23 ديسمبر، 2024 4:13 م

تأويل النص القرآني في الخطاب الفلسفي العراقي المعاصر – عرفان عبد الحميد فتاح إنموذجاً

تأويل النص القرآني في الخطاب الفلسفي العراقي المعاصر – عرفان عبد الحميد فتاح إنموذجاً

ضمن إنْهِمانا بالمنجز الفلسفي العراقي المعاصر وما قدمه من رؤى ومناهج معرفية في قراءته لتاريخ الفلسفة بعامة والإسلامية بخاصة، نستعرض في هذا المبحث موقف أحد متفلسفة العراقي المعاصر ألا وهو الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح، في أحد موضوعات الفلسفة التي إنهم بها كثيراً في ما وصلنا من مؤلفاته في هذا الجانب المعرفي، بعد أن عرضنا لفلاسفة عراقيين معاصرين له من أمثال المرحوم الدكتور حسام محي الدين الآلوسي، والمرحوم الدكتور جعفر آل ياسين، وذلك لتشكيل خريطة معرفية للدارسين العراقيين والعرب وغيرهم ممن يطلعوا على كتابتنا في هذا المجال، فيما قدمه المشهد الفلسفي العراقي المعاصر من منجزات فلسفية تشهد لهم بالبنان وبطول الباع المعرفي في هذا التخصص. إذ تم نشر مقالتنا هذه من قبل في الانترنت على موقع كتابات الرائد في هذا المجال المعرفي والثقافي.
أولاً- السيرة العلمية والمنجز المعرفي
1. السيرة العلمية
ولد المفكر الإسلامي المعروف عرفان بن عبد الحميد بن فتاح الكركولي في مدينة بنجوين من أعمال محافظة كركوك، العراق، عام 1356هجرية الموافق للعام 1933 ميلادية.
 درس في بداية حياته في مدارس هذه المدينة حتى تخرج فيها وحصل على شهادة الثانوية، قَفل بعدها قادماً إلى بغداد عام 1955م، لينضم طالباً جامعياً في قسم التاريخ كلية التربية جامعة بغداد، وليتخرج فيه، ليلتحق بعد ذلك ببعثة وزارة التربية عام 1961ميلادية لدراسة الفلسفة في جامعة كيمبردج، تحت إشراف المستشرق الانجليزي المعروف جون آرثر آربري (ت1969م)، وليحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة في هذه الجامعة عام 1965م، عن أطروحته الموسومة (أثر الفكر الاعتزالي في فكر الشيخ المفيد)، هذه الأطروحة التي ما زالت حبيسة اللغة الإنجليزية ولم تنقل إلى العربية حتى يومنا هذا.
وبعد حصوله على الدكتوراه، عاد إلى بغداد ليعمل في سلك التدريس في كلية العلوم الإسلامية بجامعة بغداد، وانتقل منها إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب، لأنه بالأصل لم يكن من خريجي قسم الفلسفة بجامعة بغداد.
وما بين تاريخ حصوله على الدكتوراه عام 1965م، ومغادرته الحياة إلى جوار ربه في 17 محرم 1428هجرية الموافق 29 كانون الثاني 2007، عمل الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح أستاذاً للفكر الإسلامي في جامعة بغداد، وجامعة الكويت، دولة الكويت، وجامعة آل البيت في المملكة الأردنية الهاشمية، وأستاذاً بقسم كلية أصول الدين والأديان المقارنة بكلية معارف الوحي والتراث في الجامعة الإسلامية بماليزيا، التي توفاه الله فيها. 
أطلقت على رؤى عرفان عبد الحميد فتاح الفكرية تسمية العقلانية الوسطية، باعتبار أن عقلانيته تقوم على اتساق المنقول والمعقول، العقل فيها مقيد بالنقل لتحقيق الموازنة بين الحكمة والشريعة.
2. المنجز المعرفي: لقد ترك لنا عرفان عبد الحميد فتاح جملة أبحاث ودراسات وكتب في الفكر الإسلامي ، بدءها منذ أن التحق بالتدريس في جامعة بغداد، بكليتيها العلوم الإسلامية والآداب وحتى وفاته في ماليزيا، وعلى وفق الآتي:
1. كتاب دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية، ط1، 1968، ط2، 1977.
2. كتاب المستشرقون والإسلام، بغداد (؟).
3. كتاب الفلسفة الإسلامية دراسة ونقد، بغداد 1974، عمان 1984.
4. بحث الإمام الغزالي دراسة في المنهج، المجمع العلمي العراقي، بغداد 1981.
5. بحث المدرسة العراقية (علم الكلام والفلسفة والتصوف) الذي صدر ضمن كتاب العراق في موكب الحضارة، ج3، بغداد 1988.
6. كتاب دراسات في الفكر العربي الإسلامي (أبحاث في علم الكلام والتصوف والاستشراق)، عمان 1991. وهذا الكتاب هو مجموعة دراسات علمية محكمة في الفلسفة والتصوف والاستشراق نشرها في مجلات عراقية وعربية وعالمية.
7.  كتاب اليهودية، عرض تاريخي، والحركات الحديثة في اليهودية، عمان 1997.
8.  كتاب النصرانية، نشأتها التاريخية وأصول عقائدها، عمان 2000.
9. أبحاث متنوعة في إسلامية المعرفة والعولمة والحضارة الإسلامية ومناهج علم الكلام، صدرت عن مجلات عدة منها مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد، ومجلة إسلامية المعرفة، بيروت، بدأت من عام 1967 وحتى وفاته، وهي تحتاج منا نحن الباحثين من تلامذته جمعها وتحقيقها وتوفيرها بين يدي الدارسين والباحثين.  
10. التصوف صفاء ومشاهدة، بحث، مجلة كلية الآداب، جامعة بغداد، ع15، 1971-1972.
11.  نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، كتاب، بيروت 1974.
