قال تعالى” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “.
من منا لايذكر رائعة الشاعر المصري محمود غنيم، التي أداها السيد النقشبندي ،بصوته الرخيم العذب في واحدة من أروع أناشيده :
هل تطلبون من المختار معجزة…يكفيه شعب من الأجداث أحياه
نعم لقد أحيا النبي المصطفى ﷺ بما أوحي إليه من الحق سبحانه، شعوبا وأمما لاحصر لها في أرجاء المعمورة عقائديا،ودينيا،واخلاقيا،وفكريا،وتربويا،واجتماعيا،وانسانيا،وعدد ما شئت من فضائل لا تحصى أذهلت القاصي والداني في كل شؤون ومناحي الحياة وبما شهد لها البعيد قبل القريب ..العدو قبل الصديق ، وبما أضحت البشرية تذهل بإعجازها وعمقها وحكمتها وسعتها ودلالتها يوما بعد آخر .
فبعد سنين طويلة من الإغفال المتعمد والتغاضي وعدم الاهتمام بسرد فوائد الصوم الكبيرة وعلى المستويات كافة أو ركنها على الرفوف أو الاكتفاء باستدعاء دراسات قديمة تعود الى حقب الأربعينات والخمسينات والستينات وحتى منتصف السبعينات عن فوائد الصيام الصحية على سبيل المثال لا الحصر ، أو تكرار عبارات مستهلكة ومبتورة ومبهمة في ذات الوقت تعمل على تسطيح المعلومة ،وتسفيه أهدافها السامية من حيث تريد أن تؤكدها وتعلي من شأنها ، نحو” في دراسة علمية حديثة صادرة عن إحدى الجامعات الغربية العريقة، أكدت بأن الصيام نافع ومفيد للصحة العامة ” حيث لا تاريخ الدراسة ، ولا عنوانها ، ولا أسماء القائمين عليها، ولا اسم الجامعة “،ليأتي السرد بطريقة لا تختلف عن شوارد وغرائب الجزء الاول من كتاب إياس الحنفي “بدائع الزهور في وقائع الدهور” بخلاف بقية الأجزاء المهمة التالية ، ولعل من أشهرالقصص الوعظية السطحية قصة الطالب الباكستاني مجهول الهوية وأخالها من سفسطات الباطنية والقاديانية ، والذي لا يذكر أحد اسمه ولا تخصصه يوم كان يدرس في إحدى الجامعات الأوروبية – من دون ذكر اسم الجامعة طبعا – وبعد أن أخبرهم البروفيسور المحاضر بأنه يصوم يوما واحدا من كل أسبوع لتحسين مزاجه وحالته الصحية لأن الصيام مفيد نفسيا وبدنيا ، وإذا بالطالب يقف قائلا بتهكم بإمكانك أن تتوهم أسلوبه وقد قيل على الطريقة البغدادية نحو ” يمعود استاذ …على بختك دكتور، تره هذه حقيقة نعرفها منذ 1400 عام !!” فقال الأستاذ الذي لا تذكر الموعظة اسمه مذهولا ” معقولة ..صدك ..كذب ؟! ” ليتحفه الطالب بما يؤيد كلامه فما كان من البروفيسور إلا أن رفع السبابة لينطق الشهادتين أمام طلابه “قبل أن ينتهي الدرس ، وقبل أن يقرع الجرس !” ولاشك أن حسن النية في مواعظ سطحية كتلك لا تخدم الوعظ فضلا على أنها لا تشفع لصاحبها ولا تعذره، فما بالك بصدورها من بعض أصحاب النوايا السيئة للتشكيك بمضمون البحث ورسالته أساسا لقلب الأمور رأسا على عقب وهذا هو ديدن الجهلة ، ودأب الممخرقين ..سذاجات حشوية عفا عليها الزمن، وطرق تلقينية متهافتة تضر أكثر مما تنفع بكثير ولعلها واحدة من أخطر أسباب جنوح الالاف بدلا من الأخذ بأيديهم وإرشادهم وهدايتهم، وإذا كانت هذه الاساليب المستهلكة قد انطلت على القراء والسامعين ما قبل الثورة المعلوماتية، والفضاء السيبراني، والسوشيال ميديا، والذكاء الصناعي، فإنها لم تعد مجدية في وقتنا الحالي بالمرة وأحذر من مغبة ترديدها وكتابتها وتناقلها أيما تحذير، إذ لم يعد الأسلوب – الحكواتي – الذي يكثر من سرد الاساطير ويتوكأ عليها للعظة يعتمد على – تطيير فيلين إثنين كبيرين يزن كل واحد منهما سبعة أطنان في سقف المحاضرة في حال كان الفيل يتبع حمية للتخسيس ،وبما يعد جزءا لايتجزأ من بعض الخطاب الأسطوري وبمثابة توابل ومقبلات له – ليعقبها بالقول وهو يهز كلتا يديه مستعرضا خواتمه التي لايخلو أصبع واحد منها باستثناء الإبهام”إياك وهؤلاء الأغبياء والمتشككين والمتنطعين، واذا لم تصدق فعليك بفتح الصفحة 300 من المجلد رقم 18 من كتاب “الفحم الوهاج لطبخ الفسيفس والدجاج” وستجد ما يثبت صحة كلامي، والحكواتي قبل غيره يعلم علم اليقين بأن ما يقوله لاستثارة عواطف العوام مجرد هراء وتدليس ، وبأن الكتاب الذي أحال السامعين إليه لا وجود له أصلا، وبأن الاكذوبة التي يلوكها ليعتاش عليها غير صحيحة أساسا، وأن الصفحة التي أشار إليها إن وجدت وفي حال تم العثور على الكتاب بين أكوام الكتب الرخيصة على أرصفة شارع المتنبي أو ساحة التحرير، فإنها ستدحض كل ما يقوله وتكذبه ولا تؤيده جملة وتفصيلا ، مع علمه اليقيني بأن كسولا واحدا من السامعين ولاسيما من غير المثقفين لن يبحث لا عن الصفحة ، ولا عن الكتاب ، ولا عن المعلومة، مع أنه سيلوكها كالببغاء في المجالس والمقاهي والدواوين كما لاكها واعظه على مسامعه وأمام ناظريه حذو القذة بالقذة !
