18 ديسمبر، 2024 9:36 م

تجربة كردستان ينبغي أن لا تكون كجنوب السودان

تجربة كردستان ينبغي أن لا تكون كجنوب السودان

لم يكن هناك عداءاً بين العرب والكرد على مر العصور. وحتى الحروب المفتعلة بين ساستهما خلال حكم الدولة العراقية الحديثة لم تتعدى الساسة، أنفسهم، رغم ذهاب ضحايا من العرب والكرد، من غير ذنب، ولم يكن أحد منهم يكره الأخر، بل هم ضحايا الصراع. كما لم تمنع الصرعات تلك لا العرب ولا الكرد، من أن يتصاهروا، أو يتعاملوا، أو يحب بعضهم الآخر. حتى إن قتل أحداً منهم، فإن اللوم، من أهل المقتول، يقع على السياسيين، فهم وحدهم من سبب تلك الصراعات المسلحة، طيلة تلك الفترات، والمسؤولية تتحملها الحكومات المتعاقبة، ويتحملها الطرف الذي يقاتلها. ولذلك لم تتعمق الجراح. ولم يجر، خلال تلك الصراعات، أن قتل الكرد أسيراً من العرب. كما لم يقتل الجنود أسيراً كردياً. إلا ما ندر، وبظروف خاصة، وهذه هي حقيقة الأمر، أن الصراع، وما خلف من حروب، كان بين إرادات السياسيين، فحسب، ليس إلا. وليس هناك، كما تظهر الحقائق، صراعاً وجوديا، بين العرب والكرد.

بعد الإحتلال الأمريكي للعراق، أفرز شكلاً سياسياً، كونفدرالياً، للكرد، أحسب عدم وجوده في أي مكان في العالم. فهو دولة بكل المقاييس. لها، جيش مستقل، وأجهزة أمنية، وإستخبارية، ليس مرتبطة بالدولة المركزية، وقضاء منفصل، وتعليم خاص، وجباية مالية، وضرائب، وإستخراج وتصدير للنفط خارج إطار الدولة، وعلاقات دولية شبه مستقلة، وعلم، وحدود، وإقامة، ومطارات، وسفر ليس للمركز سلطة عليه. ترى ماهي مقومات الدولة المستقلة، عن هذا الشكل المتفرد، الموجود. ولم يعترض أحداً من العرب على ذلك، وتعاملوا معه، وتمنوا للتجربة أن تزدهر، وأن تتقدم، وأن تنعكس أثارها على بقية العراق، الذي تعاني جميع أطيافه من ضيق الحال، ومن عسر في تصريف الأمور، وسوء في التصرف. أي أن تنعكس أثار التجربة الكردستانية على بقية العراق، عمراناً، وتقدماً، وتحضراً، وأمل في الإستقرار. وما كان لهذا أن يكون إلا لسبب، وفي كل ذلك، أن امام الكرد كان تحد واحد، لا غيره، هو؛ وحدة الإتجاه ضد الدولة المركزية، وتوحيد هدف الصراع، وخطابه، وتحديد بوصلته في هذا الإتجاه حصراً.

