23 ديسمبر، 2024 12:12 م

تجربة مع الموت… كورونا 2

تجربة مع الموت… كورونا 2

في يوم رمضاني وبعد دقائق معدودات على مدفع الافطار لم اكن اعلم بانني ساكون على موعد مع فقدان الوعي “الاغماء”، قد تكون المرة الاولى التي اصاب بهذه الحالة فبعد تناولي اول قدح للماء لكسر الصيام شعرت بارتفاع غريب بدرجة الحرارة لاسقط بعدها على الارض ممددا بين اطباق الطعام التي اعُدت للافطار، لم اشعر حينها ماذا حصل سوى مشهد اتذكره جيدا حينما فتحت عيناي وجدت اطفال اخي من حولين ينظرون باستغراب، اكبرهم اتسعت عيناه ولم يتحدث بكلمة والاصغر منه فر هاربا، اما البنت فكانت حصتها التفرج من بعيد مع نظرات خائفة تسال ماذا حصل، في حين كان اصغرهم مبتسما لا يعلم كيف يتمتم.

نهضت من مكاني بعد ان جاءت امي مسرعة وشقيقي الاصغر، والاسئلة تتكاثر ماذا حصل كيف حدث؟، لم استطع الاجابة سوى بكلمة “لا اعلم”، اعيد النشاط لسفرة الطعام استعداد للافطار، لكن في حينها اختفى الاطفال الذين رفضوا تناول الطعام بحجج غير مقنعة، عرفت حينها ان الخوف من المشهد مازال يسيطر عليهم، تناولت الافطار لكن بكمية قليلة جدا لا تعادل ربع ما اتناوله يوميا، حاولت تجاهل ماحصل وبعد استراحة قليلة بدأت الاستعداد للذهاب للعمل في المؤسسة الصحفية التي امارس مهنتي فيها لاعداد البرامج السياسية، كانت الامور تسير بشكل طبيعي حينما وصلنا لمكان العمل، حتى شعرت بارتفاع تدريجي بدرجة الحرارة، اجبرني على الهروب الى زواية الغرفة التي اعمل فيها بعيدا عن “مكيف الهواء” لتجنب الشعور بالبرد، تحملت تلك الساعات القليلة قبل المغادرة للمنزل، حينها وجدت نفسي داخل السيارة التي يقودها زميلنا الذي اعتاد على نقلي معه للمنزل في كل مرة لقربه من منزلنا، حاول تشغيل مكيف الهواء في السيارة فرضت وفضلت ان يكون الهواء طبيعيا بمجرد انزل النوافذ، استغرب “الصديق القريب” لانه يعرف طبعي جيدا، فتسأل بصوته الخجول، ماذا يحصل؟،، اجابتي كانت مختصرة لا اعرف لكن اعتقد بان الاجواء ملائمة بدون مكيف الهواء، زاد استغرابه لكنه فضل الصمت.

وصلنا للمنزل وانتهت الليلة الاولى بارتفاع بدرجة الحرارة والم بالراس واطراف لا تقوى على الحركة من شدة الاعياء وفي الصبح كنت طريحا للفراش وبدأت الشهية للطعام تختفي بالتدريج فحينها قررت مغادرة الصيام، ولكني لم استطع تناول اي وجبة كاملة كانت عبارة عن تذوق فقط، واكثر ما اتناوله واطلبه الماء، ساءت حالتي تدريجيًا مع تقدم ساعات النهار وقبل حلول وقت العصر تدخل اخي لنقلي الى الطبيب، هنا اتصلت بطبيب مقرب لدي معرفة سابقة وباعتباره من سكنة المنطقة فرد عليه بانه سيحضر بعد الافطار اذا كنت غير قادر الى الوصول لعيادته القريبة من منزلنا، فاغلقت الهاتف وعدت للنوم مرة اخرى، لكن الالم الذي كان يرافقني في المعدة وانتفاخ القالون دفعني للاتصال مرة اخرى وطلبت الحجز حالا فابلغني الطبيب بانه جهاز لاستقبالي، دخلت العيادة وبعد توسل بالشخص المسؤول عن دخول المراجعين وابلاغه عن الاتصال مع الطبيب ولسوء حالتي سمح لنا بالدخول، وبمجرد ان شاهدني الطبيب (ع).. استغرب واخذ يتفحص جسدي ودرجة الحرارة واخرج الجهاز لقياس ضغط الدم، عاد للاستغراب مرة اخرى.

والسبب كان الانخفاض بالضغط، طلب بشكل عاجل اجراء تحاليل للدم وصرف دواء عاجل لمعادلة الضغط، وابلغني بان اعود للمنزل وترك نتائج التحليل لياتي بها اخي، خرجت مسرعا نحو المنزل بعد اجراء التحاليل، وبعد ساعة من عودتي للفراش اتصل الطبيب وكان اخي بجانبه ليبلغني بضرورة الاستعداد لمواجهة كورونا، “حاول المواجهة قبل ان تنشط بشكل اكثر، حاول الاستحمام اكثر من مرة وتناول الدواء الذي وصفته”، انتهت المكالمة واستمرت اليوم الثاني بالتفكير بما سيحصل، ومع ساعات اليوم الثالث والقلق منها حتى كان المساء، واذا بالطبيب (ع) يتصل متسائلا عن صحتي كان صوتي بدء بالاختفاء قليلا، استشعر الطبيب ذلك، فحدثني قائلا… “اذا بقيت على هذا الحال استعد للدخول للمستشفى يوم غد”، اقفلت الهاتف وعدت للتفكير مرة اخرى ماذا سيحصل، واستمرت معها درجات الحرارة بالارتفاع وانتفاخ القالون والالم المعدة بشكل غريب حتى كانت تمنعني من النوم.