في هذا المقال سنحلق سوية مع العلم الرصين المؤيد للشريعة السمحة وتحت شعار”موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول” بخلاف ما يتوهمه ويشيعه كثيرون حول تناقض الدراسات العلمية الرصينة مع تعاليم الدين الحنيف قطعية الثبوت والدلالة أو تقاطعهما أو تضادهما ، ف
وأنوه الى أن الصيام في الاسلام ليس الامتناع عن الطعام فحسب – كما يفعل سوناك – وعشاق الرشاقة والنحافة ومدمنو إنقاص الوزن أو لتحقيق بعض الفوائد الصحية العابرة..الصيام في الاسلام مدرسة متكاملة بدنية ونفسية تدرب المسلم شهرا كاملا للامتناع عن الغيبة والنميمة وتجنب خوارم المروءة والرذائل والمحرمات والفواحش والآثام القولية والفعلية، ما ظهر منها وما بطن ، يقابلها التدريب المتواصل لـ 30 يوما على التحلي بمحاسن الاخلاق والالتزام بالفضائل والمكارم والطاعات وبذل الصدقات وصلة الارحام وفعل الخيرات وبما يحقق ما لاحصر له من الفوائد والمنافع الأسرية والمجتمعية والتربوية والنفسية والاخلاقية والدينية فضلا على الصحية للجميع ولعام كامل مقبل ..ولله در أحمد شوقي القائل :
أخوكَ عيسى دَعا مَيتاً فَقامَ لَهُ…وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ الزِمَمِ
وَالجَهلُ مَوتٌ فَإِن أوتيتَ مُعجِزَةً…فَاِبعَث مِنَ الجَهلِ أَو فَاِبعَث مِنَ الرَجَمِ
والان دعونا نحلق وبما تيسر لي جمعه عن فوائد الصيام الصحية تحديدا ، فبحسب المجلة الأمريكية للتغذية السريرية ،والمعهد الوطني للشيخوخة، ووفقا للدراسة التي أشرف عليها الدكتور (مارك ماتسون)مفيد للقلب والأوعية الدموية ويقلل من خطر الإصابة بالأمراض المرتبطة بهما اضافة الى تقليله من مخاطر الإصابة بالشلل الرعاش – الباركنسون – والزهايمر .
بدوره كشف خبير الطب التكاملي الألماني (غوستاف دوبوس ) بأن هناك إمكانية للعلاج بتغيير نمط التغذية ولذلك فهو ينصح بـ”الصوم المتقطع”لمدة 16 ساعة في اليوم ( = صيام نهار كامل بين موعد الإمساك فجرا والفطور بعيد غروب قرص الشمس )،وبعدها أكل وجبتين صحيتين خلال الثماني ساعات المتبقية ( =وجبة فطور +سحور ) لأن الصوم يريح المعدة ويعطي فرصة لحرق الدهون في الجسم وفقا لصحيفة “بيلد” الألمانية .
فيما نشرت مجلة (بلوس وان) العلمية الشهيرة دراسة تفيد بأن الصيام يسهم في خفض الوزن وضغط الدم مع تعديل نسبة الدهون والجلوكوز في الدم وفقا لدويتشه فيله .
ومن فوائد الصيام تحييد البكتيريا الضارة في المعدة مقابل زيادة البكتيريا النافعة بحسب دراسة للدكتور (بروس فالانس) نشرت نتائجها بمجلة (PLOS Pathogens) عام 2021 ، لتضيف مجلة (نيو إنغلاند جورنال أوف ميديسين) بأن جوهر الصوم المتقطع يكمن في الحد جزئيا من تناول الطعام لمدة تتراوح بين 8 – 14 ساعة ما من شأنه تحسين القدرات الفكرية ورفع حساسية الأنسولين وبما يمنع تطور مرض السكري وخطر أمراض القلب ،مع تحسين نظام المناعة بحسب الدكتور (مارك ماتسون) من جامعة (جون هوبكنز) .
