7 أبريل، 2024 5:42 ص
Search
Close this search box.

تاريخ الطب العربي للمستشرق الفرنسي لوسيان لوكليرك

Facebook
Twitter
LinkedIn

* دراسة وترجمة
للحضارة الانسانية جهود اسهمت في خلقها وتطويرها وتقدمها جميع الامم، ولدت حول الانهار الكبرى في الوطن العربي، وفي الشرق الاقصى، ثم انتقلت الى اليونان وايطاليا، وازدهرت لدى العرب بعد الاسلام، فأفادت منها اوروبا فائدة كبيرة في نهضتها الحديثة. وكان العلم العربي بين اهم ما انجزت هذه الحضارة، وتعود اهميته الى نقله مصادر علوم الغرب والشرق القديمة الى العربية، ثم الى تطويرها تطويراً يشار اليه بالبنان، ونقلها بعد ذلك الى شعوب اوروبا اللاتينية.
ولقد شغل الطب المقام الاول من اهتمام العرب. وبقوا سادته طوال خمسة قرون، نظراً لاهتمامهم بالعلم بصورة عامة، ثم لما عزى عن الرسول النبي محمد (ص) من قوله “العلم علمان، علم الايمان وعلم الابدان”. ولقد تجلى ذلك الاهتمام في الامور التالية:
* ترجمة الكتب الطبية عن اليونانية والفارسية والهندية والسريانية.
* تأليف الكتب الطبية التي بقيت عمدة العالم في هذا العلم حتى اواخر القرن الثاني عشر الهجري/ الثامن عشر الميلادي.
* تأليف كتب كثيرة تضم تراجم للاطباء العرب وغير العرب، ككتاب ابن ابي اصيبعة (عيون الانباء في طبقات الاطباء).
* اقامة المستشفيات (البيمارستانات) في اكثر العواصم والمدن العربية الكبرى. وقد بقي منها اثنان –البيمارستان النوري بدمشق، والبيمارستان الارغوني بحلب.
ولذلك لم يكن غريباً اهتمام المؤرخين والغربيين منهم خاصة بتأليف الكتب التي تؤرخ للطب العربي منذ اوائل القرن التاسع عشر، امثال: فريدلاند، وسبرنغل، واموري، ومايرهوف، واولمان.. الذين خصوا الطب العربي بكتب لهم، فضلاً عن الفصول الكثيرة في كتب الحضارة العربية، والمقالات العديدة في دوائر المعارف، وفي المجالات العامة والمتخصصة، والتي كان اخرها مئات الابحاث والدراسات التي ألقيت في العشر سنوات الاخيرة، ابان الندوات والمؤتمرات العلمية في سائر انحاء العالم، البعض منها تمت في اقطارنا العربية، يقف في رأس الكتب التي اهتمت بالتراث الطبي العربي، كتاب تاريخ الطب العربي، الذي نحن بصدد مراجعته ودراسته، والذي ألفه المستشرق الفرنسي لوسيان لوكليرك، ونشره في باريس عام 1876. وهو الكتاب الذي بقي على الرغم من مضي اكثر من قرن على صدوره. أجود ما الف في هذا الموضوع الهام من موضوعات الحضارة العربية. نقول
ذلك: استناداً لقراءتنا الكتاب بطبعته الفرنسية من جهة، وللاسباب التالية التي نقدمها تعزيزاً لهذه المقولة من جهة ثانية.
الكتاب، اضخم مؤلف في موضوعه، انه يقع في مجلدين ضخمين تصل صفحات كل منهما الى اكثر خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، وهو مقسم تقسيماً منطقياً، ومتبع فيه المنهج العلمي السليم الدقيق. فالكتاب يضم سبعة ابواب، سمى المؤلف كلاً منها كتاباً، تتناول تاريخ الطب العربي حسب العصور، منذ العصر الجاهلي الى اوائل النهضة العربية الحديثة، مع مقدمة وخاتمة بالطبع.
تصدر الكتاب مقدمة تتحدث عن الحضارة العربية وعن الفتوحات العربية، وعن انفتاح العرب على علوم من سبقوهم، واقتباسهم الطب عن الاغريق وغيرهم. ثم تحدث بشكل مفصل عن المصادر التي استقصى منها المؤلف مادة كتابه، مع تقييم هذه المصادر، وبيان مزاياها والمآخذ عليها.