قد يكون الكرد قد وضعوا تجربة السودان نصب أعينهم. أو قد يكون من وضعها لهم. وتجربة إنفصال جنوب السودان، هي أول تجربة حصلت في دول الشرق الأوسط. أي تجربة تفكيك دولة واضحة المعالم، الى دولتين، أو أكثر. غير أن تجربة الدولة الوليدة، أي دولة جنوب السودان، التي لم تستطع أن تشتق لها أسماً، خاصاً بها، خلقت دولة فاشلة. وهي مستمرة السير في طريق الفشل. المعطيات التي تعرضها للعالم، هو التنافس الشديد على السلطة، وتسابق لا مثيل له في الأستيلاء على المال العام، وتكريس الفساد، وإنعدام المسؤولية. لم يكن وضع الجنوبيين في ظل الدولة الواحدة أفضل، ولكن أمرهم في ظل الدولة الجديدة مرير، ومريع. فلقد إنحدرت بوصلتهم الى طرق ومسالك مهلكة تماماً. وأظهرت صراعاً بين الكتل والأحزاب على المستوى السياسي، وصراع مدمر بين الأعراق والقبائل. كان من نتائجها هروب الملايين من الجنوبيين، أما الى دول الجوار، أو الى دولة المركز. حيث تشهد الخرطوم نزوحاً اليها غير مسبوق. وبدلاً من الحرب التي كانت سائدة في السودان بين الشمال والجنوب، أفرز الوضع الجديد، حرباً أهلية بين قبائل الجنوب. لقد أظهر الإنفصال نموذجاً للدولة الفاشلة، المروعة، بأمتياز. وأثبتت الوقائع أن إستدراج الشعوب، بحجج، للأستفتاء على مصير يجهلونه، هو السير الى الجحيم بعينه.

الآن، مالذي يعنينا من هذه التجربة المريرة، السودانية، الظاهرة للعلن. غير أن تتعض الأطراف جميعاً. العرب، والكرد، وغيرهم، فكل المؤشرات التي أفرزتها التجربة السودانية، متوفرة في العراق. وليس لمستقبل الأقليم ما يغري بغير تجربة جنوب السودان، كل مفردات الفشل موجودة، الصراع بين الأحزاب على أشده. والتناحر بين القبائل والعشائر لا يراد إلا إشعال الفتيل، لتحترق الأرض وما عليها. أي بمعنى آخر، فإن العناصر الموجودة في تجربة جنوب السودان، متوفرة أيضاً في تجربة كردستان، وإن أختلف الشكل، بحكم وفرة المال، والثروات، على وجه العموم في العراق. إن عراقاً بهذا الشكل الذي هو عليه، قد يلبي طموح الجميع. وإن سلوك درباً تجريبياً، مماثلاً لتجربة السودان، قد يؤول الى مخاطر غير محسوبة، للكرد بطبيعة الحال، قبل الأخرين. وإن التشجيع الذي يأتي من هنا، أو من هناك، لإنفصال كردستان عن العراق، قد يكون هو الأخر، مماثلاً للتشجيع الذي حظى به جنوب السودان. والذي تركت، بعد أن أنجزت المهمة، كل الأمور الى قدرها، سواءاً بقصد، أو إن أحسنت النية، بغير قصد. وفِي العراق تجد، كما هو في السودان، من يدفع بهذا الإتجاه، ويسوق الى ما جدوى وجود مشكلة، كمشكلة كردستان، التي تستنزف موارد العراق، منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة. ويعرض تجربة ما تبقى من السودان، عندما تخلص من جنوبه، على أنها تجربة قد تكون مفيدة على المدى البعيد، وهي الأفضل الى ما سيتبقى من العراق.

إن أمام العرب، والكرد، فرصة فريدة. قد تكون، هي، الأخيرة. إذا ما وضعا تجربة السودان نصب أعينهما. فالعراق الموحد بعربه، وكرده، وتركمانه، وسريانه، وكلدانه، وكل أطيافه، وأديانه، لهو أفضل للجميع. وإن إنفراط عقده خسارة للجميع، دون إستثناء. وستجد كردستان نفسها، بتنوعها، أيضاً، إذا ما إنفصلت، تعاني من نفس معاناة العراق. ومهما تكن فهي في العراق أقوى. وهي أهون، لوحدها، من بيت العنكبوت، وهي تواجه دول جوارها، طامعة، متربصة، ولا تعلم متى؟ وكيف؟ يلتهمونها. لن نتمنى لإخوتنا الكرد إلا الخير، كما نتمنى في نفس الوقت لبقية أطياف الشعب العراقي ذلك. حفظ الله العراق، وحفظ معه كردستان.