وفي دراسة طيبة نشرت في صحيفة (ديلي ميل) البريطانية في نيسان 2021 كشف (الدكتور أندراس مايفيلد) عن أن الأشخاص الذين اعتمدوا الصيام قبل بدء النظام الغذائي الصحيح تمكن 43 % منهم من خفض اعتمادهم على الأدوية لتنظيم ضغط الدم مقارنة بغيرهم .
فيما تركز اختصاصية التغذية بمركز الطب المتكامل في لندن الدكتورة (ويندي دينغ) على إدراج الصيام الطبي في البرنامج العلاجي لمن يعانون من وطأة الشوائب والسموم ، ومن الجدير ذكره أن الدكتور الألماني (اتو. اف. بوجنكر) كان قد أكد في كتابه (الصيام والصحة) بأن “الصيام يعد بمثابة وصفة طبية للشفاء” ، أما البروفيسور الروسي نيكولاييف ، فيعالج مرضى الفصام عن طريق الصوم ، كما أن الصيام لمدة طويلة ولأيام متتالية مع إتباع نظام غذائى صحي يساعد مرضى المفاصل وارتفاع ضغط الدم بحسب مجلة “فام أكتويل” الفرنسية .
الى ذلك تقول الاديبة والشاعرة العراقية المغتربة مي العيسى ،وهي رئيسة تحرير مجلة “همس الحوار” الصادرة في لندن والمعتمدة في المكتبة البريطانية ،أن ” الغرب يتجه نحو الصيام المتقطع كما يسمونه intermittent fasting من أجل صحة أفضل” .
وتضيف العيسى أن صديقتها الايطالية ستيفانيا ،وزوجها هواكين الإسباني يعتمدونه وقد أذاعت لها صديقتها” الايطالية سرا قائلة لها ” نحن وبكلّ فخر نصوم صيامكم وها نحن نشعر بصحة أفضل وقد استفاد هواكين استفادة كبيرة من هذا الصيام لكونه يعاني من مرض القلب وقد وضعوا له بطارية لتقوية العضلة” .
وفي سياق متصل بما سبق ذكره آنفا نشر موقع “ميديكال إكسبرس” تقريرا يفيد بإن “الصيام المتقطع منتشر بشكل متزايد، حيث وجدت بعض الدراسات أنه يعزز جهاز المناعة ويساعد في منع تطور بعض الأمراض”، مشيرة الى ” وجود العديد من تطبيقات الهواتف الذكية التي يمكن للأشخاص من خلالها تسجيل فترات الصيام المتقطع ومعرفة المزيد عن فوائد الصيام ” .
لتتحفنا جامعة العلوم والتكنولوجيا الصينية بنشر نتائج دراسة علمية عام 2023 في مجلة(علم الأعصاب الطبيعي) تفيد بأن “الصيام يمكن أن يعزز على وجه التحديد السيطرة العصبية على الالتهاب ويؤثر على توزيع الخلايا التائية وبما يسهم في مكافحة الجراثيم ،وحماية الجسم من الأمراض”.
بدوره نشر المركز الوطني الصيني للبحوث السريرية، بحثا للباحث الصحي تشيانغ تسنغ،أكد خلاله”أن نظام الصيام المتقطع، يغير محور الميكروبيوم في الدماغ البشري” .
لتضيف البروفيسورة كريستا فارادي، من جامعة إلينوي الامريكية، أواخر العام 2023 بأن نتائج الدراسة العلمية التي نشرت في دورية ” شبكة غاما المفتوحة ” والتي شاركت فيها لبحث فوائد الصيام المتقطع ودوره في تحسين نسبة السكر في الدم “قد أظهرت أن تناول الطعام المقيد زمنيًا يمكن أن يكون بديلًا عمليا للأشخاص المصابين بالسكري من النوع الثاني والذين يشعرون بالملل من حساب السعرات الحرارية لفقدان الوزن” .
أما بشأن ما يسمى حاليا بـ”حمية محاكاة الصيام” فقد كشفت دراسة علمية أجريت في (كلية ليونارد ديفيس ) لعلم الشيخوخة بأن” الصيام قد يقلل من مخاطر الشيخوخة ، وبما يجعل الأشخاص أصغر سنا من الناحية البيولوجية حيث قلل المشاركون وبشكل فعال من عمرهم البيولوجي بمعدل 2.5 سنة مع تجديد وظائف التمثيل الغذائي والمناعة” ، وفقا للدكتور فالتر لونغو ،الاستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا الأمريكية .
ونختم خشية الاطالة وكل ما ذكر مجرد غيض من فيض، بدراسة الدكتور لويس ر. ساراييفا، الذي ترأس فريقا بحثيا في مركز سدرة الطبي ، لبحث تأثير الصيام على الجسم وأجهزته المختلفة خلصت الى “اتساق التغيرات المناعية التي تؤثّر على العديد من الأعضاء أثناء الصيام ” ولله در القائل :
الصوم رابطة الإخاء قويةً …وحبال ود الأهل والأصحاب
الصوم درسٌ في التساوي حافلٌ …بالجود والإيثار والترحاب