12. خصائص التجربة الصوفية، بحث، مجلة الرسالة  الإسلامية، بغداد 1975. أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
13. نقد ابن خلدون للتصوف، بحث، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد (؟). أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
14. التصوف بين الأصالة والتحريف، بحث، مجلة الرسالة الإسلامية، بغداد (؟). أعيد نشره في كتابه دراسات في الفكر العربي الإسلامي، عمان 1991.
15. مناجاة فكرية بين حجة الإسلام الغزالي وخادم القرآن الشيخ النورسي، بحث، مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية، ع2، تموز 2010، ويبدو أن هذا البحث قد صدر بعد وفاته.
ثانياً- معنى التأويل بعامة Interpretation
 يذهب اللغويون إلى أن مصدر التأويل من أوّل، بمعنى فسر ما يؤول إليه الشيء، أو تأتي بمعنى رده إلى الغاية المرجوة منه. وهو ما أكده الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات، مضيفاً إليه بعداً أصولياً، يقول: التأويل في الأصل الترجيع، وفي الشرع صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله إذا كان المحتمل الذي يراه موافقاً بالكتاب والسنة، مثل قوله تعالى: ((يخرج الحي من الميت)) إن أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيراً، وإن أراد إخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل كان تأويلاً . في حين يصرح علماء الكلام عن التأويل أنه تفسير الكتب المقدسة تفسيراً رمزياً أو مجازياً يكشف عن معانيها الخفية. ويذهب المتصوفة إلى أن معنى التأويل هو صرف الآية إلى معنى تحتمله إذا كان المحتمل الذي يوافق الكتاب والسنة، والتأويل يختلف باختلاف حال المؤول من صفاء الفهم ورتبة المعرفة ونصيب القربى من الله تعالى.
وإذا ما جئنا إلى المعنى الاصطلاحي الفلسفي للتأويل، نجد أن ذلك قد أخذ بعده المعرفي والوجودي وحددت أبعاده المنطقية مع الفيلسوف ابن رشد (ت595هـ/1198م)، إذ أشار في كتابه فصل المقال الى هذا المعنى: ((ومعنى التأويل هو إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي)). فالتأويل بهذا المعنى ليس بدعة ولا خوف منه، فهو كالتأويل الذي يمارسه الفقيه في كثير من الأحكام الشرعية، والمسلمون مجمعون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المؤول منها وغير المؤول،…، وليس هناك إجماع في التأويل وإنما هو الاجتهاد في طلب الحق والاختلاف حول ما يؤول وما لا يؤول ونوع التأويل.
ويحدد ابن رشد مهمة المتفلسف في التأويل ولاسيما صاحب القياس البرهاني دون غيره من الأقيسة المنطقية، باعتبار أن صاحب هذا القياس هو الفيلسوف على الحقيقة والراسخ في العلم بحسب تأويل ابن رشد للنص الديني، فيقول: وإذا كان الفقيه يفعل هذا ( = التأويل) في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب البرهان، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني.
أما السبب في ظهور التأويل كما يشير ابن رشد ، هو أن الشرع فيه ظاهر وباطن واختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها، والى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى (( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب)) آل عمران/ آية 7.
ويفهم من سياق الكلام الذي أشار فيه ابن رشد إلى التأويل، أن مهمة الفيلسوف تنحصر هنا وفي هذا المجال، في حين أن مهمة التفسير يقوم بها المفسر للنص الديني بالاعتماد على معطيات أخرى منها أسباب النزول ومعاني الآيات وأحكامها الشرعية وغير ذلك. فالمفسر يقوم بمهمة أعم من المؤول، والمؤول إنما يعمل العقل المنطقي البرهاني على الناس ليخرج منه المتشابه الذي يدعوا الى الفتنة ليجعله في باب الوحدة والتنظيم والعقلنة، فالمؤول هو الفيلسوف على الحقيقة، لأنه يدرك معاني النص الديني ويستنبط الأحكام منه ويستدل بها على وجود الصانع، لأن مهمة الفلسفة عند ابن رشد هي: ((ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة الصانع، أي من جهة ما هي مصنوعات…)) .
ولما كان التأويل حصيلة خالصة من قوة الحصيف، فإنه لا مجال للشك في أن الدعائم التأويلية مقرونة بالعقائد الدينية في نظر ابن رشد خاصة، وليس التأويل الفلسفي إلا ثمرة من ثمار التأويل الديني، وأن التأويل الصحيح ليس إلا اجتهاداً قائماً على استحكام العقل.
ولكن، التأويل ليس موقوفاً على الفلسفة بإطارها النظري فحسب، بل نجد أن التأويل قد تمت ممارسته والاشتغال فيه من قبل الفرق الكلامية الإسلامية على تعددها وتنوعها من شيعة ومعتزلة وأشاعرة وغيرهم، ومثل ذلك عند الصوفية الذين اعتمدوا التأويل الإشاري الموغل بالرمزية، وإن كان فهم النص الديني فهماً عقلانياً فلسفياً إنما انحصر في دائرة الفلاسفة المسلمون الخلص من أمثال الفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد وأضرابهم، إذ قدموا فهماً وقراءة مغايرة بالكلية لمعنى التأويل في النص الديني عن غيرهم ممن مارس هذا الدور في الخطاب الفلسفي الديني الإسلامي، باعتمادهم معطيات العقل الفلسفي المنطقي دون غيره من معطيات أخرى.
كما ويرتبط مفهوم التأويل جدلياً بمصطلح التشبيه Anthropomorphism ، ويعني اصطلاحاً تصور الله في ذاته أو صفاته على مثال الإنسان، ويقابله التنزيه، والمشبهة قوم شبهوا الله بالمخلوقات ومثلوه بالمحدثات، وللفكرة في أساسها وثنية قديمة عرفت لدى الشعوب البدائية التي صورت آلهتها على صورة إنسان أو كائن عظيم حيواناً كان أو جماداً، وبدت صورة من هذا التشبيه في اليهودية والمسيحية وفي القرآن الكريم ما يؤذن بشيء من التجسيم والمادية. 
