23 ديسمبر، 2024 8:55 ص

تأملات في جدارية محمود درويش

تأملات في جدارية محمود درويش

يمكن تصنيف الجدارية ضمن الشعر الملحمي. ومن زاوية أخرى يمكن اعتبارها سيرة ذاتية لكنها لا تسرد أحداث الحياة اليومية كما تفعل السيرة الذاتية التقليدية. إنها سيرة ذاتية من نوع مختلف، سيرة تسرد الحياة الفكرية للشاعر، ومسيرة صراع نفسي إنساني قديم مبعثه الحياة والموت والخلود.
إن الظروف التي ألهمت الشاعر ودفعته لتأليف جداريته تكمن في تعرضه لحالة فقدان الوعي التام التي هي أقرب ما يكون للموت، بعد حقنه بجرعة مخدرة لغرض إجراء عملية في القلب، فأصابه الدوار والغبش وبدأ يدخل تدريجيا في العدم ، وبعد فواقه من التخدير كان كمن مات ثم بعث من جديد.( تقولُ مُمَرِّضتي : أَنتَ أَحسَنُ حالاً/وتحقُنُني بالمُخَدِّر : كُنْ هادئاً/وجديراً بما سوف تحلُمُ/عما قليل …) ثم يصور المشهد التالي بعد زوال تأثير المخدر في عدة مواضع يبتدئها بقولها (تقول ممرضتي كنت تهذي …).
وقد كتبت القصيدة بلغة شعرية في إطار سردي، حيث وظف الشاعر العديد من تقنيات السرد، ومن ذلك: الحوارات الجانبية، الزمان والمكان، الشخوص، التنقل الحر بين الأزمنة الثلاثة، وكذلك عنوان القصيدة. إلى جانب العناصر الشعرية من إيقاع وعاطفة وخيال وتصوير. (وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَدات …./سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذَّكَر المُلائِمِ/في جُنُوح الشعر نحو النثر ….). ويطغى على لغة القصيدة الطابع الرمزي، حيث يلف تراكيبها الغموض والتعقيد، وتعتمد الإشارة، فهي بالمجمل (لغة غير مباشرة) ممزوجة بأساليب ومفاهيم الأساطير القديمة، والأفكار الفلسفية والمصطلحات الحديثة مثل (اللامكان واللازمان واللانهاية).
ولقد وظف الشاعر الثنائيات المنتشرة بكثافة في الجدارية للتعبير ليس عن الحياة والموت فحسب، بل ليعلن انه استطاع من خلال اللغة الجمع بين كل تلك المتناقضات ليتربع على عرش الانتصار الموهوم. الا أن الثنائية لا يمكن أن تكون انتصاراً،فمعالم الانتصار لا تقبل نقائضها: الأمل فقط دون يأس، الشجاعة دون خوف، الطمأنينة دون قلق. لكنه جمع شجاعة المواجهة مع الخوف الكبير، والأمل مع اليأس، والأدري مع اللاأدري، وبالتالي فما أعلنه من انتصارات هي من قبيل تسلية النفس، فعندما أعلن انتصاره على الموت (هزمتك يا موت الفنون جميها) يعود ليصرخ (وأَنا أُريدُ/ أُريد أَن أَحيا ، وأَن أَنساك/ …. أَن أَنسى علاقتنا الطويلة). وهو يؤكد في موضع آخر أن الثنائيات التي تضرب فكره مصدر ضعف وخوف ( إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تَمْتَحِنِّي ! / لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني).
إن روافد الجدارية متعددة فتجد عبارات مقتبسة (نصاً أو معنىً)” من : الأساطير القديمة (نام أَنكيدو ولم ينهض )، القرأن الكريم (ولا أَحَدَ عَشَرَ كوكباً/على معبدي)، الحديث النبوي (لي عَمَلٌ لآخرتي/كأني لن أَعيش غداً./ ولي عَمَلٌ ليومٍ حاضرٍ أَبداً)، التراث المسيحي (مثلما سار المسيحُ على البُحَيْرَةِ )، مظاهر الحياة المدنية (والعُشَّاقُ في الـ” ديسكو ” )، الشعر العربي (يا بنتُ : ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ ؟)، والحكم المشهورة. وقد القصيدة سارت في مسار متنامٍ، تخللته العديد من الارتدادات الزمانية الطبيعية في مثل هذه الموضوعات المطولة، و (الماورائية) حائرة الإجابة.
ويمكننا تلمس الهدف أو الغاية من القصيدة، وهو محاولة لاستكناه الأسرار الكونية الكبرى المتعلقة بالأزلية والأبدية، ما قبل الولادة وما بعد الموت، لكنها بالتأكيد لا تخرج بإجابة واضحة لتظل تدور في دائرة (اللاأدري). حيث أن الأسرار الكونية الكبرى هي (الغيب) الذي لا يعلم مفاتحه الا الله. (فغنِّي يا إلهتيَ الأثيرةَ ، ياعناةُ ،/قصيدتي الأُولى عن التكوين ثانيةً …/فقد يجدُ الرُّوَاةُ شهادةَ الميلاد/للصفصاف في حَجَرٍ خريفيّ/ وقد يجدُ الرعاةُ البئرَ في أَعماق أُغنية/ وقد تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ بقافيةٍ / فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ).
كما يمكننا الاستدلال على عقيدة الشاعر بالاستناد إلى الإشارات الواردة في العديد من المواضع في جداريته، وهي عقيدة وجودية، ملتبسة، يلفها القلق والحيرة، فهو سجين يحاول أن يوسع سجنه من خلال اللغة فهي وحدها التي تمنحه الحركة المطلقة بين الأزمنة، الا أنه كلما انطلق يصطدم بالواقع المخيب، لكنه يحاول عبثاً عدم الاستسلام لفكرة اليأس. (رأيت المعريَّ يطرد نُقَّادَهُ من قصيدتِهِ :/لستُ أَعمى لأُبْصِرَ ما تبصرونْ/فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي/ إلى عَدَمٍ …. أَو جُنُونْ). (يُغْريني الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ/حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ …).( لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ/تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها).