تاريخ الصهاينة اليهود وصناعة الإبادة: قراءة في مأساة غزة

تاريخ الصهاينة اليهود وصناعة الإبادة: قراءة في مأساة غزة

المسار النفسي–السياسي للمشروع الصهيوني حوّل جرح الاضطهاد التاريخي لليهود إلى دافع لبناء أمن حصري خاص باليهود الصهاينة، فانتقل من منطق البقاء إلى منطق إخضاع الآخر، وهو ما نراه اليوم في غزة حيث تماهى البقاء مع الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

في إطار تحليل البنية النفسية–السياسية للصهيونية بوصفها مشروعًا استعماريًا استيطانيًا نشأ من رحم الاضطهاد الأوروبي لليهود، تعكس مقولة الأديبة الأيرلندية، جوزفين هارت: كل من تعرّض لضرر عميق يصبح خطرًا، فالبقاء يدفعه لذلك هذا المسار؛ إذ حوّل جرح الاضطهاد التاريخي لليهود إلى دافع لبناء أمن حصري، فانتقل من منطق البقاء إلى منطق إخضاع الآخر، وهو ما نراه اليوم في غزة حيث تماهى البقاء مع الإبادة الجماعية للفلسطينيين.

ضمن تحليل البنية النفسية–السياسية للمشروع الصهيوني، والذي يتسم بكونه مشروعًا استعماريًا استيطانيًا متجذرًا في خبرة الاضطهاد الأوروبي لليهود، يمكن إسقاط مقولة جوزفين هارت . إذ تحوّل الإرث النفسي لهذا الاضطهاد إلى محفّز لبناء منظومة أمنية قائمة على الإقصاء والسيطرة، بحيث انتقل الخطاب الصهيوني من منطق البقاء إلى منطق الهيمنة، وهو ما يتجلى اليوم في السياسات والممارسات الموجَّهة ضد الفلسطينيين، وخصوصًا في غزة، حيث تتقاطع اعتبارات البقاء مع أنماط الإبادة الجماعية.

أنّ الصدمات العميقة، سواء كانت شخصية أو جماعية، يمكن أن تولّد قدرة على إيقاع الأذى، خصوصًا عندما تكون غاية البقاء على قيد الحياة هي الدافع الأسمى. وهي لا تُبرّر السلوك التدميري، لكنها تفسّر كيف يمكن أن تتحوّل الجراح — العاطفية أو التاريخية أو الثقافية — إلى أفعال خطيرة تجاه الآخرين.

السياق التاريخي لصدمة الحركة الصهيونية

سياق التجربة التاريخية لليهود اتسمت بقرون من معاداة السامية في أوروبا، والمذابح والتهجير القسري، والمحرقة النازية بوصفها كارثة إبادة جماعية، فتلك سمة الحضارة الغربية تجاه اليهود عبر تجربة حياتهم في الدول الأوربية. ولكن بعد المحرقة، صاغت الصهيونية وجود “إسرائيل” باعتبارها مشروع بقاء مطلق  ملاذًا آمنًا يمنع تكرار حالة الضعف. فتحوّل “واجب البقاء” إلى قضية وجودية، بحيث بات يبرّر اتخاذ إجراءات استثنائية لضمان أمن الدولة.

تحوّل غريزة البقاء إلى عدوان

وفقاً لمقولة هارت، يمكن أن يشوّه الخوف الناتج عن الصدمة الحدود الأخلاقية، عندما تكون الأولوية هي بقاء جماعة واحدة (القومية اليهودية الإثنية) على حساب وجود الآخرين. وقد لجأوا إلى منطق الاستعمار الاستيطاني الذي قامت على أساسه كل دول العالم الغربي في أمريكا وأستراليا باعتبار السكان الأصليين تهديدًا وجوديًا. فالذي يُشكل عليهم من دول الغرب لماذا كل هذا الإجرام بحق الفلسطينيين، يكون جواب الصهاينة بأن تاريخكم المعاصر قائم على تلك التجربة “الإجرامية”  التي تعتبرونها حضارية في تأسيس دول مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا وغيرها في العالم الجديد، وتفتخرون بها. ولهذا ربط الصهاينة مفهوم الأمان بالهيمنة العسكرية الدائمة والقهر العنصري والإبادة الجماعية.

ومن هذا المنظور، فإنّ التاريخ الجريح لليهود وهو جرح حقيقي ناتج عن الاضطهاد — قد تحوّل إلى خطر حينما صيغ البقاء على أنه ضمان أمن مطلق لليهود ولو عبر إخضاع الآخرين.

