ـ يقول ابن خلدون: (إن التاريخ فن).. فيما يؤكد العلماء الغربيون: (إن الفن يعني العلم).. أما ماديو القرن التاسع عشر فيقولون: (يوجد علم واحد هو علم التاريخ.. وينقسم إلى تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان).. بينما المعارضون.. قالوا: (إن التاريخ مجرد كذبة).. وينسب الى نابليون بونابرت قوله: (بأن التاريخ هو مجموعة من الأكاذيب التي يجري الاتفاق عليها).. ويعززون آراؤهم بالعديد من الأمثلة التاريخية.. منها: قالوا للإمبراطور نابليون بونابرت: إن الجنرال …… اغتيل.. فسأل: ماذا قال؟ قالوا (انه كان يتأوه ألما.. ومات ولم ينطق كلمة قط).. قال نابليون: سجلوا انه هتف بحياة الإمبراطور ثلاث مرات قبل أن يلفظ أنفاسه).. وهكذا سجل التاريخ بأن الجنرال…… هتف بحياة الإمبراطور ثلاث مرات…… وآخرون قالوا: (إن التاريخ يدونه القوي أو المنتصر أو كتبة السلطان).. مثال مجسد من محكمة نورنبرغ التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.. قال المدعي العام لقائد الطيران الألماني المهزوم المارشال كورنك: (سيلعنكً التاريخ للأبد).. فردً كورنك: (هذا لأنكم من ستكتبونه.. ولو كنا انتصرنا لكتبناه نحن).
ـ وعلى مر العصور كان التاريخ السياسي يكتب من قبل أصحاب السلطة أو المنتصرين.. أما التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والثقافي فلم يحظً باهتمام هؤلاء.. مع انه لا يعدو أن يكون إلا انعكاساً لسياستهم تلك.. ومنذ العصور التاريخية القديمة وصلت إلينا مسلات حجرية وألواح طينية دَونً عليها الحكام والقادة العسكريون انتصاراتهم وانجازاتهم وفتوحاتهم.. لكن لا أحد منهم كتبً شيئاً عن هزائمهم وانحداراتهم.
ـ فلو رجعنا لكتب تاريخنا على سبيل المثال لا الحصر.. لوجدنا العجائب والغرائب والتناقضات.. بل بعض هذه التناقضات مكشوفة ومفضوحة.. ولا يمكننا رفض بعضها.. ونبقي بعضها.. الأنكى من ذلك نجد كتب التاريخ الخاصة بالسلطان فيها تناقضات.. مثلما نجد الكتب الخاصة بالمعارضة فيها تناقض فيما بينها.
ـ أما في تاريخنا الحديث فحدث بلا حرج.. فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك ثمانية روايات عن مصرع نوري السعيد عصر يوم 15 تموز 1958.. جميعها تخالف الحقيقة والواقعة.. حتى البيان الرسمي الحكومي الذي أعلن من راديو بغداد بعد مصرعه لا يمثل الحقيقة البتة!! ومثلها أحداث إعدام عبد الكريم قاسم ورفاقه.. ولا أحد يستطيع أن يجزم هل إن أحمد حسن البكر مات موتتاً طبيعية أم مات مسموماً؟.. كذلك مقتل الكثير من القادة في كل العصور.. وحتى الإنجازات وغيرها تجدها متناقضة.
أما الرسائل والأطاريح الأكاديمية الخاصة بالتاريخ.. فهناك ما لا يصدقه العقل والمنطق والعلم.. فقد يكون المجرم في بعضها نازكاً.. والعكس صحيح.. بالمقبل هناك رسائل علمية تثبت بواقعية الحقائق التاريخية من لدن مؤرخين أفذاذ.
ـ لكن ذلك لا يعفي الباحثون والمؤرخون من التدقيق ما بين السطور.. ونأخذ منه الفائدةَ والعِظة.. فتاريخنا الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر.. حافلٌ وزاخر.. وقد ضَرَب المسلمون بسهم وافر في الدِّين.. والأدب.. والطِّب.. والعلوم المفيدة الأُخرى.
ـ ولنا مِن الكلمات المأثورة.. والقصص المشهورة.. والحِكم المروية ما يُطرب ويُعجب.. وفي السياسة والحرب من الإرشادات والتنبُّه.. وضبط الأسرار.. والدقة في التعبير.. والتخلص من المآزق.. بأساليبَ رائعة.. وفطنة نادرة.
ومَن يتأمَّل ما جرى على العَرَب في عصورهم المتأخِّرة.. يُدرك أنَّ من أسباب ضعفهم وهزيمتهم.. إعراضَهم عن دراسة تاريخهم.. وعدمَ أخْذهم العبرةَ والعِظة منه.
إعادة كتابة التاريخ:
ـ شعرً صدام بأهمية التاريخ لدعم نظامه.. فأعيدت كتابته وفقا لتوجهاته.. وشهدً عهده أكبر عمليات تزوير وتزييف للتاريخ.. وجند صدام كل الكتاب والباحثين والمؤرخين.. سواء بالترغيب أم بالترهيب.. للكتابة كما يحلو له.. ومن يرفض أو يتقاعس فمصيره الإذلال والمهانة والتشهير حتى بشرفه.. ومن ثم تصفيته بطريقة ما.