ثالثاً- التأويل في خطاب الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح
تتمحور رؤية عرفان عبد الحميد فتاح الفكرية حول التأويل في كتابيه، الأول: (دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية)، ط1، بغداد 1968 ، الذي خصص له الفصل الثالث من القسم الثاني، تحت عنوان التشبيه والتأويل، والثاني: نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ط1، بيروت 1974، والذي خصص له الفصل الرابع، تحت عنوان التأويل الرمزي الإشاري.. وسنبدأ أولاً بمناقشة وجهة نظره عن التأويل تبعاً لكتاب الأول، ثم نتلوا ذلك بكتابه الثاني.
1- الموقف من التشبيه- يعتقد عرفان عبد الحميد فتاح جازماً أن التأويل إنما سببه وقيامه ومنهجه إنما يعود إلى التشبيه الظاهر في النصوص الدينية ومنها القرآن الكريم، ذلك أن التشبيه فكرةً وفرقةً لا يقتصر وجودها على الأديان السامية التي ظهرت بين الشعوب الشرقية كما يدعي بعض مؤرخي الفكر الفلسفي، بل هي تيار فكري عام يكاد يوجد في كل الأديان وخاصة البدائية، فللشعوب البدائية ميل فطري لتشبيه الخالق بالكائن المخلوق،…، وأن أرقى الديانات أقلها في ذلك.
واستمراراً مع نهجه في إيجاد صلة جدلية بين ظهور تاريخ فكرة التشبيه ودواعيها تمهيداً لبحث التأويل فيما بعد، نجد عرفان عبد الحميد فتاح يربط تاريخ ظهور فكرة التشبيه في الإسلام مع نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني الهجريين، وأن سبب ظهور هذه الفكرة برأيه يعود إلى سبب داخلي بحت من ذات الإسلام، وهو في رأيه هذا يخالف كل ما ذهب كتاب الفرق الإسلاميين، ويتمثل السبب الداخلي على وفق رأيه بوجود مجموعة من الآيات والأحاديث تضيف إلى الله تعالى صفات خبرية تشير إذا فسرت حرفياً إلى التشبيه والتجسيم وما يكون من ذلك من الصفات والعواطف والإحساسات البشرية، وسند عرفان عبد الحميد فتاح هذا في حكمه هو ابن خلدون الذي صرح ذلك في مقدمته. 
فضلاً عن ذلك يأتي عرفان عبد الحميد فتاح بالآيات والأحاديث النبوية التي وردت فيها التشبيه مثل اليد والساق والوجه والعين والعرش والمجيء والنزول، ثم يتحدث عن مذهب السلف في المتشابهات الذين اعترفوا بعجز العقل الإنساني من إدراك كنه وحقيقة هذه الصفات التي تدل على التشبيه التي أطلقها الرب على نفسه، فآمنوا بالظاهر وتوقفوا عنده وعملوا به وزجروا من خاض فيه وسأل عنه، وكانت النزعة الغالبة على أكثرهم كما يرى هو التوقف في مسائل العقائد والاقتصاد في الجدل الديني وعدم الولوغ فيه مع التسليم والتقليد لما ورد في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، إذ استمر هذا التيار المتشدد من منع الخوض في التشبيه خلال القرن الثاني للهجرة، ممثلاً بالزهري (ت214هـ) وسفيان الثوري (ت161هـ) ومالك بن أنس (ت179هـ)، حتى استمر هذا التيار إلى القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، وصار معتقد أهل السنة جميعاً، بعد ان ارتبط باسم احمد بن حنبل (ت241هـ)، وجماعة أخرى، حتى صار هذا المعتقد الذي يتوقف عن التشبيه باسم عقيدة بلا كيف، أي إثبات الصفات الخبرية جملة من غير تشبيه أو مقارنة أو كيفية تؤدي إلى إضافة تصورات جسمانية بشرية إلى الله تعالى،…، وقد دافع عنه فيما بعد ابن الجوزي وابن تيمية (ت728هـ) وابن قيم الجوزية (ت751هـ) في القرن الثامن الهجري.
لكن، فكرة التشبيه هذه لم تدم طويلاً في الفكر الإسلامي على وفق رأي عرفان عبد الحميد فتاح، لأنها تتضمن الإحالة إلى مجهولات لا نفهم مؤداها ولا غايتها، ولهذا هاجمها كثير من العلماء حتى اعتبرها ابن حزم الأندلسي مدخلاً لطريق ينتهي بالتشبيه، بعد أن ذكر قبله أبو الحسن الأشعري (ت324هـ) وأبو منصور الماتريدي (ت331هـ) الأخذ بالتأويلات المجازية متبعين في ذلك الأسلوب الذي بدأه المعتزلة من قبل.
ويعزو عرفان عبد الحميد فتاح أسباب توقف السلف عن التشبيه إلى ثلاثة موارد هي: القرآن الكريم، التأويل أمر ظني، وأخيراً التأويل أمر يختلف باختلاف وجهات نظر المفسرين ومذاهبهم الدينية والسياسية. فعلى سبيل المثال القرآن الكريم منع الخوض في التشبيه استناداً لقوله تعالى في سورة آل عمران، آية 7، (( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا))، هذا من جهة، ومن أخرى يعتقد أن التأويل لربما يوقع في الظن بالاتفاق، والقول في صفات البارئ عز وجل بالظن الذي يحتمل الخطأ غير جائز، فربما أولنا الآية على غير مراد الله تعالى فوقعنا في الخطأ بل نقول كما يقول الراسخون في العلم آمنا به كل من عند ربنا، آمنا بظاهره وصدقنا بباطنه ووكلنا علمه الى الله تعالى ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك، إذ ليس ذلك من شرائط الإيمان، كذلك التأويل أمر يختلف باختلاف وجهات نظر المفسرين ومذاهبهم الدينية والسياسية، فإذا تركنا الأمر للتأويل فكأننا فتحنا الباب لتفسيرات مختلفة متباينة، وذلك أمر من شأنه تفريق الأمة، وهو حرام، وما يؤدي إليه محرم أيضاً.
