” وفسر الماء بعد الجهد بالماء ” تقال لمن لايؤهله خزينه المعرفي أو قدراته العقلية على الغوص في عمق الأشياء لاكتشاف ماهيتها ، فيكتفي بإيراد ما هو معروف منها ومن ثم تكرار الشائع في القول ، ليزعم إنه جاء بجديد ، أو استند إلى البديهي لأكتشاف الجديد .
ذلك مايؤكد إن الأفواه التي تثرثر ، هي ليست العقول التي تفكر بالضرورة ،فالثرثرة تعني الكلام المجرّد من الفكرة والمحروم من الجدوى الذي لايصمت قائله ولايستفيد منه سامعه .
المراهقة بيولوجيا لايمكن أن تمتد إلى سنّ متأخرة في الإنسان ، إذ إنها تنتهي علمياً عند الحادية والعشرين من العمر ، ليدخل بعدها الإنسان في مرحلة أخرى ليست مقطوعة تماماً عمّا سبقها ،لكنها بمثابة انتقال طبيعي إلى شؤون مختلفة في الحياة ، إنها مرحلة التحصيل الأعلى الذي يتطلب تركيزاً ذهنياً أكثر دّقة وتوازناً في الحكم على الأمور ، وبالتالي فالوصف ” بالمراهقة ” على رجل بلغ الأربعين مثلاً ، هو إسقاط رمزي على من قام بأفعال متهورة أو تلفّظ بأقوال متسرعة يُفهم منها إنها لم تخضع للتفكير قبل القيام بها أو إطلاقها ،وهو مايظهر عند من هم في مقتبل الشباب حيث الحيوية في الجسد والتوثب في الذهن والسرعة في ردود الأفعال ، وبالتالي فالمراهقة ليس وصفاً نطلقه على من اختلف معنا في الرأي أو تفاوت معنا في التوجه ، وإلا لوقعنا بذات الوصف الذي ننتقده عند الآخرين .
المراهقة قد يرافقها خطأ قابل للإصلاح ، لكنها بداية النضج ، وبالتالي لاتشكلّ بذاتها خللاً بنيوياً يجعل من صاحبه دائم الاضطراب في رؤيته لمايحدث حوله ،ومن ثم تأتي أفعله وأحكامه متخبّطة متعثرة كثمل يسير على جليد ، ما أن يقوم من خطوة حتى يتعثر بأخرى .
ذلك حال مؤيدي الدكتاتورية والمدافعين عنها باعتبار ها ضرورة تفرضها القدرة على إحلال الأمن ورفض الهدوء ، لكنهم يتجاهلون إن الدكتاتورية هي أسوأ أنواع الإحتلال وأكثرها شراسة وقسوة، فالإحتلال الأجنبي يسلب أرضك ويهدر كرامتك ويصادر حريتك، لكن يبقى قرارك في مقاومته قائماً، فإن فعلت وقاومت، تصبح وطنياً بنظر شعبك وتجد الكثير ممن هم على استعداد لتشجيعك أو مساعدتك وربما التطوع لنقل رسائلك وتقديم الدعم المادي والمعنوي لك ولأسرتك وما شابه ، وإن لم تفعل واكتفيتَ بالمقاومة السلبية أو السلمية أو اتخذت جانب الحياد مثلاً، فإنك قد تنجو بجلدك وتحافظ على رزقك وحياتك وأمنك الشخصي ، وإن تعرضت للموت بيد الإحتلال لأي سبب ، فأنت شهيد بطل .
أما الدكتاتورية، فتصادر حريتك وتعبث بأمنك – الحياتي والاجتماعي- وتقطع رزقك وتحتلّ أرضك وتستبيح عقلك وتقلب أيامك إلى كابوس حالك، ثم لا ترضى منك سوى أن تكون في خدمتها دوماً ومن دون تقاعس أو تردد أو تذمّر ، وإلا تلاقي سوء المصير، وفوق ذلك فمجرد مخالفتك للدكتاتور بكلمة أو همسة أو تكشيرة، تصبح خائناً وتجرّد من الوطن والوطنية ويتنكر لك أقرب الناس إليك ،بل وقد يتطوعون للإبلاغ عنك مهوّلين بخطرك على الوطن والشعب والقائد الذي يتعرض للمؤامرات – الخ .
