عشرون سنة أو أكثر ونحن نداول مصطلح “التجاوز” في خطاباتنا لوصف ما تعرضت له الأرض الآشورية تماشياً مع خطاب فعالياتنا السياسية في الوطن. ولحد أيامنا هذه والمتزامنة مع الأنتخابات العراقية المقرر إجرائها في الثلاثون من نيسان الجاري أي بعد شهر من الآن، نسمع ونقرأ خطابات نُخبنا السياسية وهي تُشير الى ذلك بعبارة ( التجاوز أو التجاوزات). لذا فمن الضروري جداً أن نعيد النظر في هذا المصطلح وندرس مدى تطابقه مع ما تعرضت وتتعرض له كافة القرى الآشورية سواءً المتواجدة تحت السيطرة الكردية أو تلك التي تقع إدارياً تحت سلطة محافظة نينوى.
فالتجاوز يتفاوت حجمه ونوعه، أبتداءً من أقل مستوياته، وأنتهاءً بأكبرها والتي تتمثل بتجاوز دول معينة على أُخرى. وفي هذه المقالة سوف نقف على ما يخص الأراضي الآشورية، كونه موضوع المقالة، ونقارن ذلك بمفهوم الأحتلال لنصل الى الصيغة الصائبة التي يجب مداولتها في خطابنا القومي والسياسي.
فالتجاوز في هذا المجال كثيراً ما يقع من قبل المواطن على أراضي الدولة ( البلدية ) وعلى وجه الخصوص في مجال البناء وتعتبر حالة مألوفة في كافة الدول والمجتمعات، هكذا تقع حالات أُخرى من التجاوزات بين القرى المجاورة والمتلاصقة أراضيها الزراعية أو مراعيها أو ممتلكاتها الطبيعية مع بعضها، وأحياناً أُخرى تقع تجاوزات فردية بين سكنين معينين متجاورين، يدخل بناء أحدهم في ملكية ( أرض ) الأخر، أو بين أصحاب حقلين زراعيين متجاورين يغير أحدهم الحدود بينهما لصالحه، وفي كل هذه الحالات وغيرها من أنواع التجاوزات تتدخل السلطات المعنية لفض النزاع وحسمه بالإستناد الى الأوراق والمستمسكات الرسمية والشهود وما شابه ذلك من السبل القانونية المتبعة.
أما الأحتلال فيختلف مضمونه وشكله كثيراً عن التجاوز، وهو أيضاً يقع على أشكال متعددة تتمثل أقصاها بأجتياح دول لأُخرى عسكرياً. وهناك الأحتلال ضمن حدود الدولة الواحدة المتعددة الأثنيات يتمثل بالتغيير لديمغرافية السكان الأصليين للأرض والتي غالباً ما يكون للسلطات دوراً رئيسياً فيها، أو أستيطانها من قبل دخلاء يفرضون أنفسهم بالقوة على أصحابها، ومن ثم يتبعون ممارسات أستفزازية يومية ( تجاوزات ) بغية إرغام أصحاب الأرض على تركها أو بيعها بأرخص الأثمان بعد أن يفقدوا الأمل كلياً في إنصافهم من قبل السلطات التي من المفروض أن تتدخل بشكل مباشر لحماية مواطنيها.
لو ألقينا نظرة على التغيير الديمغرافي المتبع من قبل الحكومات العنصرية في العراق فإننا سوف نلتمس ذلك بسهولة، فما أتبعه نظام حزب البعث الحاكم طوال الخمسة وثلاثون سنة من حكمه من إجراء تغييرات ديمغرافية شملت قرى يقطنها أكراد في كركوك وقرى آشورية في سهل نينوى من خلال توطين عائلات عربية العرق في تلك القرى مما لعب دوراً مباشراً في خلق الأزمات بين أطياف الشعب العراقي وبث روح الفرقة والعداء بين القوميات المختلفة لتصل في العديد من المناسبات الى المواجهة المسلحة، والتي بدورها أثرت بشكل سلبي على أمن وأستقرار البلاد لعقود ومزقت نسيجها الأجتماعي المتعدد الأثنيات، ففي عراق اليوم يمثل التغيير الجغرافي والديمغرافي إحد أكبر المعضلات التي تقف عائقاً في طريق حلحلة الإشكالات وتحقيق الأستقرار والأمان الذي يتمناه المواطن البسيط ويراوده في أحلامه.
