23 ديسمبر، 2024 12:06 م

تبادلية العلاقة مابين الواقع والخيال في الفن السينمائي

تبادلية العلاقة مابين الواقع والخيال في الفن السينمائي

مابين الفن والعلم
هنالك علاقة وثيقة وجوهرية تربط الواقع بالخيال في كل الفنون الابداعية رغم التقاطع الحاد مابين هذين العالمين.

الواقع بما تُشكِّل فيه الصور والاشياء حقائق ملموسة،والخيال الذي يكون مُنطلقهُ مُخيلة الانسان،بما تملكه المخيلة من مساحة واسعة في بناء صورةِ لعلاقات متخيلةٍ تبتعد تماما في تكوينها عن المنطق والسببية،حتى فيما لو إستعارت مفردات تلك الصورة وعناصرها من الواقع.

الفنون لوحدها فقط تمتلك مساحة واسعة ــ العلم لايمتلكها مطلقا ــ تجمع النقائض التي تتشكل من : 1- صور الواقع 2- شطحات المخيلة.

من خلال هذه المساحة يُبنى عالما جديدا مُفتَرضا تنتجه مخيلة المبدع،هذا العالم الواقعي المُتخيَّل،تتم فيه ومن خلاله مُحاكاتُ أو تخاطرُ أوهَدمُ وإعادةُ بناءِ الواقع باساليب فنية متنوعة ومختلفة،مَرَّة يختارُ فيها المبدع أنْ يكون واقعيا أو تجريديا أو سرياليا أو انطباعيا او تعبيريا … الخ من الاساليب والمدارس الفنية التي تراكمت في تاريخ الفنون،بينما في المقابل تعجز العلوم عن ذلك،لانَّ جوهرها قائم على عمليات حسابية دقيقة لاتقبل الخطأ،ولامكان للخيال فيها مطلقاً .

تبادل الادوار

طيلة المسار التاريخي للفنون بقيت هذه العلاقة مابين الواقع والخيال قائمة،ولم يخفت توهجها،وكلاهما تبادلا الأدوار فيما بينهما حسب ما يشاء الفنان،مرة ينهض الواقع ليلعب دوره كاملا انطلاقا من ساحة الخيال،وأخرى يلعب الخيال دوره كاملا

انطلاقا من ساحة الواقع،وينعكس ذلك واضحا في طبيعة الصورة النهائية التي ينتجها الفنان بما تحمله رؤيته للموضوع من ادوات واساليب في التناول.

وحرية التنقل من الواقع الى الخيال لن تقتصر على فنون معينة لتنحسر أو تختفي في فنون أخرى،إنما تشترك في ذلك كل الفنون السمعية منها والمرئية .

أما فيما يتعلق بمدى منطقية مايُطرح من علاقات واقعية في العمل الفني الذي يتأسس على الخيال بدرجة أساسية،أو منطقية العلاقات الخيالية في العمل الذي يتأسس على الواقع،فيبقى أمر ذلك مرهوناً بقدرة الفنان وموهبته في استثمار ادواته بالشكل الذي يتمكن من خلال معالجته ورؤيته الفنية على تحقيق التأثيرالذي ينشده،سواء كان تأثيرا عاطفيا أو فلسفيا ،لايصال خطابه الفني .

في الفن السينمائي

لو عدنا بالذاكرة إلى الوراء لكي نتأمل بعمق بدايات الفن السينمائي،في اللحظة التي شرعت فيها عتلات كاميرات السينما تدور لأول مرة،حينما صور المهندسان الفرنسيان الاخوين لومير(اوجست ماري لوي نيقولا 19 اكتوبر 1862 – 10 ابريل 1954 )ولويس جان( 5 اكتوبر 1864 – 6 يونيو 1948 )أول الاشرطة السينمائية عام 1869،وكان زمن عرض الشريط لايستغرق سوى 46 ثانية،وقد تم تصنيف الفلم من قبل النقاد على أنَّهُ أول فلم وثائقي،وذلك لأنه يتابع حركة وصول قطار ونزول المسافرين منه على أرض المحطة .