والكتاب، اوسع مصدر تحدث عن الطب العربي، وارخ له في اللغات كلها، وهو اكبر مرجع لتراجم الاطباء العرب والعلماء العرب الذين اسهموا في تأليف كتب طبية.
والكتاب، يعني بقضية الترجمة، ترجمة تراث الاغريق الى اللغة العربية في العصر العباسي، وترجمة التراث العربي الى اللغة اللاتينية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بعد اتصال الغرب بالحضارة العربية في الاندلس، وفي صقلية، وخلال الغزوات التي سميت خطأ باسم الحروب الصليبية.
والكتاب، اخيراً مكتوب بروح التقدير والاعجاب والاكبار، حب للعرب، واعجاب بتراثهم الطبي، واكبار لموقفهم من علوم الامم التي غلبوها بعد الفتوحات العربية. فالعرب عند لوسيان لوكليرك، شعب ذكي، لم تمنعهم فتوحاتهم لبلاد امتدت من الهند حتى الاطلسي، من ان يتتلمذوا على من غلبوهم، ويترجموا علومهم ويجعلوهم قدوة لهم. وكان ذلك في رأي المؤلف معجزة، لان العرب انقذوا العلوم من الضياع بعد ان دمرت الشعوب الهمجية الدولة الرومانية. واضاف العرب الى ذلك ابداعهم في هذه العلوم ابداعاً عظيماً تجلى لا سيما في هذا التراث الطبي العظيم، الذي كان موضوع كتابه، والذي اخذه الاوروبيون قبيل عصر النهضة فترجموه الى اللاتينية وتتلمذوا عليه لمدة طويلة. ألم يبق كتاب (القانون) لابن سينا، سيد المصادر الطبية في الجامعات الاوروبية الى نهاية القرن الثامن عشر؟
وفي الكتاب حديث مطول عما قدم العلماء الغربيون من دراسات حول الطب العربي، وقائمة بالمصادر العربية: الفهرست لابن النديم، واخبار العلماء باخبار الحكماء للقضطي، وتاريخ ابن العبري، وعيون الانباء لابن ابي الصيبعة، ووفيات الاعيان لابن خلكان، وكشف الظنون لحاجي خليفة، وقوائم المخطوطات الموجودة بالمكتبات التي لها علاقة بالطب، مع المعاجم والكتب العامة التي لا غنى عنها لمن يكتب في اي بحث.
*مقدمة الكتاب
وفيها خلاصة وافية عن الكتاب، والمخطط الذي اتبع في تأليفه، وعناوين الابواب/ الكتب التي جاءت كما يلي:
الكتاب الاول- الطب العربي من العصر الجاهلي حتى سقوط الامويين.
الكتاب الثاني- الطب العربي في القرن التاسع الميلادي، وهو عصر المأمون او قرن الترجمات.
الكتاب الثالث- القرن العاشر.
الكتاب الرابع- القرن الحادي عشر.
الكتاب الخامس- القرن الثاني عشر.
الكتاب السادس- القرن الثالث عشر.
الكتاب السابع- عصور الانحدار.
الكتاب الثامن- العلم العربي في الغرب او نقله بوساطة الترجمات من العربية الى اللاتينية.
* المؤسسات الطبية
المؤلف ينهي المجلد الاول بثلاثين صفحة يؤرخ فيها للمؤسسات الطبية عند العرب، وهي المستشفيات والمدارس والحدائق النيابية، والشرطة الطبية والمكتبات. ونترجم فيما يلي الصفحة التي مهد بها لهذا القسم الهام من الكتاب (حـ1، ص557):
ان تاريخ الطب سيكون ناقصاً اذا اقتصر على تراجم الرجال الذين مارسوه او علموه، فهذا ليس الا قسماً منه، ويوجد قسم آخر – انه المؤسسات التي لا يقل تاريخها اهمية عن القسم الاول. والحقيقة ان الرجال يذهبون، اما المؤسسات فتبقى دليلاً على التقدم الكامل. وتأكيداً للتقدم القادم وتهيئته للدراسة وتشجيعاً وزاداً للدارسين، انها تحفظ الصحة العامة وتنظم ممارسة المهنة.
