الشعر عماده ألصوره فإنَّ تحديد ماهية الصورة الشعرية تحديدا دقيقا من الصعوبة بمكان لأن الفنون بطبيعتها تكره القيود ،ولعل هذا هو السر في تعدد مفاهيم (الصورة) وتباينها بين النقاد  بتعدد اتجاهاتهم ومنطلقاتهم الفكرية والفلسفية وبالتالي أضحى للصورة مفهومان كما يرى الدكتور (عبد الحميد قبايلي)مفهوم قديم لا يتعدى حدود التشبيه والمجاز و الكناية ومفهوم جديد يضيف إلى الصورة البلاغية : الصورة الذهنية و الصورة الرمزية بالإضافة إلى الأسطورة لما لها من علاقة بالتصوير. 

ولعل هذا الاهتمام بالصورة في الدراسات النقدية الحديثة وخصوصا في قراءة الشعر يرجع إلى العناية البالغة بأمر اللغة وطاقاتها الإيحائية،لان الصورة الشعرية لا معنى لها إذا لم تكن إيحائية وهي لصيقة بالرمز وتؤدي دلالة يهمس بها الشاعر للمتلقي، وبذلك تصبح الصورة أداة خطاب مرورا بالرمز وتحقيق المعنى،فالصورة إذا من المفاتيح المهمة في استخلاص تجربة الشاعر الإبداعية وبراعة صاحبها في تشكيلها لخلق الدهشة والمتعة في نفس المتلقي.

ولمعرفة عناصر الصورة الشعرية وإدراك خصوصياتها يقتضي معرفة حالة الشاعر الشعورية التي بلغ بها الذروة عند كتابة القصيدة وهذا يتطلب وجود حسا خاصا لدى المتلقي يمكنه من الإحاطة بتفاصيل عالم القصيدة ليستشف قسماتها الظاهرة وينفذ إلى زواياها الباطنة ليكتشف وحداتها الدلالية ومنابع الإشعاع الشعري فيها.

وهذه النظرة الكلانية تقودنا إلى منبع العطاء الفني والنظام اللغوي فندرك عندها العلاقات والتأثيرات التي من خلالها تمارس القصيدة سلطتها على القارئ، ولنتناول قصيدة الشاعرة (خديجة العلام) (تائهة أوراقي)ونرى الصور التي ترسمها الشاعرة.

ين ليل يعصر في الأحلام
وصبح يولد من رحم الأمنيات
تحملني أقلامي إليك يا وطني
على أرصفة الحزن
أنتظر… أتأمل
وجهي في عينيك
فتأخذ ني
إلى منعطف التيه أرص زوايا التاريخ
على سكة الحديد وبقايا رمل
لفظه شاطئ الماضي
خط فيه وجه قمر
ليعبر الجسر
يتخطى التراكم الوئيد
سأعبر معه
وبين ذراعي دميتي وألوان الصبا
وبعض ذكريات تؤنسني
فالسفر طويل يجوب البحار
والمراكب ملؤها الدمع
الشتاء مقفر وبارد عسير المخاض
الحكايات تحمل النبوءة على الاكتاف
النوافذ مكسرة
وهذا الكبرياء يجول في الشوارع
يتربص بظلي
الذي ينسلخ مني
يعانق وحده الهيام
لن أتكلم
فقط أرسم علامات استفهام
فكم من بياض يكفي ليأتي الصبح متسربلا
بلغة العشق؟
وكم من الزمن يكفي ليتلاشى الانتظار؟
فتعود مواسم الفرسان
تحمل معها
سنابل وغصن تفاح
وكُراسة الربيع مرسوم عليها
فراشة وحمامة بيضاء
يا وطني
هذا نبضي يخفق بلون علمك
الأحمر دمي يجري
بين الجداول والأنهار
والأخضر بستان ملؤه جذوري
يفوح برائحة العنبر والدفلى
يا وطني
غرستني شمعة بين ضلوعك
فكفاني احتراقا
لم يعد من العمر إلا وريقاتِ باهتةُ
دعني أتأمل وجهي مرة اخرى في مرآتك
علني أخفي ندوبه بمساحيق
من ترابك
فتنكشف الحقيقة مع هجر
الحمام قبل موعده
حينها
تنفلت مني رائحة الطفولة تبعثرني
تنشدني أغنية الصبا فأغفو بين ذراعيك
لأرتاح من عذاب اليأس

إن النظرة الكلية للقصيدة كوحدة كاملة يعني إن لها منطقا خاصا فهي تعبر عن حالات وتطلعات روح ألشاعره وخلجات نفسها ونماء فكرها، كما تعكس إيماءات المكان والزمان.فهي تتجاوز حدودها الشعرية ويمكن عدها وثيقة احتجاج وهذا ما زاد من تألقها الشعري ومن دلالاتها في التعبير عن مكنونها فأحدثت لدى القارئ درجة عالية من الانفعال وقد أشار القرطاجني من قبل إلى إن (الشاعر يحدث الانفعال ويؤثر) فالقارئ حاضر في ذهن العلام لذا تبدو القصيدة مربوطة بحبل يصل بين ذات الشاعرة وبين ذات القارئ.