عند مشاهدتنا للفلم سنكتشف أنَّ(الاخوين لومير)حاولا أن ينقلا حركة الاشياء كما تجري في الواقع دون أن يتدخلا في إعادة تركيبها فنيا وفقا لخيالهما،بل اكتفيا بعملية تسجيل الحركة على الشريط السينمائي،كما تجري بتفاصيلها الواقعية.وسبب ذلك يعود الى أنَّ الهدف من عملهما لم يكن صناعة فلم سينمائي،ذلك لأنَّ الفن السينمائي حتى تلك الساعة لم يكن موجودا،والخطوة التي أقدما عليها تعد هي اللبنة الاولى في بناء طريق اكتشاف اسرارهذا الفن من غير أن يدركا ذلك.

مِن البديهي أن الاشياء في لحظة خَلقها تكون بداياتها بسيطة وتفتقر الى القواعد الواضحة المحسوبة والمُدَرَكة التي تحكم بنائها،ولكن بتوالي التجارب تنضج وتتطور إلى أن تكتمل وهكذا الاساليب والقواعد يتم التوصل اليها حتى تصبح فيما بعد منطلقا لأي عمل فني .

وفيما يتعلق بفلم الأخوة لومير لانستطيع أن نجزم بشكل قاطع غياب الخيال عن عملهما،خاصة إذا ماعلمنا أن عدد من مؤرّخي تطور الفن السينمائي يؤكدون في مؤلفاتهم بأن جميع ركاب القطار كانوا من أصدقاء الاخوين لومير وقد تمت دعوتهم لكي يؤدوا أدوارهم باعتبارهم ركابا يستقلون القطار،هنا بالضبط يَكمنُ هامش الخيال البسيط الذي تحرَّك فيه الاخوين لومير ولكن بلا أدنى شك رغم بساطته كان له أهميته التاريخية.

بعد هذه التجربة توالت تجارب اخرى يعرفها دارسو الفن السينمائي كانت جميعها تنسج على منوال ماسبقها،مع اضافات صغيرة هنا وهناك،إلى أن نضجت جُملة من القواعد باتت تحكُم وتوجِّه أي واحدٍ يحاول أن يخرج فلما سينمائيا،ومع نضج هذه القواعد واتضاح صورتها ومدى تأثيرها في بناء الفلم،كانت مساحة الخيال تتسع هي الاخرى،لتصبح أهميتها في البناء الفلمي موازية للواقع،وباتت تتبادل معه الادوار والمساحة .

المُنطلَق في المونتاج

إن الخطوة الأهم ــ بتقديرنا ــ في قضية توسُّع مساحة العلاقة التبادلية مابين الواقع والخيال في الفن السينمائي،جاءت بشكل جوهري من خلال فن المونتاج السينمائي ،الذي لم يكن قد تشكلت ملامحه واسسه حتى العام 1903 عندما أخرج(إدوين إس بورتر) فلمه (سرقة القطار الكبرى)وأهمية هذا الفلم لاتكمن في قيمته الفنية،بقدر ما تأتي أهميته مِن حدث صغير لاعلاقة له بالشريط المصور ومحتواه،وذلك عندما جاءت ساعة عرض الفلم،حينها أعطى المخرج تعليماته للعامل المسؤول عن عرض الفلم بأنَّ له الحرية في أنْ يعرض لقطة عامة كانت من ضمن لقطات الفلم إما يعرضها في بدايته أو في نهايته حسب ذوقه الشخصي،هذا الموقف الذي تُرِك

