﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾: بعد انتهاء عزيز مصر من كلامه جاء حكم الله سبحانه المبيّن حكمته جلّت قدرته من هذه الأحداث وتسلسلها. وقد جاء هذا الحكم الإلهي بأسلوب مختلف عمّا كان عليه حال يوسف من قبل، فمحتوى هذا الحكم هو التمكين والتعليم والغلبة وهذه مرحلة جديدة في حياة يوسف عليه السلام وإذا تأملنا النص وجدنا في أوّل الآية أسلوب التشبيه بما هو معتاد في القرآن.
– ﴿وكذلك﴾: والكاف للتشبيه. والمشبّه به هو تمكين يوسف عليه السلام وتعلمه وهذا أسلوب عجيب يراد منه الاستدلال على الحكم الجديد المغاير والمناقض لحالته الأولى، بحكم واقع حاصل، وهو شراؤه واستقراره والاهتمام بأمره. يقول ابن عاشور: إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقوله: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾ في سورة البقرة، كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من مكنّا ليوسف تنويها بأنّ ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلّا أن يشبه بنفسه.
ومما يلفت النظر: الحالة الجديدة والحقبة المتحددة من حياة يوسف عليه السلام مجيء مادة التمكين: ﴿مكنا﴾، وما فيها من دلائل النصرة، إذ إن التمكين مأخوذ من المكان ومعنى ﴿مكنا﴾: جعلناه في المكان، وهذا يؤول إلى الاستقرار والبقاء مع قوة وقدرة، ولعلّ هذا تعويض لحالة التنقل والبيع الّتي مرّ بها يوسف عليه السلام.
وإن دخول اللام على يوسف في قوله: ﴿ليوسف﴾ دون تعدية الفعل إلى مفعوله بأن يقال: (مكنا يوسف)، يشير إلى التعليل، أي: لأجله، وإن كانت هناك دلالة أوضح من ذلك وأنسب بالسياق وهي التمكين، لما في اللام من دلالة الحيازة والملك ويؤيد هذا المعنى تحديد مكان التمكين، بقوله تعالى: ﴿في الأرض﴾، وفي سعة مدلول ﴿الأرض﴾ ما يشعر بعظم ذلك التمكين، فالأمر ليس متعلقاً بمدينة أو قرية أو مملكة بل بالأرض كلّها وحتى لو كان المراد بالأرض أرضاً خاصة إلّا أن ظلال الشمولية في لفظة: ﴿الأرض﴾ تبقى مشيرة إلى دلالة السعة وعظم التمكين وهو ما دلت عليه الأحداث بعد ذلك، ولا يمكن أن نتجاوز دلالة الظرفية في حرف الجر: (في) المشعرة بالعمق مما يزيد معنى التمكين رسوخاً.
– ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾: ما كان شراً في البداية أصبح تمكيناً في النهاية وسبحان من جعل الرق سبباً للتمكين. وقد ذُكر التمكين في قصّة يوسف عليه السلام مرتين، المرّة الأولى هنا وذلك بعد أن أراد إخوته أن يزيلوه عن ظاهر هذه الأرض فألقوه غيابة الجبّ. والمرّة الثانية بعد أن بدا لذوي المرأة أن يحولوا بينه وبين رحابة الحياة وسعة الأرض في غيابة السجن، فانظروا أرشدني الله وإياكم إلى التدبير الرباني والإحكام القرآني حيث كان التّعقيب على هاتين كلتيهما؛ أعني إخراج يوسف عليه السلام من غيبة الجبّ وإخراجه من غياهب السجن بهذه العبارة القرآنية: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾.
وقال الدّكتور ناصر العمر: والتمكين نوعان: تمكين خاص وتمكين عام، وليتحصّلا ليوسف عليه السلام مكنه الله تعالى في أوّل الأمر من قلب العزيز، فبعد أن حجب الشيطان في قلوب إخوته معاني الأخوّة، قذف الله في قلب عزيز مصر معاني الأبوة فتعاهده بالرعاية والإحسان وفي الآية إشارة إلى أن دخوله بيت العزيز وما لقيه فيه من إكرام كان مبدأ تمكينه في أرض مصر، فقد أصبح بذلك من أهل الشأن الّذين لهم كلمة. كيف لا وهو من أفراد بيت العزيز، ثمّ بعد السجن والتمحيص جاء أفراد بيت العزيز، ثمّ بعد السجن والتمحيص جاء التمكين العام بالولاية العامة عندما قال الملك: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 54 – 56]، فأصبح هو عزيز مصر الآمر الناهي.
مراجع