وفي حين يستقيل رؤوساء دول كبرى منتخبين ديمقراطياً، لمجرد اتهامهم بأن مساعديهم وضعوا أجهزة تنصت في مقر حزب منافس – “فضيحة ووترغيت- أو يستقيل رئيس دولة أخرى لمجرد الإشارة في صحيفة ،إلى تلقيه مساعدة لكتابة رسالته للدكتوراه قبل سنوات طويلة ، يُقدم الدكتاتور عندنا على تدمير المدن وقتل الآلاف من شعبه باستخدام أسلحة وجيوش يفترض أن جهزت من ثروات الشعب لحماية أرضه وحفظ سيادته ، وبكلّ مايمثل من جرائم فظيعة لايتقبلها العقل الإنساني مهما بلغت الذرائع ،ومع ذلك يبقى متمسكاً بالسلطة بنهم مخيف ، ثم يجد من يدافع عنه .
على هذه الاعتبارات ، تقيم اعتباراتك بأن الإنسان السوي الذي يمتلك حدّاً أدنى من الأخلاق والقيم والضمير والعقل والإحساس، لابد أن يكون مناهضاً للدكتاتورية أيّاً كان شكلها ونوعها والغطاء الذي تتدثر به واليافطات التي ترفعها ، كما يناهض الاحتلال الأجنبي ، وبالتالي فلا يمكن أن تكون هناك مبررات لأحد أن يساند دكتاتوراً بقناعته الخاصّة ومن دون إكراه – خاصة تلك النماذج التي نعرفها – فيتطوع للدفاع عن الدكتاتور بحماسة تثير الإستغراب.
مناصرو الدكتاتورية لابد إنهم يعانون من أنفصام في الشخصية يظهره ضعف في النفوس واختلال في القيم وشروخ في الإنسانية وانتهازية في المواقف وضبابية في الرؤية وتشوّش في العقول ، وبالتالي فهم الوجه الآخر لعملة الإرهاب ومايفعله من فظائع ، ذلك ما يؤكده التناقض بين تأييد دكتاتور حدّ الغثيان، والوقوف ضد آخر حدّ الهوس ، ثم المَيل المَرَضي لإلغاء الآخر بكلّ سبيل.
لايمكن لعقل حتى فيمن هم دون المراهقة ، أن يجادل في دكتاتورية نظام الأسد ، والإ كان كلامه يؤكد عاهة في بنائه النفسي والسلوكي على السواء ، وقد يُفهم من السياسيين أن يتجاوزوا القيم والاعتبارات الإنسانية استجابة لمصالحهم أو حساباتهم الذاتية، لكنها لن تكون مفهومة إذا أتت مما يفترض إنه مثقف حرّ يمارس الكتابة بضمير حي ورؤية سليمة .
الأحداث السورية بدأت قبل أعوام حينما وقعّت مجموعة من المثقفين والمفكرين والحقوقيين السوريين المعروفين ، ماسمي يومها ببيان دمشق – منهم ميشال كيلو وعلي فرزات ومأمون البني وآخرين – لم يكن أي من هؤلاء أرهابياً أو إسلامياً متشدداً ، ولم يطالبوا بإسقاط النظام أو القيام بثورة ، بل بالإصلاح ومن أهم بنوده:إلغاء حالة الطوارئ والمادة الثامنة من الدستور التي تنصّ على احتكار البعث للسلطة ، وسنّ قانون جديد للأحزاب وحرية الصحافة ، لكنهم اعتقلوا وتعرض بعضهم للتعذيب فيما شرد البعض الآخر .
بعدها بسنوات قليلة، قام عدد من الناشطين – بينهم مراهقة اسمها فرح على ما أذكر – بمحاولة الاعتصام أمام مبنى وزارة الداخلية للمطالبة بالإفراج عن بعض المعتقلين ، فاعتقلوا جميعاً .
مايعرفه السوريون ، إن قرى محافظة درعا ولأنها مواجهة للجولان المحتل ،قام النظام بتسليح بعض أبنائها لمواجهة مايمكن أن يقع من عدوان إسرائيلي ، وقد أتيح لي في سنوات ماضية أن ازور بعض تلك القرى كجاسم والمزيريب والشجرة بدعوة من بعض الأصدقاء ورأيت بعيني قطع السلاح الموزعة هناك – كان بعضها بنادق تشيكية نصف آلية استبدلت لاحقاً بالكلاشنكوف – وعلى ذلك فما الذي يمنع النظام من سحب بعضها وجمعها في أمكنة معينة كجزء من فبركة إعلامية لتبرير استخدامه القوة في قمع المتظاهرين ؟ أليس في ذلك احتمالاً وارداً ؟
في درعا تحديداً ، كانت الأحداث قد بدأت بقيام مجموعة من الأطفال واليافعين بالكتابة على الجدران شعارات من نوع ” الشعب يريد إسقاط النظام ” تقليداً لما شاهدوه في تونس ومصر ، لكن هؤلاء اليافعين اعتقلوا وعذبوا لمعرفة من دفعهم إلى ذلك ، وكانت صور الطفل القتيل حمزة الخطيب تقشعر لها الأبدان ، يومها قام النظام بنقل بعض مسؤولي الأمن إلى محافظات أخرى لعله يهدىء من غضب الأهالي ، تلك هي البداية التي يعرفها الجميع ، ولو تركت المظاهرات السلمية تستمر دون قمع ، لدحضت كافة الادعاءات بأن النظام يحظى بالتأييد ، لأنه كان يخشى من امتدادها وصولاً لإسقاطه كما حصل في تونس ومصر .