غزة والديناميكية الإباديّة

فشعب غزة وتجربة “الإبادة الجماعية” اليوم تجسّد هذا النمط من “البقاء الخطر“. وبمساعدة الإعلام الغربي والثقافي ، جرى تصوير الفلسطينيين بما فيهم المدنيون كتهديد ديموغرافي أو أمني، فسنح للصهاينة اليهود بتطبيق سياسات الحصار والإغلاق والعمليات العسكرية المفرطة من خلال الحملة الإعلامية التي قامت بنزع الإنسانية عن الفلسطينيين بوصفه آلية دفاع نفسية. وفي هذا الإطار، فإنّ صدمة التاريخ اليهودي لا تُبرّر، لكنها قد تُفسّر كيف أنّ المشروع السياسي-العسكري الصهيوني يمكن أن يشرعن العنف المفرط ضد الفلسطينيين. وأرى ذلك واضحاً بأن الضحية قد يصبح هو الجلاد أو أن يبرر بصورة خفية تلك الأعمال الإجرامية حتى في شخصية السناتور اليهودي برني ساندر، والذي ما برح يُعلن معارضته العلنية لسياسة نتنياهو، ولكنه يمتنع بصورة قاطعة عن وصف القتل المتعمد لشعب غزة من قبل الإسرائيليين بأنه “إبادة جماعية” لأنه يحمل في وعيه الباطن تلك الحالة النفسية التي تصفها الأديبة بأن الضحية هو الجلاد.

إن مقولة جوزفين هارت في روايتها الضرر (Damage) كل من تعرّض لضرر عميق يصبح خطرًا، فالبقاء يدفعه لذلك». هي ليست مجرّد تعبير أدبي، بل تؤكّدها أبحاث علم النفس وعلم الأعصاب والأنثروبولوجيا السياسية. فقد أثبتت الدراسات أن الصدمات العنيفة، خاصة إذا كانت ممتدة أو متكرّرة، تعيد تشكيل الدماغ بحيث يصبح أكثر يقظة للخطر، وأقل قدرة على ضبط الانفعالات، وأكثر ميلاً إلى ردود الفعل الهجومية عند الشعور بالتهديد.

هذه الاضطرابات النفسية ما بعد الصدمة المركّب، تظهر أنماط من عدم الثقة من قبل الآخرين، وتدفع نحو العدوانية الإجرامية، فتنحصر رؤيتهم للعالم في إطار “نحن” مقابل “هم”الذين يعدّونهم هم العدو، بحيث يُبرَّر الإضرار بالآخر على أنه شرط للبقاء. وتأثير هذه الصدمة تكون عابرة للأجيال، فقد وثّقتها دراسات على أبناء وأحفاد الناجين من المحرقة، حيث رُصد ارتفاع في مؤشرات التوتر والاستعداد النفسي لرؤية التهديد في كل مكان، ما يغذّي سياسات أمنية صفرية التسامح.

على مستوى الجماعات، يشير علم النفس الاجتماعي إلى أن الصدمة الجمعية يمكن أن تتحوّل إلى ما يسميه فولكان بـ”الصدمة المختارة”، أي جرح تاريخي يتم استحضاره وتوظيفه سياسيًا لتبرير العنف ضد الخارج. وعندما تُدمج هذه الذاكرة الجَمعية مع آليات فك الارتباط الأخلاقي وعندها يصبح من السهل إعادة صياغة الأفعال المدمّرة على أنها دفاع شرعي عن الذات.

كما أوضح ألبرت باندورا، فإن المجتمعات أو الأفراد المتضررين يمكن أن يبرروا أعمالهم العنيفة باعتبارها وسيلة للبقاء أو الدفاع، حتى لو كانت هذه الأعمال غير أخلاقية أو مدمرة للآخرين. في بعض الحالات، يتحول الشعور التاريخي بالاضطهاد إلى رغبة في السيطرة أو منع تكرار التجربة، ما يؤدي إلى سياسات قمعية أو عدوانية. فيتحول دور الضحية إلى دور الجلاد

في الحالة الصهيونية، تحوّل الاضطهاد التاريخي لليهود من منطق البقاء إلى منطق السيطرة والإخضاع، وهو ما نراه اليوم في غزة؛ حيث جُعل أمن الجماعة اليهودية مبرّرًا لإبادة جماعة أخرى. هكذا تلتقي البصيرة الأدبية لهارت مع الأدلة العلمية لتفسير كيف يمكن أن تتحوّل الجروح التاريخية العميقة إلى مصدر خطر على الآخرين، إذا أُعيد إنتاجها ضمن مشروع سياسي–عسكري يرى في البقاء قضية صفرية.

الخلاصة

وفي إطار توصيف الأمم المتحدة للصهيونية بوصفها شكلاً من أشكال العنصرية، هو وصف دقيق للدولة الصهيونية، فهي دولة نشأت من تجربة الجرائم الأوروبية بحقهم، مما يدفعهم لسلوك لا تحده قيم أخلاقية أو معايير إنسانية، وتاريخهم يشهد بذلك على مدى العقود الثماني الماضية. فمفهوم الأمن هو أمن حصري لليهود، تحوّل ذلك الجرح إلى قدرة على إيقاع الأذى المنهجي. وفي غزة اليوم، انهارت الحدود بين البقاء وإبادة الآخر — لتصبح ملاحظة هارت ذات صلة مأساوية بالواقع.

أحدث المقالات

أحدث المقالات