يجري الحديث عن قضية الدستور ،، وتدور التساؤلات حول قضيتين أساسيتين : هل تتم المحافظة على الدستور الحالي بعد تعديله ؟ ، وأي نوع من النظم السياسية – الدستورية يجب الأخذ به ؟ .
ما أعرضه أدناه هي جملة أفكار سريعة لاتزيد عن كونها دعوة للنقاش والحوار …
من الناحية المبدأية العامة ، فان الدستور الحالي لايصلح من حيث الاساس لبناء دولة مواطنة ؛ ان مراجعة سريعة لمحتوى مقدمة الدستور ومواد الدستور تكشف ان هذا الدستور بني على مبدأ ان الشعب هو مجموعة مكونات ، وهو توصيف تكرر في جميع فصوله ومواده ؛ هذا توصيف مغرض وهو تجاوز على مبدأ المواطنة المتساوية ، فضلاً عن ان معظم مواد الدستور التي تنظم بناء هياكل الدولة الاساسية ومنها القوات المسلحة والأمنية استندت الى مفهوم المكونات . الاغرب في قضية هذا الدستور ، من هذه الناحية ، انه تعامل مع الشعب باعتباره مجموعة مكونات ليست طبيعية او موروثة بالضرورة او ذات معطيات ثابتة وانما تتعلق بقضية الايمان الديني والمعتقدات وهي ظاهرة غير مسبوقة في القرن الحادي والعشرين . لاتوجد في العالم دولة ، باستثناء ثلاثة او اربعة دول ، تتألف من مكون اجتماعي موحد عقائدياً او اثنياً .. ولكن العالم باكمله يتبنى مبدأ المواطنة المتساوية كنقطة انطلاق لبناء نظامه السياسي – الدستوري .
من هنا فان قضية الاحتفاظ بالدستور الحالي بعد تعديله تصبح امراً مبتوتاً برفضه والاستعاضة عنه باعلان دستوري مؤقت لمرحلة امدها ستة اشهر قابلة للتمديد كلياً او جزئياً لمرة واحدة .
هنا ايضاً يبدأ السؤال : اي نوع من الانظمة الدستورية نحتاج ؟!
لاشك ان قضية الديمقراطية ستكون هي جوهر الدستور والنظام السياسي القادمين وروحهما، ومن المهم الانتباه الى قضية مهمة هنا . اننا وان استنكرنا قضية النص على اعتبار الشعب مجموعة مكونات ، الا ان ذلك لايعني تجاوز حقيقة ان الشعب هو بالفعل مؤلف من افراد ينتمون لعقائد دينية وأيديولوجية متنوعة كما يتوزعون على إثنيات متعددة وتنقسم البلاد فعلياً بموجب نظام فدرالي اصبح جزءاً راسخاً من التكوين السياسي وحتى النفسي للعراقيين ، وان اعتماد مبدأ حكم الشعب من خلال مفهوم الأغلبية والأقلية السياسيتين سيقود حتماً الى فتح باب واسع لطغيان طائفة او طغيان المركز ، ومن اجل تجنب ذلك وعدم تكرار خطأ التجربة السابقة التي انتهت بمفهوم المكون الطائفي الاكبر الى طغيان نخبة اختطفت تمثيل هذا المكون بقوة السلاح الذي وضع في يدها دون غيرها ، وفرضت هيمنة مسلحة على جميع مفاصل الدولة بما فيها الهيئات المشرفة على الانتخابات وأمنت نظاماً انتخابياً يعيد إنتاجها .
من المهم لبلد كالعراق بتاريخ حديث مشحون بالدماء والعنف السياسي ويعاني من مشكلات اجتماعية واقتصادية مركبة ومتراكمة ان تكون له حكومة قوية فاعلة بمختلف فروعها . شخصياً اعتقد ان تجربتنا التاريخية منذ عام ١٩٢٠وما افرزته من معطيات تقترب الى حد كبير من التجربة الامريكية بعد حرب الاستقلال . كان عدم الثقة هو سيد الموقف بين الولايات نفسها من جهة ، وبينها وبين المركز من جهة ثانية على خلفية التباين في الثروة والموارد فضلاً عن الدين وتنوع واختلاف حاد بين الطوائف المسيحية لم يخلو من عنف مسلح في كثير من الاحيان ، واستمر هذا الحال حوالى ثماني سنوات قبل وضع الدستور .
ان اهم مبدأ ارتكز اليه الدستور الامريكي هو الحيلولة دون نشوء الطغيان من قبل طائفة اوهيئة حكومية من خلال اعتماد اليات محددة أهمها : الفصل التام بين السلطات مع اعتماد مبداالرقابة المتبادلة ، والتمثيل العادل للسكان بما يضمن تمثيلاً منصفاً ومطمئناً للاغلبيات الدينية والاثنية ، ومثله وبذات القدر من الانصاف والطمأنة للاقليات وذلك من خلال نظام الغرفتين للهيئة التشريعية .
يمنح الدستور للرئيس سلطات تنفيذية واسعة ويعزز مكانته من خلال انتخابه من الشعب مباشرة ، وفِي ذات الوقت فانه مقيد بضوابط قوية تتمتع بها السلطة التشريعية من خلال حصر التشريع بيدها وخاصة الموازنة وتشريعات تمويل نشاطات الادارة التنفيذية ، اضافة الى الحق في عقد جلسات استماع لأركان الادارة قبل المصادقة على قرارات تعيينهم من قبل الرئيس ، وعقد جلسات مماثلة حول اداء الادارة ؛ وفِي الوقت الذي يتمتع فيه الرئيس بحق الفيتو ضد التشريعات فان المشرعين يتمتعون بسلطة محاكمة وإقالة الرئيس .
ومن اجل تأمين التوازن بين الأغلبيات والأقليات الاقليمية والدينية والاثنية فقد تم تشكيل الهيئة التشريعية من غرفتين : مجلس النواب ويتم انتخابه وفق التمثيل النسبي المتساوي للسكان ، ومجلس الشيوخ لتمثيل الولايات تمثيلاً متساوياً بغض النظر عن عدد سكانها ، وينبغي للقوانين ان تمر عبر المجلسين .
ان الدستور العراقي المنشود ينبغي ، في تقديري المتواضع ، ان ياخذ بالاعتبار هذه المبادئ لانها تمثل استجابة مناسبة لاهم التحديات الاجتماعية -السياسية ، وفِي ذات الوقت تؤمن شراكة سياسية وفق عقد اجتماعي أطرافه مواطنون يتمتعون بذات الحقوق ويتحملون ذات المسؤوليات بغض النظر عن المعتقد الديني او الانتماء العرقي او الجنس او اي معيار تمييزي اخر .
قد يجادل البعض بقضية الفوارق الحضارية والثقافية بين الشعبين ، وانا هنا لا ادعو لاستنساخ الدستور الامريكي او تجربة الشعب الامريكي، وانما أردت تأشير بعض الأسس الدستورية التي تمثل استجابة لتحديات متقاربة واجهها الامريكان ونواجها نحن اليوم .. كما ان الفوارق الحضارية والثقافية بين الامريكيين الذين صاغوا دستورهم عام ١٧٨٨ وعراقيوا عام ٢٠١٩ هو لصالح العراقيين بفارق كبير ،،