وقد ظهرت هذه المؤسسات لدى العرب في وقت مبكر، فالخليفة الاموي عبد الملك بن مروان، بنى في دمشق بيمارستاناً لمعالجة مرض الجذام، واقيمت بيمارستانات في بغداد، وفي جميع المدن التي امتد اليها ظل العرب، مع بريق يرتفع او يخبو ولكنها وجدت دائماً في المدن الكبرى وفي عواصم الملوك.
لم يأخذ المؤلف في الحديث عن هذه المؤسسات بالتفصيل، فيبدأ حديثه عن مستشفيات الشام والعراق وفارس ومصر والحجاز، ويخص المستشفى الكبير الذي بناه نور الدين محمود في دمشق بدراسة مطولة (حـ1/ ص565 و 566) يؤرخ فيها بناءه، ويعدد اشهر اطبائه. ثم ينتقل بعد ذلك الى المكتبات، فيشير الى الكتاب الجيد الذي وضعه المستشرق كاترمير عن تاريخ المكتبات، ويبدي اعجابه بولع العرب بالكتب، واقتنائها وترجمتها، ذلك الولع الذي بدأ في وقت مبكر، اي منذ عهد خالد بن يزيد والامام جعفر الصادق (حـ1/ ص583- 584).
وينتهي بحثه عن المكتبات العربية بقوله (حـ1/ ص 584): لقد غدا الولع بالكتب عند العرب عشقاً، واصبح منذ القرن التاسع الميلادي عاماً، وترك لدى العرب خميرة علمية لنشاط لا نظير له. ففي جميع انحاء الامبراطورية العربية، ترى ظهور مكتبات عامة نذكر منها – مكتبة المستنصر ببغداد، وتضم 800,000 مجلد، ومكتبة القاهرة في العهد الفاطمي الموزعة على ثماني عشرة غرفة مملوءة بالكتب التي قيل ان تعدادها قد بلغ مليوني كتاب. وروي، ان مكتبة طرابلس الشام التي احرقها الفرنج كانت تحوي ثلاثة ملايين كتاب. وذكر كازيري
سبعمائة مدينة في الاندلس كانت تضم كل منها مكتبة عامة. اما مكتبة قرطبة فتعد 600,000 مجلد، وكان فهرسها في اربعين مجلد.
كانت الموضوعات السابقة موزعة على ابواب الجزء الاول من الكتاب، اما المجلد الثاني، فيفتتحه بنظرة مجملة على القرن الثاني عشر، ذلك القرن الذي بدأت فيه الحروب التي اسماها الغربيون الصليبية زوراً وبهتاناً، اما نحن –فنسميها الغزو الفرنجي لبلاد الشام- اي بالاسم الذي سمته بها كتب تراثنا التاريخي.
وموقف المؤلف من هذه الحروب واضح جداً، انه يسميها الحروب المشؤومة (حـ2/ ص3)، وينقل عن كاتب آخر وصفه لها بانه –جنون ورع- حمل الاضطراب والدمار الى الشرق (حـ2/ ص4)، ويأسف لانه كان لها بالضرورة أثر مؤسف على الحركة العلمية، ويؤكد انه يجب عليه وهو مؤرخ العلوم العربية باعتبارها النشاط الانساني الرفيع والنبيل – ان يحتفظ تجاه هذا الصراع بين الهمجية والحضارة بكل الود والتعاطف لهذه الاخيرة، التي كانت متمثلة في العرب (حـ2/ ص4).
ومع ان الحروب الدينية أشد الحروب ضراوة وقسوة، فان لوكليرك يسجل –ان ثقافة العرب الحقيقية العميقة قد جعلتهم معتدلين في هذا الصراع، ورافضين الولوج في بحر التعصب هذا (حـ2/ ص 224 ).