فضلاً عن ذلك، يوجه عرفان عبد الحميد فتاح اعتراضاً ونقداً لكتاب الفرق والعقائد الإسلامية الذين ربطوا ظهور فكرة التشبيه وتطورها بالشيعة حصراً، وأنهم أي الشيعة اقتبسوها من اليهود، وهو ما ذهب إليه الشهرستاني في الملل والنحل والفخر الرازي في كتابه اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، والبغدادي في الفرق بين الفرق، وأبي الحسين الخياط في الانتصار، وأحمد أمين في ضحى الإسلام. وهنا يصرح عرفان عبد الحميد فتاح، قائلاً: والظاهر أن هذا الرأي يناقض ما تمليه نتائج البحث العلمي، فهو رأي خاطئ، وأنني ( = عرفان عبد الحميد فتاح) أرى خلافاً لما ذهب اليه هؤلاء، بل أن لظهور التشبيه سبباً داخلياً يتمثل ويتحدد في التمسك بالتفسير الحرفي للآيات والأحاديث التي تضفي على الله تعالى صفات خبرية كاليد والساق والعين والوجه،..، فإذا ما فسرت هذه الصفات تفسيراً حقيقياً انتهى الأمر بتشبيه الله تعالى وتنزه عن ذلك العبد، فإذن لا حاجة لافتراض مؤثر أجنبي بل السبب كما نرى هو التمسك بالحرفية وحمل هذه الألفاظ على الحقيقة دون المجاز، وهذا الرأي الذي يتبناه عرفان عبد الحميد فتاح هو رأي ابن خلدون على الحقيقة.
وأما ان فكرة التشبيه ظهرت أول مرة بين صفوف الشيعة، فذلك هو الآخر برأي عرفان عبد الحميد فتاح يخالف الحقيقة أيضاً، فالتشبيه على وفق رأيه ظهر أولاً في صفوف فئة أهل الحديث الذين يعرفون بالحَشَوية، أو الحَشْوية، ثم سرت منهم إلى الجماعات الأخرى من شيعة وأهل سنة. وهنا يقدم عرفان عبد الحميد فتاح حججه على ما قال آنفاً، وذلك باعتماد المنهج التاريخي المقارن لظهور الفكرة وتتبعها فيما بعد، قائلاً: أن ما يؤيد ما ذهبنا إليه هو أنه في الوقت الذي اختفى فيه تيار التشبيه الفكري بين الشيعة بعد القرن الرابع الهجري عندما هضموا وتمثلوا المنهج الاعتزالي في التأويل، استمر تيار التشبيه بين فئة أهل الحديث المتزمتين في التمسك بظواهر النصوص ممن ربطوا أنفسهم تاريخياً باسم أحمد بن حنبل حتى العصور المتأخرة،…، حتى كادوا يوقعون بالإمام العز بن عبد السلام الذي كتب في الرد على الحشوية المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه.
يستعرض بعد ذلك عرفان عبد الحميد فتاح فرق المشبهة التي ظهرت في دائرة الفكر الإسلامي، ويغمز في قناتهم بأسلوب يشم منه رائحة الكراهية والنقد لآرائهم ومواقفهم، ويعتمد في إيراد نصوص أقوالهم وأرائهم على كتاب الفرق والمقالات من أمثال أبي الحسن الأشعري وعبد القاهر البغدادي وفخر الدين الرازي وابن الجوزي في تلبيس إبليس، والمجلسي في بحار الأنوار، ويقسمهم على ثلاثة أقسام هي: الأولى: مشبهة أهل الحديث ويسمون بأسماء مثل الحشوية والمشبهة أو أصحاب الحديث الحشوية، الذين صرحوا أن الإيمان طريقه السمع دون العقل، منهم: المفسر والمحدث المشهور مقاتل بن سليمان البلخي (ت150هـ)، الذي ورد عنه أن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه،..، وأنه مصمت من أسفله، مجوف من أعلاه. كذلك من حشوية الحديث كهمس بن الحسن التميمي ومضر بن خالد وإبراهيم بن أبي يحي الأسلمي وأحمد الهجيمي وداوود الجورابي، ومما روي عن هؤلاء أن الله جسم، وأنه جثة على صورة الإنسان، وأنه من دم ولحم له أعضاء من يد ورجل ورأس وساق، وجوزوا عليه الانتقال والنزول والصعود والمصافحة، وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة. وأما الفرقة الثانية على وفق رأيه فهم مشبهة الشيعة، ويمثلهم هشام بن الحكم (ت179هـ، أو 190هـ))، وهشام بن سالم الجواليقي، الذين زعموا بحسب نص عرفان عبد الحميد فتاح أن الله جسم، له نهاية وحّدْ، وهو طويل عريض عميق، وزعموا أنه نور ساطع … ذو لون وطعم ورائحة، وروي عن هشام بن الحكم أنه قال: ان ربه جسم ذاهب جاء، فيتحرك تارة ويسكن تارة، وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وإن كان هذا الرأي لهشام بن الحكم في الله لا يُظن أنه قد صرح به، على وفق الشهرستاني صاحب الملل والنحل، والفرقة الثالثة من المشبهة بحسب عرفان عبد الحميد فتاح فهم فرقة الكرامية أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني (ت225هـ)، إذ أجمعت هذه الفرقة على قولهم أن الله مماس للعرش من الصفحة العليا، وجوزوا الانتقال والتحول والنزول، ومنهم من قال أنه على بعض أجزاء العرش، وغير ذلك من أقوال تمس بالذات الإلهية.    
ومما تقدم يبدو إن موقف عرفان عبد الحميد فتاح من التشبيه، تبنيه لمنهج عقلاني وسطي، إذ يوجه نقده العلمي لهذه الآراء التي عرض لها، مبيناً سبب نشأتها، من خلال ربط كل ذلك بسبب داخلي أنشأ هذه الآراء ولا سيما عند الحشوية والمشبهة، مما استدعى بنظره ظهور التأويل من أجل تنزيه الذات الإلهية من المشابهة والمماثلة والجسمية، حتى لنجده يوافق ما ذهب إليه الغزالي من قبل في الرد على غلاة المتصوفة ونقدهم.
