23 ديسمبر، 2024 12:59 ص

تأويلات ومطبات قانونية في قانون العفو العام

تأويلات ومطبات قانونية في قانون العفو العام

منذ اكثر من عامين والعراقيون يترقبون وعود البرلمانيين والسياسيين بإصدار العفو العام، وتعالت اصوات الكثير من النواب، فمنهم من يريد فعلا انصاف المحكومين والمتهمين من الأبرياء، وآخرون منغمسون بالطائفية كي يعاد انتخابهم واخرون يدعون انهم يريدوا انصاف اهالي الضحايا واخرون يجهلون عمدا ما يجري داخل المعتقلات من اكراه(مادي ومعنوي) ومعاملة غير إنسانية واخرون مجرد يؤمنون بمبدأ خالف تعرف، وأخطرهم من يجهل القانون ويفتي بمزاجه دون علم وكان بعضهم من ضمن حلقة مناقشي مسودة القانون وساهم بصورة فعالة بصدور قانون العفو العام يوم 25/8/2016 بصيغته الحالية(سطحي وأجوف ومفرغ من المحتوى) ورهين أحقاد الماضي وضغائنه، والتي لا تلبي ولو جزء بسيط من عنوان المصالحة الوطنية او تنفيذ بنود الاتفاق السياسي الذي تشكلت حكومة العبادي بمقتضاه، تحت ذريعة تمكن الإرهابيين الحقيقيين؛ ان يشملوا بقانون العفو العام، وتذكيرا، ان السيد رئيس الجمهورية راعي وحامي دستور العراق، اكد انه لا وجود لأي إرهابي داعشي حقيقي ضمن المراسيم التي صادق عليها.
 ان الصيغة التي صوت عليها مجلس النواب لقانون العفو العام سطحية، وفيها عدة مطبات وتأويلات قد تطل برأسها في التطبيق؛ ووددنا ان نضعها في ميدان رؤية القراء الكرام، وعلى وفق الاتي:
أولا-القانون ورد بصيغ طويلة وملتبسة وعبارات ذات صبغة سياسية وبعيدة عن معايير مذهب القضاء الجزائي العراقي، بالإضافة الى صياغات ومفاهيم تحتاج الى تعريفات ومنها على سبيل المثال ما ورد في المادة(5/خامسا) ما نصه(وكل ما يندرج تحت عنوان (السبي) …عند الجماعات الارهابية والتكفيرية) وهذا الكلام لغو زائد، وهل السبي مُجرم عندما تقوم به هذه الجماعات فقط ومن هي الجماعات التكفيرية، وما ورد أيضا في المادة(5/ثانيا)، عندما عرف الجريمة الإرهابية وشمل فيها بالعفو؛ المقاومين للمحتل الأجنبي والمنتمين الى داعش والقاعدة او روج لهما او اصدر بيانات باسم داعش او القاعدة  والداعمين ومن لديهم العلم؛ مشمولين بالعفو، لكنه في اخر النص يعود ويسقط هذا الاستثناء عنهم ولا يشملهم بقانون العفو عندما يقول (..وكل جريمة ارهابية التي ساهم بارتكابها بالمساعدة او التحريض او الاتفاق)، وتلك صياغة متداخلة تحتاج الى توضيح لان عبارة و(كل) معناه اسقاط الاستثناء بمجمله وكان الأفضل استخدام صياغة اكثر توفيقا تشير للمتهم المساعد او المحرض او المشارك. ثانيا-قانون العفو كان خطوة هامة لأنصاف الأبرياء من ضحايا العدالة، لكن بعض الشروط وضعت من اجل جعله يشمل أطرافا معينة بهدف ارضائها ليس أكثر وكما ورد في المادة(3) و(5/خامسا)، بينما لا يشمل في فقراته الأخرى حتى الأبرياء، ورحلهم الى المادة(10) منه، والتي لا تعد من تنطبق عليه انه مشمول بقانون العفو؛ لاختلاف الشقة بينها وبين مفهوم العفو نطاقا واثرا.    