ـ يقول الأستاذ المؤرخ حسين أمين رئيس لجنة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي.. إن صدام طلب علانيةً منه التخفيف والاختصار في موضوعة (واقعة كربلاء ومقتل الحسين).. قلتُ كيف؟. هذا هو التاريخ ؟ لكن صدام حاول بشتى الطرق.. وأفلح صدام فيما بعد من رفع الواقعة من الكتب المدرسية.
ـ وهناك عشرات الأمثلة راح ضحيتها كتاب ومؤرخون ومبدعون عراقيون شرفاء.. فعلى سبيل المثال لا الحصر استخدم صدام كل وسائل الترغيب مع الكاتب المبدع عزيز السيد جاسم.. وأخيراً كان مصيره الإعدام ممن كتب له أفضل الكتب عن شخصيته.. فقد اغتيل عزيز السيد جاسم بأمرٍ من صدام.
تجربتي في كتابة التاريخ:
ـ عندما نشرتُ (أنا كاتب هذه المقالة) رسالتي للماجستير.. (دور حزب البعث في العراق حتى 14 تموز 1958).. فقد نفذ من المكتبات 10 آلاف نسخة خلال ثلاثة شهور.. فلم يكن للبعث تاريخ مكتوب أو حتى موثق.. فأصبح هذا الكتاب منهجاً للحزب.. وبعد مدة قصيرة منع كتابي هذا بأمر من أمانة سر القطر لحزب البعث مثبتينً (37 ملاحظة.. بعضها خطيرة).. وكانت دار النشر قد طبعت هذه الرسالة الطبعة الثانية في بيروت أيضا دون علمها بالمنعً.. فتم حجز الطبعة الثانية من قبل الدار الوطنية للنشر والتوزيع في بغداد.. وتم إحراقها بأمر من عبد الجبار محسن (وكيل وزارة الثقافة والإعلام).. وأنا متأكد إن عبد الجبار محسن ليس لديه القوة ليأمر بحرق كتاب.. بالتأكيد جاءت أوامر عليا..
ـ بعد سنة حصل هذا المسؤول على شهادة الماجستير بفكر البعث.. من جامعة البكر للدفاع الوطني.. تبين أن الفصلين الأولين لرسالته هما نص الفصلين الأولين من كتابي الذي أحرق.. دون أي تغيير حتى الأخطاء المطبعية لم يصححها!! (ملاحظة هذا المسؤول لم يكن حاصلاً على شهادة المتوسطة).
ـ وعندما نشرتُ كتابيً: (عبد الكريم قاسم.. بجزئية.. الأول: (عبد الكريم قاسم الحقيقة).. والثاني: (محاولات القضاء على عبد الكريم قاسم) أوائل العام 1990.. لم أسلم من الهجوم وشتى الاتهامات.. من بعض أزلام النظام.. تحت ذرائع شتى.. والسبب الحقيقي هو علمية وموضوعية كتابي هذا..
ـ إن سقوط النظام السابق كشف إلينا زيف الحقائق والإحداث التي سوقها النظام آنذاك.. فعلى سبيل المثال كشفت محاكمات رموز النظام السابق كذب النظام عما روجه وكتبه عن أحداث (الحرب العراقية ـ الإيرانية.. وقضية الدجيل.. والأنفال.. وتصفية ومطاردة وإعدام رجال الدين من السنة والشيعة.. وعمليات تهجير الشيعة المنظمة.. واحتلال الكويت.. والانتفاضة الشعبانية 1991).. وغيرها مما طرحه بأسلوب رخيص ومزيف.
لكن الإجرام في تاريخ العراق ما نعيشه منذ 2003.. وكيف يزيف من قبل الأحزاب السياسية الإسلامية وغيرها.. وكتابة رسائل وأطاريح.. الكثير منها ليس تزييف التاريخ فحسب.. بل هي تافهة.. ويحصل أصحابها على درجة جيد جداً.. أو امتياز.. خشية الأساتذة من التهديد والخطف وغيرها.
ـ في أواخر العام 2018 صدر ليً أضخم كتاب موسوعي يتناول 70 شخصية لها تأثير في تاريخ العراق المعاصر.. سواء كان هذا التأثير سلباً أو إيجاباً.. معتمداً على أدق تفاصيل سيرة هؤلاء الرجال.. وعلى أضابيرهم الشخصية.. وسلوكهم.. وقراراتهم.. وخطاباتهم.. ومذكراتهم.. وهو بعنوان: (رجالات العراق الجمهوري.. من عبد الكريم قاسم الى صدام حسين).. وبالتأكيد سيكون مثار جدل كبير بين معارض ومؤيد ومشكك.. لكن ستكون أكثر الآراء لأناس ليسوا مؤرخين.. بل حتى لبعض من لم يعش تلك الفترات.. فقد عشتها أنا في خضمها ومعظم تفاصيلها.. والتقيتُ معظم رجالاتها.. وفعلاً طلع علينا من ليس مؤرخاً.. يتحدث عن سرقة من كتاباتها الصحفية.. وكأنما التاريخ هو الذي صنعه.
إننا اليوم أمام أخطر مرحلة من تزييف تاريخنا.. والأخطر هناك من يدعو لدراسة إمكانية إعادة كتابة تاريخ المرحلة السابقة.. ووضع أسس علمية في كتابة التاريخ.. فأية أسس علمية توضع.. والدولة والشارع يحكمه اليوم جهلة ومتخلفون وطائفيون.. بل قتلة مع سبق الإصرار.