في اليوم الرابع ونحن نفكر بحديث الطبيب عن المستشفى اقترح ابن عمي نقلي الى طبيب اخر، ساهم بمعالجة والدته التي اصيبت سابقا بفيروس كورونا فحصل الاتفاق ونقلت للطبيب الجديد، الذي ارهقني الطريق للوصول اليه لكونه يبعد اكثر من 20كم عن منطقتنا، وصلنا للطبيب وبعد انتظار بدأت حالتي تسوء بشكل كبير حتى اخترت الجلوس على الارض بدلا من الكرسي، هنا وصلنا الدور فدخلت مسرعا، تفاجئ الطبيب من حالتي واخذ يقلب اوراق التحليل السابقة واستخرج جهاز قياس ضغط الدم فوجد الانخفاض كبير جدا، اخرج جهاز قياس الاوكسجين فشاهد نتيجة غريبة… الاوكسجين لا يتعدى ال60، صرخ على مساعدته “انقله حالا الي اقرب سرير ودعه يتناول المغذي وهذه الحقن حالا”، وبعد انتظار لاكثر من خمس عشرة دقيقة وصل ماطلبه الطبيب، انشغل مساعده بوضع “الكانونة” لتجهيز بقية الدواء الذي اخذ يدخل جسدي متناوبا على شكل جرعات، استمرت العملية لاكثر من ساعة، بعدها حان وقت المغادرة بسبب اقتراب موعد الافطار وانتهاء عمل الطبيب الذي خرج من غرفته ليرى النتيجة، شاهدني واقفا قرب السرير، ليخبرني، “انك مصاب بكورنا وعليك الالتزام والاسراع بتجهيز قناتي الاوكسجين اليوم”.

عدنا مساء للمنزل، وبينما اسرتي منشغلة بالدواء وتجهيز الاوكسجين والاتصالات المتكررة التي تصل لمعرفة حالتي الصحية، وصل خبر احتراق مستشفى آبن الخطيب المخصصة لمعالجة المصابين لكورونا ووقوع شهداء من المصابين ومرافقيهم وعجز الجهات المسؤولة عن اخلائهم،.. عدت الى الوراء قليلا.. لعدة ساعات تذكرت حديث الطبيب (ع) الذي اراد نقلي للمستشفى لكنها الغيت بسبب مراجعتي طبيبا اخر… استحضرت حينها مشهد مستشفى ابن الخطيب والنار تاكل جدران الردهات والمصابين ومرافقيهم والسبب… المستشفى التي اراد نقلي لها كانت هي ذاتها… لان الطبيب (ع) ضمن الكوادر العاملين في المستشفى،.. تخيلت حينها لو ان أبن عمي لم يتدخل ويقنعني باختيار طبيب اخر، ولو تركت الامور تسير على حالها ونقلت لابن الخطيب، ماذا كان مصيري وهل ساكون ضمن الجثث المتفحمة مع من يرافقني او قد تفقد جثتي بين بقايا الاشلاء التي لم يعثر عليها كاملة، حاولت ايقاف تلك الافكار والانشغال بحالتي الصحية التي لم اعلم حينها كيف ستكون نتيجتها وهل نجاتي من حريق آبن الخطيب قد يبعدني من الموت على الفراش وقد يكون السبب نفاد الاوكسجين.

وعلى الرغم من انتهاء مدة الاربعة عشر يوما، لكن اطرافي السفلى لم يفارقها الالم وصعوبة الحركة حتى لخطوات معدودة، فالحركة من والى الحمام تشعرني بتعب شديد في قدمي حتى اجلس بعدها لعدة دقائق قبل العودة للفراش وتلقي جرعة اوكسجين تساعدني في اعادة مافقدته خلال تلك الحركة البسيطة، وحتى بعد استقرار الاوكسجين الذي اصبحت نسبة انخفاضه قليلة جدا ولا تحصل الا كل خمس او سبع او حتى عشر ساعات، لم يساعدني في تجاوز صعوبة الحركة، حينها حاولت الخروج الى باحة المنزل للتجول قليلا، في محاولة لكسر لروتين او الاستقواء، لكن محاولتي فشلت بعد دقائق، فعدت مسرعا للفراش والعرق يتصبب من جميع اجزاء جسدي، كانت الحالة طبيعية لشخص مصاب بفيروس كورونا، كما اخبرني جميع من يتصل حتى الطبيب فقد ابلغني بان اعراض “التعب” والشعور بالخمول وعدم التفاعل قد تستمر تداعياتها لوقت اخر فالبنهاية جسدك كان في حرب مستمرة مع فيروس استنزف جميع الاجهزة الدفاعية وارهقها خلال المواجهة.

الخلاصة:… وانت تعيش في بلادنا التي تفتقر لابسط الوسائل التي تستطيع من خلالها مواجهة الموت، قد يجعلك ذلك على حافة النهاية مع كل ازمة تسجلها مؤسساتنا وخاصة الصحية منها، فماذا يعني بانك تمتنع عن الذهاب للعلاج في المستشفى وتفضل الجلوس في المنزل بين اسرتك لمواجهة فيروس خطير قد ينتقل للاخرين في اية لحظة، نعم.. هذه نتيجة حتمية للفشل الذي نعاني منه والخراب الذي نعيشه منذ الفين وثلاثة، والذي عجزت جميع الحكومات عن ايجاد حلول مناسبة تحفظ للمواطن حياته وحقه الطبيعي في ايجاد مؤسسات طبية تدفعه للحياة وليس للموت، اخيرا… تجربتي مع كورونا وصلت لنهايتها في حرب استمرت لمرتين الاصابة الاولى كانت في نهاية شهر ايلول الماضي والثانية اتمنى نهايتها من دون عودة.