التمعن في المشهد العراقي منذ العام 2004، يؤكد أن هنالك فريقان: الأول، وهم الأقلية النادرة جداً، المستفيدون من الخراب وغياب مفهوم الدولة، والفريق الثاني، وهم الأغلبية الساحقة، الذين لا يجدون قوت يومهم، ومنهم 35 بالمائة تحت خط الفقر، ويعانون من نقص كافة أنواع الخدمات الحياتية العامة، الأساسية والضرورية.
عموم الخدمات في العراق تعاني من تدهور ساحق، وصل لدرجة اللامعقول المطلق، وذلك لسوء الإدارة، وتفشي ظاهرة الفساد المالي والإداري.
الحكومات صرفت على قطاع الكهرباء – مثلاً- أكثر من 40 مليار دولار خلال السنوات العشر الماضية، وما زالت المشكلة الكبرى تتمثل بكيفية تزويد المواطنبالطاقة الكهربائية – بصورة منتظمة، أو حتى متقطعة بشكل مقبول– وهي حالة مذهلة، وكأن العراق من البلدان التي لم تصلها الحضارة!
منذ أسبوع تقريباً، هنالك مظاهرات متعددة في محافظة البصرة النفطية الجنوبية، تطالب بتقديم أدنى الخدمات، وتوفير الماء الصالح للشرب، وتأمين الطاقة الكهربائية وسط أجواء صيفية تصل فيها الحرارة إلى أكثر من (55) درجة مئوية!
المظاهرات في جنوب العراق ليست جديدة، وإنما هي مستمرة ومتقطعة، ومنها مظاهرات جرت منذ عدة سنوات في محافظات النجف، وذي قار، وميسان وغيرها، وجميعها كانت احتجاجاً على تردي الواقع الخدمي.
مظاهرات البصرة – بمناطق الكرمة والقبلة والتنومة والمدينة- مستمرة رغم ارتفاع درجات الحرارة، لأن المواطن لم يعد يمتلك القدرة على التحمل أكثر!
ومقابل هذا الواقع المرير لاحظنا أن التجاهل، أو الوعود الحكومية غير المثمرة دفعت الجماهير للتهديد باعتصامات مسائية مفتوحة.
وفي تطور مخيف– وربما سيجهض المظاهرات– قطع متظاهرون غاضبون إحدى الطرق الرئيسة، وأضرموا النيران في إطارات السيارات، فيما قطعمتظاهرون غاضبون آخرون من أهالي شط العرب، الاثنين الماضي، جسرالتنومة، ويوم الخميس الماضي طرد أهالي ناحية الهوير القوات الأمنية من الناحية، ونهبوا مقراتهم وأحرقوها، بعد أن هاجموا الأهالي وجرحوا أربعة متظاهرين.
الحكومة لم تتعامل بصورة حضارية مع المتظاهرين، بل عاودت استخدام القوة-كما فعلت مع مظاهرات المدن الست المنتفضة في العام 2013– وقد قتل نتيجة لذلك شخصان، وجرح العشرات، مما دفع عشيرة أحد القتلى– عشيرة المنصوري- إلى قطع الطريق المؤدي لحقل غرب القرنة النفطي في قضاء(المدينة)، مطالبين محافظ البصرة بتقديم القاتل للمحاكمة، بينما المحافظ لميسلم الجناة حتى الآن.
حكومة بغداد أرسلت الأربعاء الماضي وفداً وزارياً للبصرة، لكن المفاوضات مع المتظاهرين فشلت، وعاد الفريق الحكومي (مطروداً)، كما أبلغني أحد أبناء المدينة، ويقال إن رئيس حكومة بغداد، حيدر العبادي، وصل قبل ساعات إلىالبصرة، ولا ندري ما ستؤول إليه الأمور؛ لأنه في كل الأحوال لا يملك سوى الوعود التي أثبتت التجارب عدم قدرة الحكومة على تنفيذها؟
المظاهرات القديمة والجديدة، لم تؤت ثمارها حتى اليوم؛ لأنها إما مظاهرات عفوية وغير منظمة، أو وراءها قوى سياسية تسعى لتسقيط بعض الأطراف الأخرى، وبالمحصلة نحن بحاجة إلى مظاهرات شعبية نقية مدروسة، ويمكننا أن نذكر أهم أساليب إدامتها:
إجهاض المظاهرات في العراق واحدة تلو الأخرى، مرة بالوعود الآمال غير الصادقة، وأخرى بالترهيب وثالثة بالإجهاض عن طريق المندسين، كلها سبل لتأجيل العلاج الحقيقي، وهو ضرورة أن تكون هنالك ثورة شعبية سلمية شاملة تنهي هذه المرحلة الشاذة من تاريخ العراق، وإلا فان الخراب سيبقى هو سيد المواقف سواء على مستوى الحريات، أو الخدمات، أو غيرها من ضروريات الحياة الإنسانية الحرة الكريمة!