إنها مرثية الوطن تصوغها الشاعرة في قصيدة ذات نبرة حزينة ملؤها الألم، إنها بكائيات شاعرة أطلقت زفراتها حارة تعبر عن حالاتها الانفعالية النفسية وهي ترى الوطن بغير صورته المعهودة فهي تعيش الم الواقع والطموح تطمح ان يكون الوطن هو ألحظن الدافئ الذي يظم أبناءه إلا إن الواقع بخلاف ذلك.

على أرصفة الحزن
أنتظر… أتأمل
وجهي في عينيك
فتأخذ ني
إلى منعطف التيه أرص زوايا التاريخ
على سكة الحديد وبقايا رمل
لفظه شاطئ الماضي
خط فيه وجه قمر
ليعبر الجسر
يتخطى التراكم الوئيد
سأعبر معه
وبين ذراعي دميتي وألوان الصبا
وبعض ذكريات تؤنسني
فالسفر طويل يجوب البحار
والمراكب ملؤها الدمع

تبث العلام في قصيدتها القلق والحيرة، إنها متألمة ولكن غير يائسة متحسرة ولكنها لم تفقد الرجاء،وفي مقطع( على أرصفة الحزن،أنتظر… أتأمل،وجهي في عينيك،فتأخذ ني،إلى منعطف التيه أرص زوايا التاريخ) فجرت الشاعرة الدلالات في نسيجها وهي عبارة توحي بمعنى الضياع والقلق فهي كغيرها من الشعراء تعيش حالة من القلق النفسي والغربة والضياع الذي يفجر في داخلها هذا التمرد، تمرد على كل شيء.

الشتاء مقفر وبارد عسير المخاض
الحكايات تحمل النبوءة على الأكتاف
النوافذ مكسرة
وهذا الكبرياء يجول في الشوارع
يتربص بظلي
الذي ينسلخ مني
يعانق وحده الهيام
لن أتكلم
فقط أرسم علامات استفهام
فكم من بياض يكفي ليأتي الصبح متسربلا
بلغة العشق؟
وكم من الزمن يكفي ليتلاشى الانتظار؟
فتعود مواسم الفرسان
تحمل معها
سنابل وغصن تفاح
وكُراسة الربيع مرسوم عليها
فراشة وحمامة بيضاء

إن الغربة التي تعاني منها الشاعرة رغم إنها تعيش بين أهلها ما هي إلا غربة نفسية أفرزتها جراحات الوطن فهي غربة الكلمة والمصير والضياع فهي تحاول إيقاظ الضمائر التي شاخت وهرمت وانطفأت فيها جذوة العزيمة.

فالعلام تنبثق قصائدها من الواقع نفسه ومن صراعاته التي تنتمي اليه الشاعره فالنص الشعري عند العلام نص مكتنز فيه من الرهافة والحس وكأنه لوحة تشكيلية فهي تكتب تصوراتها وكأنها صور ناطقة تحاكي القارئ لتخلق علاقة خاصة بين النص والقارئ وهي تتمتع بأسلوب خاص في صياغة واختيار أفكارها وكلماتها عند مخاطبة الوطن

 
يا وطني
غرستني شمعة بين ضلوعك
فكفاني احتراقا
لم يعد من العمر إلا وريقاتِ باهتةُ
دعني أتأمل وجهي مرة اخرى في مرآتك
علني أخفي ندوبه بمساحيق
من ترابك

هذا الأسلوب الذي اعتمدته العلام يثير القارئ لأنها توظف دلالة الكلمة في الصور الحسية معتمدة على المزاوجة بين الخيال والواقع في رسم صورها الشعرية التي تكتبها بانفعال عاطفي واضح، نابعة من مصداقية ذاتها المتشبعة بحب الإنسان والوطن لذا فقد حملت أحاسيسها تلك نصوص تحمل دلالات هذا الحب.

إنها هواجس واحتشاد موجع للنفس، وزفرات للحب وانين اغتراب تسوقها الشاعرة في نصها حتى لتظن إن القصيدة هي الوطن، وان الوطن هو(قصيدة) فالنص إذا حقل منفتح يسهم في إنتاج العلامات الدلالية حسب ما يرى(هيو سلفرمان) وبهذا يكون النص قوة متحركة اتجاه العالم.
وموضوعة الوطن في نصوص العلام تستجيب لنرجسية الشاعرة من حيث الاندماج الكلي بذات الموضوع(الوطن) حيث لا تعتبر الموضوع منفصلا عن الذات إلا من حيث احتوائه في فضاء النص، فينتقل من التجريد الخارجي إلى التنصيص ألعلاماتي.

ويبقى صوت الشاعرة هو وحده الذي يتحكم في جميع حركات نصوصها مازجا الذات بالموضوع وهذا الصوت هو عبارة عن تصحيح للواقع المهزوم ولهذا الإنسان المسحوق، فنبرة الشاعرة التي تلف النصوص تمكنها من استيعاب حركة الصراع ببعديها (الذاتي/ الموضوعي) إلى حركة تستوعب في صلبها مفارقات الحياة فكل ما فيها يوحي بحركة الجدل التي تعمل في الواقع لذا فهي توظف الألفاظ التي توحي بالمفارقة وما ينتج عنها من صراع.