وقد أعتمد عرفان عبد الحميد فتاح على ضوابط محددة في التأويل، بينها في كتابه نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها. وعالجها بالتفصيل في كتابه دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية.
2- تاريخ التأويل في بعده العقيدي وقوانينه
يضع عرفان عبد الحميد فتاح رؤيته المنهجية المنطقية للتأويل والتي تحمل بعداً عقيدياً يوافق فيه رأي الغزالي وسائر علماء الكلام من الأشاعرة فحسب، فالتأويل عنده منهج عقلي، يقصد منه إبعاد التصورات التي لا تليق بالإلوهية، وكوسيلة للتقريب والتوفيق بين العقائد الدينية التي ثبتت بالوحي وبين مقتضيات العقل.
ولأن التأويل هكذا، فهو ظاهرة دينية، لها تاريخ طويل في الفكر الإنساني العام بحسب ما صرح به عرفان عبد الحميد فتاح، فقبل ظهور الإسلام بزمن قام علماء الكلام اليهود والنصارى بمحاولات عقلية شبيهة بتلك التي بذلها فيما بعد علماء الكلام من المسلمين من معتزلة وشيعة وأشاعرة من أجل إبعاد كل التصورات الجسمانية التي لا تليق بالإلوهية. ولأجل ان يوضح مراده من هذا الحكم، يستعرض عرفان عبد الحميد فتاح تاريخ ظهور التأويل في الفكر الديني بعامة، مبتدءاً بالديانة اليهودية، إذ يرتبط بحسب الباحثين التأويل في هذه الديانة بفيلون السكندري (ت50م)، إذ حاول هذا الفيلسوف اللاهوتي أن يبعد التصورات الجسمانية التي يمكن أن يؤدي إليها التفسير الحرفي لبعض نصوص التوراة التي تضفي على الله تعالى صفات خبرية من يد وساق ووجه وعين..، إذ أكد فيلون السكندري وجوب تفسيرها تفسيراً مجازياً على وفق قوانين التأويل المجازي التي حدد درجاتها بنفسه، متهماً الذين يفسرون النصوص بالحرفية والظاهر، أنهم ضيقوا الأفق والإدراك، وواصماً إياهم بالغباوة والإلحاد.
سار على نهج فيلون السكندري هذا من بعده لاهوتيو الديانة اليهودية ممن عاش في ظل الدين الإسلامي من أمثال سعدايا الفيومي (ت942م) صاحب كتاب الأمانات والاعتقادات والفيلسوف الأندلسي موسى بن ميمون (ت600هـ/ 1204م) صاحب كتاب دلالة الحائرين، إذ هذا الفيلسوف أحد أبرز تلامذة ابن رشد.
أما الديانة المسيحية فقد ظهر فيها عدد من كبار آباء الكنيسة حاولوا إبعاد التصورات الجسمية عن الله، من هؤلاء كليمنت السكندري (ت215م) واوريجن (ت254م) والقديس أوغسطين (ت430م) ويوحنا الدمشقي (ت754م) الذي يعتبر بحق أكبر لاهوتي الكنسية الشرقية، إذ اعتبره الكثير من مؤرخي الفلسفة الإسلامية المسؤول الأول عن ظهور النقاش العقلي الجدلي في الإسلام.
وبرؤية فلسفية تعتمد المنهج التاريخي المقارن يرجع عرفان عبد الحميد فتاح بداية ظهور التأويل في الفكر الإسلامي مع فرقة المعتزلة، ويدافع بقوة عن هذا الموقف الذي يتبناه، ذلك أن المعتزلة على وفق رأيه أيقنوا من أن إبعاد التصورات والصفات والأحوال التي لا تتفق وطبيعة الإلوهية لا يكون إلا عن طريق تأويلها مجازياً، إذ وجد المعتزلة في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوصاً إذا أخذت حرفياً أدت إلى التشبيه والتجسيم، وما يكون من ذلك من الصفات والعواطف والإحساسات البشرية، إذ ثبت لدى المعتزلة بالدليل العقلي أن الله منزه عن الجسمية والجهة، وبهذا حاولوا بصرف الصفات عن معانيها الظاهرية الحرفية إلى معان أخرى مجازية، لئلا يكون ذلك سبباً في الطعن في هذه النصوص، واستعانواً في هذه السبل الوعرة والشاقة بالقرآن الكريم نفسه في آيات أخر، فضلاً عن اعتمادهم اللغة العربية لأنهم وجدوا فيها ما تعينهم في تقرير المعاني التي يرونها.  إذ جاهد المعتزلة بقوة من أجل جعل التأويل المجازي منهجاً عاماً منسقاً، ذلك أنهم أدركوا أنه لا سبيل للقضاء على التشبيه فكرةً وفرقةً إلا إذا صرفت الصفات الخبرية الواردة في المتشابهات عن ظواهرها إلى معان أخرى مجازية مستساغة من غير إخلال بقواعد اللغة العربية وخصائصها. لهذا فالمعتزلة أصحاب فضل على بقية الفرق الإسلامية كما يقول عرفان عبد الحميد فتاح، في الأخذ بالتأويل منهجاً لحل المشكلات في المتشابه من الصفات الخبرية، وأن عملهم الذي بدأوه كان السلاح الوحيد للقضاء على التشبيه والمشبهة، على الرغم مما في تأويلهم من تعسف وإفراط ومحاولات لجعل النص القرآني دليلاً على صحة آرائهم الدينية والمذهبية التي آمنوا بها.
 إن رأي المعتزلة في التأويل أخذت به الفرق الإسلامية الأخرى مع تعديلات طفيفة، كما يشير عرفان عبد الحميد فتاح، ومن هؤلاء الآخذين الشيعة والأشاعرة والماتريدية، وفي ذلك يصرح الفخر الرازي: جميع فرق الإسلام مقرّون بأنه لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن.
