تكررت زمالتي به حين تولى رئاسة الجامعة التكنولوجية في بغداد خلال الحصار، حيث ظل متمسكاً برسالته الأكاديمية والإدارية مدافعاً عن الكفاءات العراقية في لحظة وطنية حرجة. حتى بعد أن حملته المنافي إلى أستراليا، واصل عطائه عبر جمعية الأكاديميين العراقيين ومجلة “الأكاديمي”، مؤمناً أن العلم لا تحده الجغرافيا ولا المنفى.
مع وجود صور وانجازات جيدة لكن حين ننظر اليوم إلى واقع العراق، نرى أن الزمن يُهدر بلا حساب ، والدوائر تتعطل تحت ذرائع دينية ومناسبات اجتماعية، حتى تجاوزت العطل الرسمية وغير الرسمية المئة يوم في السنة! ظاهرة تعكس استسهال تضييع الوقت وتغليب الكسل المؤسسي، فيما تُدفع الرواتب بلا إنتاج، وتتراكم أزمات الناس وسط جهاز إداري مترهل.
ومن غير المنطقي أن تُعطل الدولة بمؤسساتها كافة لمناسبة دينية أو اجتماعية. إذا كان لا بد من التعطيل، فليقتصر على المدينة أو المنطقة المعنية بالمناسبة دون أن يشمل عموم العراق. فلا مبرر لتعطيل المستشفيات والمدارس والمؤسسات الحيوية في كل البلاد كلما حلت مناسبة. الدول التي تحترم وقتها تعرف كيف توازن بين الاحتفال والعمل، وتمنح كل مناسبة حقها دون أن تجعلها سبباً لشلل الحياة العامة.
والأسوأ أن البعض استبدل العمل المنتج بالنقد السلبي والتسقيط الطائفي والمجتمعي، وكأن الهدم بديلاً عن البناء. لكن الحقيقة أن لا نهضة تُصنع بلا سواعد مخلصة، ولا وطن يُبنى دون قدوة العلماء واحترام التنوع. فالتسقيط لا يُنجز مشروعاً ولا يعالج أزمة، بل يعمق الشرخ ويهدر مزيداً من الفرص.
سيرة الدكتور داخل جريو تذكرنا أن الكفاءة والقدوة معيار النجاح، وأن احترام الوقت شرط للنهوض، لا ترفاً يمكن تجاوزه. العمل هو القيمة التي يقدسها الدين حين يجعل قضاء حوائج الناس عبادة. فلا يجوز أن يتحول الدين إلى ذريعة للكسل أو لتعطيل الحياة.
رحم الله الدكتور داخل الذي ظل مخلصاً لعلمه ووطنه حتى آخر أيامه، مؤمناً أن الزمن لا ينتظر المتقاعسين، وأن الأوطان لا يبنيها إلا من يعمل بصمت، بوعي، وبعقل مفتوح على الآخر. لنجعل من سيرته درساً عملياً حيث أن استعادة العراق تبدأ من احترام الوقت، والعمل الجاد، والنقد البنّاء بدل التسقيط، لأن هذا هو الطريق الحقيقي لبناء الأوطان.