بالعودة الى ما يتعلق بالشأن الآشوري فيما يخص ديمغرافيته وجغرافيته، لا أعتقد بأن ما تعرض له قد يغيب على النخب العراقية بكافة أطيافها، ففي التاريخ الحديث، تحديداً منذ إعلان تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد يومنا هذا كان الشعب الآشوري ضحية الممارسات الهمجية والشوفينية للحكومات المتعاقبة، التي شرعت بتطبيق نهجها العنصري الدموي في مدينة سميل عام 1933 والقرى المجاورة لها، وأستمرت بممارسة الضغط على الفرد الآشوري طوال السنين التي أعقبت تلك المجزرة، حيث هُجر الآشوريون أبانها قسراً من 67 قرية، نالت عشائر كوردية القسم الأكبر من “الغنيمة” بينما أستولت عشائر عربية على البقية الباقية منها بدعم ومساندة السلطة، بينما يسكن غالبية أصحابها الآشوريين اليوم في 33 قرية على ضفاف نهر الخابور داخل الحدود السورية، جميعهم يحملون الجنسية العراقية ولازال الكثير منهم يحتفضون بأوراقهم الرسمية العراقية.
بعد مذبحة سميل تلتها المرحلة الثانية في مسلسل قمع وتهجير الآشوريين، فقد لعبت الحرب الداخلية الدائرة بين المليشيات الكوردية والجيش العراقي المندلعة عام 1961 دوراً مؤثراً في فقدان الشعب الآشوري لإكثر من مائتان قرية كانت تقع معضمها على خط التماس بين الطرفين، حيث هُجّر قسراً أهالي العشرات من تلك القرى وتم إرغامهم للعيش في مجمعات سكنية قريبة من المدن الكبيرة، فيما أُضطر سكان بقية تلك القرى الى تركها والعيش إما داخل المدن العراقية مثل بغداد ونينوى ونوهدرا وأربيل والرمادي والبصرة، أو مغادرة البلاد بحثاً عن الأستقرار والعيش الكريم، وقد أستولوا الكثير من سكان القرى الكردية المجاورة بشكل كامل على الكثير من تلك القرى الآشورية، أو أصبحوا الغالبية العظمى من سكانها الى جانب القليل من أصحابها الآشوريين.
في أعقاب أنتهاء الحرب العراقية الأيرانية عام 1988 تعرضت المنطقة الشمالية بأسرها الى هجمة شرسة من قبل القوات العراقية التي أتبعت سياسة الأرض المحروقة، فأجتاحت المنطقة فيما سُمي بعملية (الأنفال) السيئة الصيت، وتعرض السكان المحليين الى أشد الضربات العسكرية تخللتها بالإضافة الى الأسلحة الثقيلة هجمات بالأسلحة الكيمياوية، إضافة الى ذلك فقد دُمرت مئات القرى الآشورية الى جانب القرى التي كان يقطنها الأكراد وفُجرت الأديرة والكنائس، مما أثار الرعب في نفوس المدنيين العُزل من الآشوريين والأكراد ودفعهم ذلك للجوء الى الحدود التركية والأيرانية، أما من وقع منهم بأيدي القوات العسكرية فقد تم أعدامهم في مهرجانات دموية ودفنوا في مقابر جماعية، أكتُشفت العديد منها بعد سقوط النظام الحاكم في نيسان من عام 2003.