أما عن المقاومة والممانعة ، فالجولان محتل منذ عام 1967 ينعم فيه الإسرائيليون بالهدوء ، ولم يُسمع عن النظام إنه رعى حركة مقاومة في ذلك الجزء المحتل من سوريا ، بل لم يسمح حتى للفصائل الفلسطينية أن تتحرك من تلك الجبهة ، ولم يمنحها سوى معسكرات للتدريب ومقرات للإدارة ،لكنه ساهم في إيقاع الشقاق بينها وضربها في لبنان واعتقل المئات من أفراد بعض التنظيمات غير الموالية له ، فقبع الكثيرون سنوات طويلة في المعتقلات السورية، كما قتلت بعض القيادات وطورد أو طرد بعضها الآخر – قتل اللواء سعد صايل قائد القوات المشتركة للثورة الفلسطينية على مقربة من احد الحواجز السورية في منطقة بعلبك ، فيما طرد أبو عمار من سوريا وطورد الكثير من القيادات – سلطان أبو العينين – منير المقدح – موسى العراقي – هواري – وسواهم .
وقع ذلك على وجه الخصوص بعد الهزيمة أمام الجيش الإسرائيلي في 1982، الذي اخرج المقاتلين الفسطينيين والقوات السورية من مناطق صيدا وبيروت وسواها ، وبقيت متواجدة في البقاع بناء على ما عرف باتفاقية فيليب حبيب ،التي ألزمت السوريين بمنع أية حركة مقاومة ضد الإسرائيليين من البقاع ، وعندما ظهر حزب الله في أواخر ذلك العام بعد انشقاق عناصر من حركة أمل ودعم من الحرس الثوري الإيراني ، وبدأوا مقاومتهم ضد الاحتلال ، كانوا ينقلون أسلحتهم عبر الأودية والجبال لتوصيلها إلى مقاتليهم في قرى البقاع الأوسط ( مشغرة – زلايا – سحمر – يحمر) كي يتجنبوا المرور من حواجز المخابرات والجيش السوريين الموجودة في كامد اللوز وجب جنين وبيادر العدس وسواها .
كانت الهزيمة المزدوجة للمقاومة الفلسطينية والجيش السوري عام 1982 ، قد دفنت شعار التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل الذي طرحه الأسد الأب ، وبالتالي جعل سوريا مكشوفة لاتملك من الأوراق مايمكن استخدامه .
لكن بعد أن ظهرت مقاومة من نوع جديد فاعلة عسكرياً ومنضبطة تنظيمياً وقادرة على التعبئة والحشد الجماهيري العقائدي وهي تتحرك في أرضها وبين حاضنتها الاجتماعية ، ومدعومة من دولة إقليمية كبرى ترتبط معها بعقائد دينية إضافة إلى القناعات السياسية ، لذا حسبها السوريون جيدا .
تبنيهم لحزب الله التي كانت فعاليته وموقعه بتصاعد مستمر ، سيكسب السوريين ورقة قوية تعيد لهم بعض مافقدوه من نقاط ارتكاز وتمدد في لبنان ، ومع الدعم الإيراني مالياً واقتصادياً واستخدام ورقة حماس التي بدأت بالظهور في الضفة الغربية وغزة ، ولأن ذلك ، لا يكلف النظام السوري سوى الإعلام والمواقف السياسية وبعض المكاتب لحماس وتمرير السلاح القادم من إيران لحزب الله ، في مقابل فوائد كثيرة يحصل عليها النظام ، لذا لاغرابة أن يكتسب تلك الصفة ” المقاومة والممانعة ” التي رأينا فعلها على أجساد العراقيين ، والتي جعلت من بعضهم يرى أنها كافية لإعطاء النظام شرعية في قتل آلاف السوريين وتدمير مدنهم وقراهم ، ومسامحته على ما ارتكب بحقّ العراقيين من جرائم ” لأن الظروف تغيرت ” بدعم أمريكي قطري لمعارضي النظام .
