يروي لنا تاريخ بلدنا ان ساحته السياسية لم تخلُ يوما من اضطرابات وقلاقل، كان جلها نتيجة أطماع في اعتلاء كرسي السلطة، بدءا من العصر الأموي فالعباسي، ثم عهد الاحتلال العثماني، وآخرها التغيرات المتتالية في نوع الحكم والشخوص والعائلات الحاكمة خلال القرن العشرين، والذي تنقلت فيه السلطة بين الملكية والجمهورية. والى يومنا هذا مازالت الساحة زاخرة بكم هائل من الصراعات والخلافات. وقطعا هناك فروقات جمة بين حكومات الأمس البعيد قبل قرون، وحكومات القرن الماضي والحكومات المعاصرة في القرن الحادي والعشرين. ففي الخلافة الاموية كانت الحكومة تتكون من الخليفة وحجّابه والوزراء والقضاة والمستشارين وقادة العسس (الشَرطة). وكانت جل مشاكلهم من تدخلات دول الجوار، اما المشاكل الداخلية فكما روى لنا التاريخ أيضا، كانت تـُحل بجلسات بين شخصيات ذوي مكانة اجتماعية مع كبارالدولة، وكان البلد سائرا في ركب التطور وان كان سيرا سلحفاتيا وئيدا.
اليوم وقد دخلت التكنولوجيا والعلم جميع مفاصل الحياة، بما يسهِّل ويعجِّل تقدم البلدان التي تضع مصالح شعوبهم من أولويات جداول أعمالها، ماذا يحدث في بلد هو مهد الحضارات، البلد الذي شـُرّعت فيه أول القوانين، وكـُتِب فيه أول حرف، وغير ذلك من الإختراعات التي كان سبّاقا بها. ماذا لو قارن أي مُنظـِّر بين مايملكه العراق من رصيد تاريخي في العلوم والمعارف، وبين ما هو عليه اليوم نسبة الى باقي الامم. وهو الذي يقول فيه الشاعر:
لا ينزل المجد إلا في منازلنا
كالنوم ليس له مأوى سوى المقل
أظن أن عملية حسابية بسيطة للغاية في النسبة والتناسب، توضح الفرق بين العراق في التقدم التكنولوجي والعلمي والثقافي وبين أمم وُلِدت بعده بقرون. فهو مازال يسير بذات السير السلحفاتي على الرغم من الفارق الزمني والطفرات العلمية والتكنولوجية التي استحدثت في العالم. فقد ملأ أجدادنا المكتبات بأبحاثهم واكتشافاتهم واختراعاتهم في العلوم كافة، واقترفت الحكومات المتتالية خطأ كبيرا في التعامل مع هذا الكم الهائل من الموسوعات، إذ يظن حكام العراق –السابقون والحاليون- ان الإرث الحضاري يحفظ في الأدراج والدواليب، وعدّوه كنزا ضموه كملكية خاصة مع التيجان والأموال والقصور والضيعات، ليكون رصيدا يجير لحسابهم وحساب عوائلهم وأحفادهم وليس لأبناء هذا البلد. وبذا نهضت شعوب الأمم من حولنا وتنعمت بالرفاهية والحداثة في وسائل العيش، فيما حكام وادي الرافدين -لاسيما الحاليون- مافتئوا يغذون الجدالات والصراعات والخلافات والاختلافات والمناكفات والمماطلات والتهديدات والوعيدات. الأمر الذي خلف سلبيات وأفرز ترديات أسفرت عن الانفجارات والاغتيالات والعبوات اللاصقات والكاتمات الساكتات والاختراقات والخيانات. ناهيك عن الاختلاسات والسرقات والتزويرات والتعيينات والشركات المخفيات والمقاولات الوهميات والخزعبلات اللامنتهيات. وبات ساسة وأرباب كتل يرون ان الساحة لاتصلح إلا للبهلوانيات، فظهرت -كنتيجة حتمية- البارزانيات والمطلگيات والهاشميات والعلاويات والليثيات والعلوانيات والحاتميات والضاريات. تاركين حبل البنى التحتية للبلد على الغارب، فطفح كيل التراكمات من الإهمالات في مجالات الكهربائيات والمائيات والتموينيات والسكنيات، والى آخره من تاءات التأنيث التي لم تعد ساكنة في العراق الـ -جديد- بل هي تارة (مرفوعة) تاركة المواطن محروما منها، وتارة (مفتوحة) وفاتحة أبواب البطالة والفقر والمرض والتخلف، وتارة (مجرورة) تجر معها أذيال الفشل والخيبة، وهكذا ضاع مستقبل المواطن بين ماضي حضارته وحاضر حكامه وساسته.