لنقل، ومثلما ذكرنا أعلاه بأن الفكر الوطني المبني على المساواة والعيش المشترك لم يكن متبلوراً في مخيلة القائمين على حكم البلاد وغاب بشكل كامل عن أجنداتهم طوال الفترة منذ إعلان تأسيس الدولة العراقية وإلى أن بدأت شوكة آخر هذه الأنظمة بالإنكسار في أعقاب فرض المنطقة الآمنة فوق خط 36 في المنطقة الشمالية، وفرض حضر الطيران العسكري على المنطقة الجنوبية الواقعة تحت خط 32 بعد أنتهاء حرب الخليج الثانية عام 1991، مما فسح المجال للتيارات السياسية الكوردية لإدارة المنطقة الشمالية، أعقبه تشكيل البرلمان الكوردي عام 1992، لكن ذلك لم يغير الواقع المعيشي للآشورين في مناطقهم التاريخية، للأسف فرغم ما تعرض له الأكراد من تشريد وقتل وتهجيرعلى أيدي النظام الحاكم، لكنهم ( القيادات الكوردية ) بدأت تمارس ضد الأراضي الآشورية نفس ما مورس بحقهم أبان حكم حزب البعث، فمن ناحية أستوطنت الكثير من العائلات الكوردية في العشرات من القرى الآشورية، ومن ناحية أُخرى أستغلت القيادة الكوردية سلطتها في توطين قرى حدودية كردية على أراضي آشورية في الكثير من القرى والقصبات الآشورية بحيث تخلو اليوم أي قرية آشورية من أستيطان الأكراد سواءً كانوا سكان قرى مجاورة أو قادمين من قرى حدودية نائية، بينما مارست الحكومة الكوردية سياسة التمويه والمخادعة وتعددت أعذارها لحل المسالة تارّة بعدم الأستقرار في المنطقة وتارّة أُخرى بعدم السيطرة على زمام الأمور بسبب الطبيعة القبلية التي يتكون منها المجتمع الكوردي، وأحياناً أُخرى تحاول أحتواء الشكاوي المتتالية بتمثيلية ساخرة بتشكيل لجان للبت في مسالة التجاوزات!! دون تحقيق شيء ملموس على الأرض، بينما نجدها (الحكومة الكردية) تمارس الضغط والأستيطان بطريقة رسمية من خلال سن قوانين تشرعن الأستيلاء على القرى والأراضي الاشورية، كقانون تسوية الأراضي وغيره من القوانين والإجراءات التعسفية التي تدفع الفرد الآشوري الى فقدان الثقة في أن يُنصف يوماً تحت حكم هذا النوع من الأنظمة، ومن الجدير بالذكر فإن هناك ممارسات وقعت وتقع في العديد من القرى الآشورية لإستفزاز سكانها، في نظر القانون تعتبر مسائل يومية وتجاوزات فردية!، بينما بالحقيقة هي ليست كذلك، فبالرغم من أختلاف مسببيها ومكانها وزمانها وأقتصارها على تصرفات أفراد ولكنها عندما تجتمع جميعها مع بعضها فهي متشابهة في الهدف والمضمون وتشكل عامل ضغط على الفرد الآشوري لإخضاعه لسياسة الأحزاب الكوردية أو دفعه بطريقة أو بأُخرى للتفكير في الهجرة بحثاً عن الأمان والعيش الكريم خاصة عندما غاضت السلطات الكردية الطرف عن هذه التجاوزات المتكررة، وهذه الأعتداءات لا تكفي مقالة واحدة لتغطيتها، فالكثير منها باتت معروفة للقاصي والداني، لا بل تعدت الأعتداءات على الأراضي الآشورية لتصل الى درجة تكريد الفرد الآشوري من خلال حقن المناهج التدريسية بمواد تاريخية لا تمت للحقيقة بصلة، و أعتبار بعض المجرمين في التاريخ أبطالاً قوميين وهم من تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء من الآشوريين يشهد لذلك التاريخ، فعلى سبيل المثال أُدخِل أسم المجرم “أسماعيل آغا” زعيم عشائر الشكاك الأيرانية المعروف بلقب ( سمكو الشكاكي ) في المناهج التدريسية وأعتُبِر بطلاً قومياً! بينما هو من أغتال غدراً البطريرك الآشوري الشهيد ما بنيامين شمعون وقتل الكثير من الآشوريين الأبرياء العُزل.