أما الإصلاحات التي تحدث عنها النظام، فكانت أشبه بمن يطعم قطعة لحم من ثور مسروق ، لصاحبه الذي سرق منه ، ثم يحمل السارق المسروق فضلاً ، أو كلام ذلك ” المسؤول” العراقي الذي يمتدح حكومة المالكي لأنها أطلقت سراح من قضى سنوات في السجن بعد أن ثبتت برأته ويعتبر ذلك ما يسجل لصالح المالكي ، ذلك مايذّكر بالقاضي الذي يحكم بإعدام كل من يتقدم أمامه مبرراً بالقول : إن كان بريئاً يدخل الجنة ، وإن كان مجرماً نال جزاءه .
إن مايعنينا كعراقيين ، أن تكون الأولوية للمنطق والعقل منهجاً وسلوكاً ، على حساب الهستيريا والردح ، لذا نرجو أن يُترك العمل بذلك الاعتقاد البائس الذي يعتبر أن سكوت أحدنا يعني تراجعاً وهزيمة ، لذا يبقى أحدنا مستمراً بالثرثرة حتى لو كشفت مزيداً من التخبّط ، وماكتبته هنا لايمثل رداً على أحد، لكنه كشف لبعض الوقائع كي لايُخدع أحد بحقيقة هذا النظام أو غيره من الأنظمة الدكتاتورية ، أما عن الهدي / فالله يهدي من يشاء ولاتقتصر هدايته سبحانه ، على من يدّعون التحدث بإسمه .
ذلك ما كنت أعتقده ، ومازلت آمن به ، لكننا على مايبدو نسير في طريق بدأت الدكتاتورية فيه تضيق بالكلمة الحرّة وربما تحاول منعها بأي سبيل .
التغيير الذي حدث في العراق من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ،وإن جاء دامياً واستثنائياً ، إلا انه زرع في نفوسنا الأمل بحياة أفضل نستطيع فيها أن نقول مانؤمن به بحرية ، بعد إن تشردنا طويلاً في صقيع الغربة حاملين دفء العراق بين حنايانا لعلنا نعيش يوماً بين حناياه ، لكننا على مايبدو – وهذه اللكن تبرز كموسى في الحنجرة –لابد أن نستمر بدفع الثمن ،وليتنا نحن وحسب ،بل أبرياء لاذنب لهم ولاعلاقة بأي شيء سوى ماكُتب لهم أن يكونوا من أهلنا وأقربائنا .
بعد يومين فقط مما نشرته في موقعكم الكريم ( نصيحة مفتوحة إلى السيد المالكي – تكلم بدراية أو أصمت بحكمة ) وماتضمنته تلك المقالة وغيرها ،خُطف إبن أخي من أمام منزله الكائن في حي الرشاد التابعة لمنطقة العبيدي في بغداد الجديدة ، من قبل مسلحين مجهولين وفي مكان لايبعد كثيرا عن السيطرات المنتشرة هناك ، التي لم تحرك ساكناً ولم تهتم بالموضوع رغم إبلاغها بالحادث .
لقد تم الاختطاف يوم الأحد 10/3/2013 ، أي في اليوم الأول من الدوام الرسمي ، فيما نشرت المقالة المذكورة في موقع كتابات يوم الجمعة 8/3/2013،وقد تم إبلاغ مخفر الرشاد في اليوم ذاته ، فأجلّها إلى اليوم التالي ، ثم إلى يوم آخر ،ولم يسجلّ البلاغ إلا يوم الثلاثاء ، فهل هي مصادفة أن يخطف عامل برىء وفقير الحال في مثل هذا التوقيت بالذات وتهمل قضيته من قبل القوات الأمنية المنتشرة بكثافة في المنطقة ؟ أم رسالة يراد من خلالها إبلاغي بالصمت وإلا ؟ ذلك ماسوف تكشفه الأيام ، ولعل الأيام تكشف إننا مخطئون ،وإن حكّامنا وأحزابنا النافذة ، يختلفون عن النظام السابق بحزبه الواحد وقائده الأوحد ، في انهم لايضيقون بالوطنيين من أصحاب الرأي الحرّ ، هذا مانتمناه على الأقل ، لكن ماذا لو تبين العكس؟ هل سنتبع هادي المهدي مثلاً ؟ .