ثالثا- ورد في المادة (7/تاسعا) ما نصه(تسري احكام هذه المادة على المشمولين بالبنود رابعاً وخامساً وثامناً وتاسعاً واثنا عشر ورابعة عشر من المادة (5) من احكام هذا القانون) في حين ان نص المادة (5) ليس فيها رابع عشر.رابعا- قانون العفو العام صدر بحلة غير لائقة، كونه صدر بصيغة تغطي على جرائم لا تستحق العفو، منها جرائم الاختلاس وسرقة أموال الدولة وإهدار المال العام عمداً بعد تسديده المبلغ المختلس بدون حتى مضاعفته والواردة في نص المادة(5/عاشرا)، واستثنى القانون جريمة الرشوة، مع العلم ان عقوبة جريمة الاختلاس اشد من الرشوة حسب قانون العقوبات النافذ، وكذلك شمل جريمة الاتجار وحيازة واستعمال الأسلحة الكاتمة للصوت وذات التصنيف الخاص وجرائم الاتجار بالبشر والاغتصاب واللواط والزنا بالمحارم وجريمة الاتجار بالمخدرات وجريمة غسيل الأموال، من خلال دفع مبلغ عشرة الاف دينار عن كل يوم سجن عن المدة المتبقية، وشمل بالعفو بدون دفع أي مبلغ ، جريمة اتلاف الاثار والاتجار بها ووقوع الضرر عليها، وجرائم التزوير وجريمة التعذيب، وتلك الجرائم بمجملها تعد اخطر من جرائم الإرهاب، فهل يصح تبيض صفحة كبار الفاسدين والمختلسين وسارقي قوت الشعب والمهربين ومرتكبي جرائم غسيل الأموال، وفي نفس الوقت يتغافل قانون العفو العام عن وجود أبرياء من ضحايا الدعاوى الكيدية والمخبر السري والاعترافات القسرية، وهناك اشخاص ارتكبوا الخطأ لأول مرة قد تصلح لهم المساعدة ويستحقون العفو.خامسا-ان المادة (3) والمتعلقة بمقاومة المحتل، جاءت بطريقة مرتبكة ومفتوحة النهايات، ولم تعالج مسالة تواجد عراقيين اثناء مقاومة المحتل كمترجم عراقي او موظف او عامل وغيرها لدى القوات المحتلة مثلا ويتم استهدافه مع المحتل، والمؤسف اني استمعت للقاء بين اخوة محامين اثنين اعزهما واحترمهما في برنامج ارسل لي عبر الواتس اب(ناقشا نقاط مهمة)، بأن حصرا المقاومة بالتيار الصدري وأحدهم يطلب من التيار الصدري مراجعة القضاء لأجل متابعة التعليمات التي ستصدر، وتلك فرية لا يصح تداولها من رجال قانون يناقشون قانون العفو على العلن وعلى الهواء وهم حتما لا يقصدون؛ سيما ان ذلك الامر يعد هدر لاستقلالية القضاء من جانب، والأخر، انتقاص من مقاومين عراقيين؛ والمقاومة اقترنت بالشعب العراقي جميعا ومعركة الفلوجة كانت من أروع صور المقاومة التي سطرها أهالي الفلوجة ضد المحتل وشارك فيها التيار الصدري، فهل يجوز التحدث عن من شارك وترك من قادها؟سادسا- نصت المادة(5/ثالثا) (الجرائم الماسة بأمن الدولة الخارجي والداخلي المنصوص عليها في المواد من (156) إلى (198) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969) ولو اردنا تدقيق هذه النصوص فان قسم منها معلق وقسم كبير يتعارض مع جرائم تم شمولها بالعفو مما خلق تناقضا بين فقرات القانون، وتحتاج الى تفصيل ليس محله.سابعا-المحكوم وفق المادة (406) عقوبات عليه ان يدفع الغرامة بإرضاء ذوي المجنى عليه، فكيف اذا كان المحكومين اكثر من واحد، هل يدفع جميعهم الفصل العشائري، وما هو حكم المتهم بالنسبة لقضايا القتل هل يدفع الفصل العشائري وهذا النص ينصرف للمتهم بجريمة الاختلاس، هل يدفع قيمة المال المسروق ام لا؟