أما فيما يخص قرانا وقصباتنا في منطقة سهل نينوى فقد تعرضت في هذه المنطقة أيضا الى التغيير الديموغرافي والجغرافي بعد أن أقدمت حكومة البعث على منح أراضي العديد من هذه القرى لعوائل عربية بغية تشويه هويتها العرقية ، وأستمروا على هذا المنوال طيلة سنوات حكمهم، بينما باتت اليوم هذه المنطقة ساحة نزاع بين الحكومة الفيدرالية والسلطات المحلية في محافظة نينوى على وجه الخصوص من جهة، والسلطات الكردية من جهة أُخرى، ولم تسلم أراضي هذه القصبات من الآعتداءات المستمرة على سكانها ومن عملية سلخ أراضيها ومنحها بمختلف الطرق لغرباء عنها لحد يومنا هذا، كما تشهد هذه المنطقة عملية حرمان من أبسط الخدمات الأجتماعية التي من المفترض أن يتمتع بها المواطنين، بالرغم من مرور أكثر من عشرة أعوام على إزاحة النظام الدكتاتوري وإحلال محله ما يسمى بـ “النظام الديمقراطي”، فعلى سبيل المثال، قبل أيام منحت “مشكورة!!!” السلطات المحلية في محافظة نينوى موافقتها لأهالي بغديدا للقيام بمظاهرة سلمية أحتجاجاً على سوء الخدمات وضحالة تعامل أحدى الشركات مع مشروع إصلاح المجاري في البلدة، بينما يعتبر هذا الأمر من أولويات السلطة في المحافظة في الوقت الذي أهملت هذه السلطة مهامها تجاه الإسراع في تحسين الخدمات ومحاسبة المقصرين الذين يتسببون في معاناة أبناء بغديدا، شخصياً أعتبر هذا تعمد في الأهمال كون منطقة سهل نينوى تعاني ولفترة طويلة بشكل كبير من سوء الخدمات وغياب المشاريع الخدمية وقلة توفير فرص العمل لأبنائها وغيرها الكثير من المستلزمات المعيشية العامة.
من خلال النظر الى هذا الكم اليسير من الأحداث والحقائق المذكورة في هذه المقالة (دون الخوض في المآسي الأُخرى التي تعرض لها الشعب الآشوري خلال السنوات القليلة الماضية) ومن خلال مقارنتها بشكل موضوعي بالمسميين ( التجاوز والأحتلال ) نستنتج بأن ما تعرض ويتعرض له الشعب الآشوري هو أحتلال بأمتياز، ومحاولة مدروسة لإلغاء وجوده ومسخ قضيته، ولا يجوز أعتباره تجاوزاً، ويجب تدوال هذا المصطلح الأصح بدلاً من التجاوزات. لا بل أزيد التأكيد على توحيد الخطاب القومي الآشوري والعمل على تدويل القضية الآشورية من خلال طرحها بكل مفاصلها في كافة المحافل الدولية بعد أن أنعدمت الثقة وغاب الأمل في إمكانية الحكومة العراقية والسلطة الكردية إنصاف الشعب الآشوري دستورياً وفعلياً وأحترام قضيته ووجوده على أرض آبائه وأجداده أرض آشور الخالدة.
الرجاء الأطلاع على الرابط أدناه وهو بحث في مصير القرى الآشورية المسيحية التابعة لمحافظة دهوك أجراه مشكوراً الزميل ماجد أيشو.
http://www.nohra.ca/Writers/Majed%20Eisho/0006.htm