وأنا منخرط في الزحام الشديد منتظراً دوري في طابور طويل وعريض لا أتمكن فيه من مشاهدة نهايته، للعرض على اللجنة الطبية الدائمية لغرض إجراء الفحص المطلوب لتجديد اجازة السوق، خطف أبصارنا رجل ستيني يمشي بصعوبة حاملاً بيده اوراق المعاملة وهو يتكئ بيمينه على عصاه الخشبية. الرجل مسن وهو لا يقدر على المشي ولا يتحمل الوقوف منتظراً دوره. وبالطبيعة العراقية التي تغلب على كل شيء كما هو دأب العراقيين، فأن الجميع قد اشفق عليه والكل تنازل عن دوره لهذا الرجل حتى وصل عتبة اللجنة الطبية بدقائق لكي يكمل الفحص وينصرف فيرتاح قبل حين.
الرجل يمشي متلكأ ومترنحاً، ومن الواقفين من فزع مسرعاً للامساك بيده ومعاونته على تخطي هذا الزحام ليصل إلى اللجنة الطبية.
دخل الرجل ووقف أمام اللجنة الطبية. وبعد أن شاهد الأطباء حالته أخبروه بأنه لا يمكن له قيادة السيارات وهو بهذه الحالة المتعبة. قال له أحد الأطباء:
– حجي أنت ارتاح لا تسوق سيارات أخاف اتسوي مشكلة وتبتلي وتنام بالسجن وأنت مو مال مراكز شرطة ومحاكم.
فجأة رمى الرجل العصا من يده ورفع اليشماغ الذي كان يغطي به رأسه وبدأ بالسير كالأسود. وقال لأعضاء اللجنة الطبية:
– دكتور.. يا حادث يا مادث صلوا عالنبي.. أني بعدني شباب، وإذا ما تصدقون خلي يجي أقوى واحد وأني مستعد أصارعه.
أحد الأطباء مشيراً إلى عصاه:
– وما تلك بيمينك إذن؟
– هي عصاي لكني لا أتكئ عليها. هذا تقليد متوارث عن الاباء والأجداد ليس إلاّ!
تبين أن الرجل ليس متعباً كما كان يبدو، وقد تحول بغتة أمام اللجنة إلى شاب قوي له أن يصارع من يتباهى بنفسه. وليس مريضاً كما أقنعنا حتى تمكن من سلب أدوارنا ونحن مصطفين كالجنود للعرض على اللجنة.
ضحك أعضاء اللجنة من تصرف هذا الرجل ضحكاً مبرحاً.. وضحكت أنا أيضاً ضحكاً لم أضحك مثلها من قبل حتى أدركت مدى بلادتي وجهلي ونحن ما زلنا نتعامل مع الأشياء بتغليب العواطف على العقل والعيش في الخيال والابتعاد عن الواقع.
كم من الشياطين يا ترى قد تسلقوا على أكتافنا وأخذوا أدوارنا وسلبوا حقوقنا وأججوا لنا النيران من تحت الرماد؟ كم من تجار العواطف والعازفين على وتر المشاعر قد تمكنوا من النيل منا والاتجار بنا ونحن تحت تأثير مخدر العواطف؟! حتى فقدنا دهائنا وسحلنا إلى مستنقع آسن لا نجد منه مخرجاً.