هذه الالتباسات تحتاج الى توضيح أكثر كونها مخالفة للنص الدستوري بان لا عقوبة الا بموجب نص والمتهم بريء حتى تثبت ادانته بمحاكمة عادلة، والغرامة عقوبة ايضا.ثامنا- المادة(5/سادساً) شملت جرائم الخطف بقانون العفو والتي لم ينشأ عنها موت المخطوف او مجهولية مصيره او احداث عاهة مستديمة فيه، ولم تنص على ارجاع المبلغ المالي الذي قد يكون تم دفعه ذوي المخطوف عند إعادة المخطوف( فقط هناك تنازل من المدعين بالحق الشخصي)؛ فكان من المفترض النص بالقانون بعدم شموله بالعفو الا بعد دفع الفدية بخمسة اضعافها، والاشكال الذي قد يطل بعنقه؛ ان المدعين بالحق الشخصي قد يدعون انهم دفعوا مبلغ مغالى فيه لأجل ابتزاز المشمول بالعفو او قد لا يكون هناك أصلا مبلغ مدفوع، والمخطوف عاد بدون ابتزاز مادي، تلك أمور كان من المفترض تلافيها في قانون العفو، انصاف للمخطوف أولا وبعدها الخاطف، وكان الأفضل وفق الاصطلاح القانوني استخدام عبارة(فقدان المخطوف) افضل من (مجهولية مصيره).تاسعا- ان نص المادة(10) من قانون العفو ورد بصياغة تحمل نهايات متعددة وتفتح الأبواب نحو الاجتهاد الخاطئ دون مراعات للأصول الجزائية،  ولا يمكن ان تكون من ضمن قانون العفو لأنها تتعارض مع فلسفة قانون العفو العام، وكان يفضل ان تكون هذه المادة بقانون خاص بعيدا عن قانون العفو العام، لكي نوفر ضمانات أكثر واقعية وأشد حزما، وتنويها، ان الذي سيكون مشمول بنصوص هذه المادة سيخضع لمحاكمة من هيئة قضائية جنائية وبالتالي عندما يحكم عليه بالبراءة، عندها لا يمكن ان نقول انه تم شموله بقانون العفو؛ لان العفو عن المجرمين والمسيئين والمخالفين، وهو تمت براءتها من خلال محاكمة عادلة.
عاشرا- ان قانون العفو العام قد أستثنى منه شموله مرتكبو الجرائم المنصوصة في المادة (5) وبالتالي أسقط حق هؤلاء من تنفيذية أحكام هذا القرار، فكيف يعود ليشملهم أو يدخلهم مرة أخرى في أحكام المادة(10) عن طريق تقديم طلب تدقيق، وكان على المشرع أن يشرع قانون أخر بعنوان تدقيق ملفات وإجراءات التقاضي والمحاكمة لمن لم يشمل بقانون العفو أنف الذكر، وبالتالي سيكون المشرع قد تجنب هذا العرض الهزيل في الصياغة التشريعية.
حادي عشر- الاستثناء الموجود في قانون العفو العام بالمادة(5/ثانيا)بعدم شمول جرائم الإرهاب لا تتناسب مع مبدأ القانون، لان العفو المطلوب تحقيقيه هو الذي ينصف الجميع دون ظلم، والذي يبني المجتمع ولا يهدّم أركانه، ومسالة إعادة التحقيق والمحاكمة الواردة في قانون العفو العام في المادة(10) منه وردت مشوشة ولا تنصف الأبرياء ممن تعرضوا للإكراه الذي لا يترك أي اثر على جسد المحكوم او المتهم وهي أصناف كثيرة تم ابتكارها وتطبيقها على معتقلين كثر، وهناك اكراه معنوي طال معتقلين عديدين بتهديدهم بجلب زوجاتهم او بناتهم او شقيقاتهم وصور عديدة من الاكراه تجسدت بالتهديد والترهيب والترغيب غير المشروع، والمحكوم او المتهم الذي تم تعذيبه فعلا، سوف لن تكون هناك اثار تعذيب على جسده لفوات مدة طويلة على تعرضه للتعذيب مما يعني ضياع أي اثر لكدمة او ضرب او سحجة وغيرها، حتى يسجلها تقرير لجنة الطبابة العدلية لكي تستند عليه اللجنة القضائية المشكلة بموجب هذا القانون وتوافق على إعادة محاكمته.