فيه للعامل أنْ يتحكَّم في موضع اللقطة العامة وحسب(ذوقه الشخصي)لم يكن في حُسبان المخرج سيكون له تأثير ثوري في نضج الوعي الفني لدى العاملين في نطاق الفن السينمائي،ليمنحهم فيما بعد نقطة انطلاق تاريخية وفنية في آن واحد، يكونُ لهم فيها حرية مطلقة في إعادة تركيب الواقع الذي يصورنه في مرحلة المونتاج،وتكون لمخيلتهم الحرية في تقطيع المشهد الواحد وتركيب لقطاته بأكثر من خيار،وفي كل واحد من تلك الخيارات يتم الوصول الى نتائج فنية مختلفة ومتنوعة،من حيث الفكرة والاسلوب والانطباع الحسي لدى المتلقي.

أهميّة المخرج غريفث

ثم جاء المخرج الاميركي وورك غريفث الذي أحدث تحولا عميقا وجوهريا في بناء الفلم السينمائي بعد أن أخرج خلال الفترة مابين 1908 – 1913 عدد من الافلام القصيرة قبل أن يبدأ في إخراج فلمه الشهير(مولد أمّة)عام 1915.وتوصل في تلك التجارب الاولى الى نتائج هامة جدا،وضعت العناصر الفنية التي تنهض عليها بنية الفن السينمائي،ومازالت تلك العناصر محافظة على أهميتها وحضورها في البناء الفلمي،ولعل أهم ماتوصل اليه كريفث أنْ:يُقسِّم المشهد الواحد الذي يروي حدثا واحداً الى عدة لقطات اثناء التصوير مِن غير أنْ يتم تصوير المشهد دفعة واحدة،وبلا أدنى شك كانت ومازالت هذه القاعدة تشكل جوهر آلية العمل في الفلم السينمائي حتى هذه اللحظة.

إن اكتشافات غريفث لم يتوصل إليها وهو في حالة تأملٍ وعزلة دونما عمل،بقدر ما تفاعلت فيها التجربة العملية والتفكير المستمر في عمله وماكان يتوصل اليه من نتائج.

كريفث لم يكن إلاّ فنانا مغامراً،إعتمد على ذاته وحدسه ومخيلته في التجريب والتقصّي والاكتشاف،وهو ينطلق في حقل فني بكر لتحقيق احلامه مستعينا بمخيلة فذَّة واستثنائية،وعندما أخرج فلمه الطويل (مَولدُ أُمَّةٍ)كانت قد تراكم في ذاكرته الفنية مخزونا معرفيا وقيميا من المفاهيم الفنية إستنتجها بفعل تجاربه الذاتية في افلامه السابقة،فوضع في هذا الفلم كل جهده وخبراته،وجعله ميدانا رحبا لاستعراض ماكان

قد توصل اليه من عناصر فنية واساليب في بناء الفلم،والتي اصبحت فيما بعد قيما فنية اساسية لاغنى عنها لأي مخرج وهو يفكر في اخراج مشروعه السينمائي.

هنا لابد أن نذكربعض العناصر الفنية التي أرساها كريفث:لقطة لعين إنسان وهي تنظر من ثقب الباب،لقطات واسعة تستعرض مساحات من الريف،كامير متحركة، قطع متوازي للقطات من مشهدين في زمن واحد،لقطات قريبة ومتوسطة لكسب تعاطف المشاهدين تجاه الشخصية،الى غير ذلك من الاساليب التي تعكس إتساع مساحة الخيال في اعادة تركيب الواقع على الشاشة وخلق واقع آخر موازي له انطلاقا من المخيلة أمست بعد ذلك بؤرة يعتمد عليه المخرج في تشكيل رؤيته الفنية وهو يعالج موضوعات الواقع،وهكذا توالت جهود مخرجين عظام آخرين من بعد غريفث أكملوا ماكان قد بدأه مثل :سيرجي إيزنشتاين وبودفكين .

من هذا السياق الموجز،يتتضح لنا دور واهمية الواقع ووالخيال،باعتبارهما قوَّتان رئيستان في بناء الفلم السينمائي.