و يرى عرفان عبد الحميد فتاح من جهته، إن التأويل إذا ما استعمل بشكل متعسف ومغالي سينجم عنه نوع من الضرر في فهم النص الديني، ذلك أن هذا التعسف وسوء الاستخدام في التأويل يؤدى بل وأدى إلى ظهور تأويلات متطرفة بعيدة عن روح الإسلام وحقائقه، وأصبح التأويل وسيلة لكل صاحب فكرة ومقالة من متصوف منحرف أو فرقي مذهبي مغالي أو فيلسوف يريد أن يجعل لآرائه الغريبة مكانة في الإسلام. ليدخل في الدين ما يشاء من آراء غريبة وذلك بتوجيه النصوص توجيهاً مجازياً بعيداً عما تحتمله هذه النصوص. وهو أمر إذا ما كان على هذه الصورة سيكون دوره هداماً، إذا لم يُحد له حدود وتُوضع له قواعد ودرجات، وهو ما انبرى لهذه المهمة متكلمين وفلاسفة من داخل الفكر الإسلامي من أمثال الغزالي والفخر الرازي وابن رشد. لهذا نجد عرفان عبد الحميد فتاح يجلب تعريف ابن رشد للتأويل باعتباره مرجعاً لكل من يريد أن يضبط قواعده ولا يتعسف فيه، يقول ابن رشد: التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يُخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجويز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.
واستناداً لتحديد ابن رشد للتأويل يفصل عرفان عبد الحميد فتاح القول في معناه وجوازه في المتشابه في القرآن الكريم والأخبار، مصرحاً بالقول: صار من الضروري أولاً معرفة ما هو المتشابه وما هو المحكم، كيما يفسر الأول منهما تفسيراً مجازياً ويأخذ بالظاهر من الثاني ويعمل به.
لكن، لأهمية التأويل والاختلاف في تحديد ماهيته ومثل ذلك المتشابه، نلحظ وجود عدم اتفاق بين المتكلمين والفلاسفة على ما هو محكم ومتشابه، بل لم يقع اتفاق كما يقول الفخر الرازي بين أهل الفرق على ما هو محكم فيأخذ بظاهره ويعمل به، وما هو متشابه فيؤول إلى التفسير المجازي، ذلك إن ما كان متشابهاً في نظر المعتزلي مثلاً كان بمثابة المحكم الذي يجب الأخذ بظاهره من غير تأويل في نظر الآخرين، ولهذا اضطر أهل الرأي كما يقول عرفان عبد الحميد فتاح لتحديد معنى المتشابه، الذي هو: اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى ما، فأما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى أو لا يكون، فإن كان موضوعاً لمعنى ولم يكن محتملاً لغيره فهو النص، وان كان محتملاً لغير ذلك المعنى فأما أن يكون احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، وأما أن لا يكون، بل يكون احتماله لهما على السوية. لهذا عرضت أمام الفلاسفة والمتكلمين كما يشير عرفان عبد الحميد فتاح  صعوبة معرفة ما يقبل التأويل وما لا يقبله، إذ يحق للمؤول كما يصرح الغزالي: أن يكون ماهراً حاذقاً في علم اللغة، عارف بأصولها ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومناهجها في ضرب الأمثال. وهذا هو رأي ابن رشد في تحديده للتأويل الذي أشرنا إليه آنفاً.
والتأويل جائز إذا استند إلى قيام البرهان على استحالة الظاهر، لذا فصرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع. ولهذا لا يحق لأي من كان من البشر التأويل، بل لفئة خاصة منهم تسمى الراسخون في العلم كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم، ولكن هؤلاء الراسخون في العلم لا يوجد اتفاق من هم كما يقول عرفان عبد الحميد فتاح، فمثلاً الغزالي يرى أنهم المتصوفة أهل الغوص في بحر المعرفة ممن توصلوا بفضل المجاهدة النفسية إلى معرفة الدر المكنون والسر المخزون، فهم وحدهم عارفون بأسرار النصوص ومعانيها الخفية، في حين يرى ابن رشد أن الراسخين في العلم هم الفلاسفة أصحاب العلوم البرهانية والأدلة العقلية الصحيحة فهم وحدهم القادرون على تفهم أسرار الشريعة وإدراك معانيها الخفية بما لهم من عقلية فائقة. 
ويبدو أن مشكلة التأويل لدى الجمهور من العامة (العوام بحسب تسمية علماء الكلام) كانت إشكالية مؤرقة لأهل العلم وإلى يومنا هذا، ومنهم عرفان عبد الحميد فتاح نفسه، إذ لا يحق لهم التأويل لضعف مداركهم العقلية وعدم قدرتهم على استيعاب اللغة ومعانيها المتعددة كما ينصح هو بذلك، وهنا يورد ما صرح به أهل العلم بالتأويل حول العوام من الناس، بقولهم: أن هؤلاء العامة عليهم الإتباع والكف عن تغيير الظواهر رأساً والحذر عن إبداء التصريح في تأويلات لم تصرح بها الصحابة، وحسم باب السؤال رأساً والزجر عن الكلام وإتباع ما تشابه من الكتاب والسنة، أي الأخذ بفكرة التوقف الكامل، إيماناً بالظاهر من غير تشبيه ولا تأويل.
ويستنبط عرفان عبد الحميد فتاح قوانين للتأويل وشروط على المؤول الأخذ بها، وإلا لا يعدّ عمله صحيحاً، ومرجعه في ذلك كتاب الغزالي فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، وكتاب ابن رشد فصل المقال، وبدورنا سوف نعرض لهذه القوانين كما عرض لها عرفان عبد الحميد فتاح، وهي:
1. أن يكون المعنى الظاهر من النص هو المراد حقيقة في نفس الأمر، وهذا الصنف لا يجوز تأويله مطلقاً، بل يجب الأخذ بالظاهر من قبل الناس جميعاً. كإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن العرش والكرسي والسموات السبع، فإنه يجري على ظاهره ولا يتأول إذ هي أجسام موجودة في أنفسها أدركت بالحس والخيال أو لم تدرك. 
2. أن يكون المعنى الثاني للنص ليس مراداً، بل هو مثال ورمز للمعنى المقصود حقيقة، ولكنه لا يعلم أنه مثال، ولا لماذا اختير بذاته ليكون مثالاً ورمزاً لذلك المعنى الخفي إلا بقياسات بعيدة مركبة لا يتوصل إليها إلا بتعلم طويل وعلوم جمة لا يقدر عليها إلا الخاصة من الناس، وهذا الصنف من الآيات لا يجوز أن يؤوله إلا الراسخون في العلم وليس لأحدهم التصريح به لسواهم.
3. أن يكون المعنى الظاهر مثالاً ورمزاً أيضاً لمعنى آخر خفي، ولكن من اليسير أن يفهم أنه مثال ولماذا هو بذاته مثال، وهذا الصنف ليس لأحد الأخذ بظاهره، بل لابد من تأويله والتصريح بهذا التأويل للجميع.
4. أن يكون المعنى الظاهر مثالاً، ولكن يعرف بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال، وبعلم بعيد لا تقدر عليه العامة ومن في حكمهم لماذا هو بنفسه مثال، وهذا الصنف تأويله خاص بالعلماء، ويؤولنه لأنفسه خاصة، ويقال للآخرين الذين شعروا أنه مثال، ولكن ليسوا من أهل العلم، بأنه من المتشابه الذي يجب عدم البحث فيه.
5. أن يكون المعنى الظاهر مثالاً ورمزاً لآخر خفي، ولكن لا يتبين أنه مثال إلا بعلم بعيد ومتى عرف أنه مثال يتبين بعلم قريب لماذا اختير بذاته ليكون مثالاً، وهذا القسم من الأحفظ للشرع ألا يتعرض لتأويله.
من هذه القوانين يستنتج عرفان عبد الحميد شروطاً ثلاثة يعدها بمثابة أساس لمن يجوز له التأويل: وهي:
1. يجوز التأويل في حالة أخذت النصوص بحرفها فأدت الى التجسيم أو جواز النقلة أو كون الله في مكان، ونحو مما يتصل بصفات المخلوقين التي يستحيل عقلاً أن تنسب إليه.
2. يجوز التأويل متى قام الدليل العقلي الصحيح على بطلان المعنى الذي يؤخذ من ظاهر النص.
3. لا يجوز أن نصل بسبب التأويل إلى معنى يهدم أساساً من أسس الشريعة.
3- نقد عرفان عبد الحميد فتاح للتأويل في بُعدهِ الرمزي الصوفي
لا يضع عرفان عبد الحميد فتاح في كتابه نشأة الفلسفة الصوفية، أي تحديد لمعنى التأويل عند المتصوفة، بل يصدر حكماً مفاده بأهمية وضرورة التأويل في هذا الميدان، مستنداً في ذلك على رأي الشيخ عمر السهروردي (632هـ/1145م) صاحب كتاب عوارف المعارف، الذي عدّ التأويل وسيلة حاولوا بها الجمع والتوفيق بين نصوص الشرع المنزل والأنظار الفلسفية التي استمدوها من دوائر الفكر الأجنبي. ذلك أن التفسير المألوف المعتمد على المأثور مما لا يتسع المجال فيه كما يقول السهروردي: إلا القول المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، أما التأويل فتمتد العقول فيه بالباع الطويل.
ولكن، من جهة أخرى يذهب عرفان عبد الحميد  فتاح بعيداً في توجيه النقد للمتصوفة ولاسيما المغالين منهم في التأويل، وبالأخص الذين أفادوا من النتاج الفلسفي اليوناني دون غيرهم من المتصوفة الذين سلكوا المنهج العقلاني المعتدل كما يسميهم هو والذي سنشير لهم لاحقاً.
 استطاع غلاة المتصوفة برأي عرفان عبد الحميد فتاح أن يوجهوا النصوص الشرعية الى معان غير تلك التي تدل عليها ظاهرها،…، يقول: اعتمد غلاة الصوفية في هذا الخصوص على الفكر الأجنبي المتمثل في النظرة الأفلاطونية ومذهب الغنوصيين، فكما أن رجال الأفلاطونية لم يروا في الألفاظ إلا ظلالاً شاحبة للحقيقة المجردة وقالوا: إن المعرفة الحقة اليقينية لا تدرك إلا بالتأمل الباطني العميق والمجاهدة النفسية في درجات الكشف العليا حين تتضح خلالها للمتأمل الحقائق على ما هي عليه. كذلك اعتمد فلاسفة الصوفية هذه الدعوة وزعموا: ان الوقوف على ظاهر نصوص الشرع حجاب يمنع من الوصول الى حقائق الأمور، وأن العلم الظاهر يدخله الظن والشك، والمشاهدة ترفع الظن وتزيل الشك، وهكذا أحلوا علم القلوب المبني على التأمل الباطني محل العلم المستمد من كتب الفقهاء.
ويستمر عرفان عبد الحميد فتاح بتوجيه نقده لغلاة الصوفية ، من خلال الحديث عن أثر الغنوصية في دعواها إن المعرفة الحقة طريقها التأمل الباطني والمجاهدة النفسية والتطهر الروحي، فتلاقى الغلاة مع مذاهب الغنوص في معارضتهم لنوعي المعرفة العقلية والدينية وهذه الأخيرة سبيل ثبوتها احترام النصوص الشرعية والابتعاد عن استعمال الرخص والتأويلات التعسفية فيها.    
إن موقف عرفان عبد الحميد فتاح هذا يفهم منه إنه لا يحبذ التأويل الذي مارسه غلاة المتصوفة الذين أخرجوا النص الديني من مجاله الذي ورد فيه في القرآن الكريم الى مجال آخر غارق في الرمزية الإشارية، على وفق معطيات أسهم فيها بكل مباشر فكر فلسفي يوناني يُطلق عليه فكر أجنبي، متمثلاً بالفيثاغورية والأفلاطونية، وفكر إسلامي فرقي لا يلتزم بقواعد اللغة ودليل العقل والشرائط التي وضعها له العلماء، متمثلاً بغلاة الشيعة من أمثال المعمرية والخطابية والجناحية والمغيرية والعجلية، ممن اتخذوا من التأويل وسيلة لهدم الدين ودك معاقله وجعلوه طريقاً ينتهي بهم إلى إسقاط التكاليف واستحلال الحرمات وادعاء النبوة والإلوهية…، وفكر ديني متمثلاً باليهودية والمسيحية والمجوسية، كل ذلك صهر من قبل هؤلاء الغلاة المتصوفة في مزيج ديني فلسفي عجيب لا تكاد تتعرف فيه على مصادر الفكر الأصلية إلا بعناء وجهد.
كما ويعتقد عرفان عبد الحميد فتاح جازماً أن التأويل بلغت قمة المغالاة فيه ومنتهاها عند الإسماعيلية وجماعة إخوان الصفا والحلاجية وغيرها من الفرق التي ربطت التأويل الإشاري بألوان العلوم المستترة الغامضة من كيمياء وسحر وشعوذة واشتغال بالحروف والأعداد. كما ويضع مع هؤلاء الغلاة جلال الدين الرومي (672هـ/1273م) في كتابه المثنوي، ومحي الدين بن عربي (ت 638هـ/1240م) الذي يذهب بالتأويل الى نهاية خطيرة تكاد ان تحول القرآن إلى قرآن جديد.   
وبرؤية لا تخلوا من اعتماد المنهج العقلاني الوسطي في الحكم على هذا النوع من الغلو في التأويل، يرى عرفان عبد الحميد فتاح ان هذا التأويل المغالي قد واجه نوعاً من الازدراء والتنديد من قبل الفقهاء والمحدثين وأرباب النظر والاستنباط وعموم المفسرين. فضلاً عن متصوفة يطلق عليهم اصطلاحاً صوفية أهل السنة، منهم: السري سقطي، والجنيد البغدادي (ت297هـ/909م)، والسراج الطوسي، والكلاباذي، وأبي القاسم القشيري (ت467هـ/1074م)، وأبي حامد الغزالي (ت505هـ/1111م)، والهجويري (ت465هـ/1060م) صاحب كتاب كشف المحجوب. إذ رسم هؤلاء المتصوفة للتأويل على وفق رأيه قانوناً ينظمه، إذ أوجبوا الامتناع عن التأويل من غير برهان عقلي قاطع يستدعي الصيرورة إليه، وتشددوا في منع تغيير الظواهر من غير ضرورة داعية، واشترطوا ألا ينتهي التأويل إلى هدم ركن ثابت في الدين.
الخاتمة- تبين مما تقدم أن الخطاب الفلسفي العراقي المعاصر وفي إشكالية واحدة من الإشكاليات الفكرية التي عالجها وهي إشكالية التأويل، ومن خلال اختيار نموذج تم اتخاذه دليلاً للدرس والبحث هنا، أقصد الباحث والنتفلسف المعروف (عرفان عبد الحميد)، إن هذا الخطاب يتمتع بقدرة عالية على معالجة النص القرآني المحكوم بالتأويل على وفق رؤية منهجية أكاديمية نقدية، لا يسلم بما يقوله علماء الكلام والفلاسفة والمتصوفة عبر مقولاتهم على أنها حقائق لا تقبل الجدال والنقاش والمماحكة والنقد، بل نظر للنص المقدس أنه نص محكوم بآليات تأويلية ذات أبعاد منهجية محددة برؤية المؤوءل، وبزمان وآليات إنتاجه بنظرة موضوعية علمية لا نظرة تقديس وإجلال.
 فضلاً عن ذلك، أن الخطاب الإسلامي العراقي المعاصر بنموذجه المدروس هنا يتعامل مع النص المدروس تعاملاً بعيداً عن الأحكام الأيدلوجية المسبقة التي يؤمن بها صاحب الخطاب المعاصر، وهذه مزية لهذا الخطاب تسجل لصالحه ولصالح موضوعات درسه.
فضلاً عن أن النتائج التي توصل إليها في بحثه ودرسه تسجل ضمن الإبداع المعرفي للشخصية الفكرية العراقية المعاصرة، التي أسهمت في قراءة النص  القرآني بروح تجديدية منفتحة.
وهنا، أتوجه بدعوة مفتوحة إلى الباحثين العراقيين للتعمق بدراسة المنجز الفكري العراقي المعاصر وكشف الإسهامات المعرفية والثقافية التي قدمها لعموم الخطاب الإسلامي والعربي المعاصر. ولاسيما في موضوع (التأويل)، أو في غيره من الموضوعات الفكرية  الأخرى، سواء برسالة جامعية أم بندوة علمية متخصصة أم بعمل جماعي يسهم فيه جمهرة من الباحثين من ذوي الاختصاص، من أجل أن وضع هذا المنجز العراقي ضمن التاريخ العربي بخاصة والعالمي بعامة.
 إن دعوتي هنا ليست دعوة يوتوبية بقدر ما هي معاناة حقيقية لباحث في الفكر الإسلامي بعامة، والمعاصر منه بخاصة، وجد بعد طول الجد في البحث والدرس والتأليف، أن كثيراً من أهل هذا التخصص في بلدنا لا يملكون الرغبة الحقيقية الجادة في الكشف عن منجزهم وإسهاماتهم المعرفية، في حين يولون أنظارهم نحو ما أنجزه الآخرون من عرب وأجانب وكأن ذلك هو مطلبهم وغاية مرادهم. وهذا هو عين التقزيم لأنفسهم وإعلاء شأن غيرهم، وقد صح المثل الذي يقول: مغنية الحي لا تطرب. في حين أجد من جانبي إن مغنية الحي تطرب وتشنف الأسماع بجميل كلماتها وتشنف الآذان بألحانها الرائعة!!!!!.