ثاني عشر- ان إعطاء اللجان القضائية في المادة(10/ثانيا) من القانون السلطة التقديرية؛ فيه إجحاف لحق طالب إعادة المحاكمة او التحقيق، وقد يجعل تطبيق المادة خاضع للمزاج السياسي والقضائي لوجود ضغوط سياسية هائلة قد تحرف تطبيق نص هذه المادة، وبالتالي سوف لا ينصف المحكوم او المتهم ممن يستحق العفو، وخاصة اذا ما غاب الإنصاف والعدل والدقة عن عمل هذه اللجان وانشاء الله لا يحدث، لذا نتمنى من اللجان القضائية ان لا تشترط استعمال التعذيب بانتزاع الاعتراف واعتبار الادعاء بان الاعتراف بالإكراه كافيا لإعادة المحاكمة.
ثالث عشر-ان جعل نفاذية القانون من تاريخ اقراره في مجلس النواب (م16) منه، حالة لم يألفها النظام القانوني العراقي وتعد أنتهاك حقيقي للدستور وخارج صلاحيات مجلس النواب دستوريا، وكان الأفضل لاستقرار التشريعات وبعيدا عن الفوضى التشريعية اعتباره نافذا من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية، بخاصة ان المادة (73) من الدستور النافذ قد حددت الكيفية في تنفيذ القوانين التي يشرعها مجلس النواب وكيفية المصادقة عليها في الفقرة ثالثا منها، حيث لا يعتبر القانون نافذا؛ إلا بعد أن يصادق عليه رئيس الجمهورية أو يعتبر كذلك بعد خمسة عشر يوما من تاريخ تسلمها، وبذلك لا يمكن اعتبار القرار نافذا خلافا للدستور.
رابع عشر– أن قانون العفو العام بشكليته وأفكاره ولد مقلوبا، حيث ورد فيه عدة جهات للطعن وفي عدة مواد، وهناك تكرار لحالات الطعن في أكثر من مادة؛ مما جعل عملية الطعن مربكة للمشمول وللجهات القضائية بطريقة سوف تؤدي الى صعوبة بالتطبيق؛ حيث وردت في المادة(7) جهة خاصة للطعن هي محكمة الاستئناف بصفتها التمييزية وفي المادة(8) وردت جهتين طعن وعاد وكرر في المادة(10/ثانيا) نفس الجهتين.
خامس عشر- ورد في الأسباب الموجبة ما نصه (بغية إتاحة الفرصة لمن جنح من العراقيين في العودة ..) والجنوح في الفهم القانوني؛ واحد من الأفعال التي يمكن إصلاحها وتعديلها، وهذا يشير الى ان القانون ليس عفوا عاما بقدر ما هو عفو خاص، وهناك جرائم خطيرة لا يمكن عدها جنوحا، بالتالي لا يمكن أن يكون إطلاق سراحهم بالعفو جاء منسجما مع الأليات المبسوطة في القانون ومطابقا للأسباب الموجبة.
ان قانون العفو بصيغته الحالية لا يتناسب مع فلسفة العفو ولا يحقق ما كانت تصبوا اليه عوائل المعتقلين والمحكومين، وتغافل عن استخدام تهمة الإرهاب في تصفية حسابات ضد خصوم سياسيين، وغض الطرف عن جرائم حقيقية، وبات مفهوم الإرهاب ومدى شموله بقانون العفو العام؛ ذا مفهوم مطاط يوسّعه بعض أصحاب النفوذ في النظام العراقي القائم حاليا ليشمل مخالفيهم في الرأي وخصومهم السياسيين، فيما يضيقونه حين يتعلّق الأمر بجرائم كبيرة.ويقول الكواكبي: (إنها قولة حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، فقد تذهب غدا بالأوتاد).