ويخصص لوكليرك الكتاب الثامن والأخير– للعلم العربي في الغرب (حـ2/ ص 341، 527) او الى عملية نقله مترجماً الى الغرب، وهو يمهد له قبل البدء بمعالجة موضوعه بنظرة متباينة على الترجمة، ويقارن بين ترجمة العلم الاغريقي الى اللغة العربية والتي تمت في العصر العباسي الذهبي وبين ترجمة العلم العربي الى اللاتينية التي تمت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في اسبانيا وصقلية (حـ2/ ص343- 345). ويقول: اذا اردنا ان نقارن بين ترجمات طليطلة وبين ترجمات بغداد، يكفينا ان نستعيد الظروف التي تمت كل منها خلالها حين نفهم ان الاولى اقل قيمة من الثانية. ففي بغداد، وجد رجال مهيئون للقيام بدورهم يشجعهم معنوياً ومادياً حكام وسادة وامراء، اما في طليطلة فقد قام بالترجمة جماعة من العلماء من دون مال، علماء كانوا مضطرين لتعلم العربية مقدماً، وبصعوبة كانت تعوزهم الوثائق العلمية التي يمكن ان تنير اعمالهم وتخصبها، كما كانوا يجدون صعوبة في الحصول على نصوص جيدة واصيلة.
لذلك لم يكن غريباً ان يأخذوا على الترجمات العربية اللاتينية، همجيتها، واخطائها، وتحريفها اسماء الاعلام والصيغ التقنية، وكثرة الكلمات والتعابير المنقولة حرفياً من دون ترجمة، كانت هذه الاخطاء، وفي ظل تلك الظروف، غير ممكنة التجنب (حـ2/ 436). ومع ذلك فكم لبت الترجمات من حاجات، وكم ملأت من ثغرات، وكم قدمت للعلماء من خدمات. اننا نملك الدليل على انها استعملت في الحال من قبل علماء كبار في الغرب- روجر بيكون والبرت الكبير، وفنسان ني بوفيه آخذين بعين الاعتبار، اننا لا نعد الا الكبار.
ويمكننا اخذ فكرة عن حجم هذه الاعمال والافكار الجديدة والهامة التي حملتها الترجمات، حين نتذكر ان جيرار القرموني مثلاً قد ترجم وحده اكثر من سبعين اثراً، وان ترجماته تؤلف موسوعة حقيقية للمعارف الانسانية التي تشمل كل فروعها (حـ2/ ص 347).
في الكتاب بعد هذا كله او قبله، تراجم للاطباء العرب، للذين اسهموا في تأليف كتب تتصل بهذا العلم العربي اسهاما ، تراجم تناولتهم جميعا من اول طبيب عربي هو الحارث بن كلدة، من العصر الجاهلي الى اطباء القرون الاخيرة من العصر المملوكي، تراجم ارخت لحياتهم واثارهم وكتبهم، مرتبة حسب العصور والقرون فجعل ذلك من الكتاب موسوعة علمية ضخمة عن الطب العربي: موضوعاته ورجاله، والمؤلفات التي خلفوها، وهذا الموضوع الهام، موضوع انتقال العلوم الاغريقية الى اللغة العربية والعلوم العربية الى اللغة اللاتينية.
والذي يؤسف له، ان يبقى هذا المؤلف الهام جداً بعيداً عن متناول القراء العرب الذين لا يتقنون الفرنسية وألا يطبع طوال قرن سوى مرتين، والا يترجم الى اللغة العربية حتى الان، على الرغم من وعود كثيرة اطلقها كثيرون بالقيام بهذه الترجمة، وعلى الرغم من ان كتباً اخرى أقل قيمة منه، وكتباً اخرى تتحامل على تراثنا قد ترجمت مع الأسف، الى اللغة العربية.
وانها لمناسبة نجدد فيها الدعوة الى تأليف لجنة ترجمة هذا الكتاب وطباعته في اقرب فرصة، ونأمل ان تتبنى ذلك المجامع العلمية العربية او اي مؤسسة تعنى بالترجمة.. وسيكون القارئ العربي سعيداً حين يجد بين يديه وباللغة العربية واحداً من اهم الكتب التي ارخت للطب العربي، ان لم يكن اهمها على الاطلاق.
* الكتاب
Histoire de la Médecine Arabe,
Lucien Leclerc,
E. Leroux, 1876
Paris
[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب