خمسة أيام أذرية تتوج حياتي
لا يسمحون لأيما مؤثر يقلق الرفاه العام.. كل يحرص على الوطن من موضعه.. راع ومسؤول عن رعيته يستقبل الضيوف ترحابا ويقدس السائح لكن ليس على حساب أسرار وطنهم
يحمل العراقي حسرته، وهناً على وهنٍ، حيثما ذهب مطوقاً بعقده الإجتماعية، التي تغلف مجسات ذوقه، عن تحسس الجمال؛ فيحرمه الضيم الذي ينوء به، عن التماهي مع المحيط السياحي الذي دفع آلاف الدولارات؛ كي يزوره.
وإذا عرف السبب بطل العجب؛ لذلك عملت على تفتيت تلك العقدة الشائعة في مجتمعنا، والتمتع بمرأى عاصمة أذربيجان، التي زرتها سائحا، على مدى خمسة من أجمل أيام عمري؛ إبتهاجا بقدرة شعب، على مقامة التآكل الديني والحزبي والاقتصادي والسياسي؛ ليعيش رفاها يفترضه؛ فيتحول حقيقة!
القصة بما أنزلت
إنفصلت عن الاتحاد السوفيتي، بإنحلاله؛ بعد أن قسرت على الإنضمام له، بقوة الحرب التي دامت سنوات، من عهد لينين الى عهد إستالين، حين غلبت الكثرة الشجاعة؛ فالاتحاد السوفيتي، بجيشه الأحمر الجرار، كاد يعجز عن إرغام الأذريين على الإنضمام له؛ لما تميزوا به، من شراسة في الدفاع عن حقهم الانساني بحرية لا ترتبط مع من لا يحبون.. وظلت أذربيجان النابض الحلزوني، الذي ينتأ كلما تضافرت عوامل الانفلات من مخالب السكينة!
بنية سوسيولوجية
البنية “السوسيولوجية – الاجتماعية” لدولة أذربيجان، تتألف من غالبية تركمانية، وأقلية روسية وكردية، وسواهما من مستوى ثالثٍ في التعداد “الأثني – العرقي” حتى باتت اللغة السائدة، هي التركمانية.
مسلون جعفرية، بنسبة 90% يبلغ تعدادهم الـ 10 ملايين، لكنهم الغالبية العظمى في إيران، إذ يبلغ تعدادهم، فيها 30 مليونا، يقطنون أذربيجان الشرقية من الجمهورية الإسلامية، وهم بذلك القومية الاولى، في إيران يليهم الكرد ثم الفرس.
مع أن جمهورية إيران تعد فارسية القومية، في صبغتها الرسمية، لكن تاريخها أذري، بدليل أن الدولة الصفوية، قامت في أذربيجان، على عناصر تركمانية، نسبت أمجادها للفرس، في أيران، ولم يقدم باحث تاريخي على المجازفة بفك إشتباك تلك الثوابت، التي باتت مسلمات على الرغم من عدم دقتها!
بركان ناشط
شراستهم أملت عليهم مواصلة الحرب، ضد أرمينيا، تنازعا على مدينة “ناغورني كرباخ” الحدودية، بركان قتال ينشط كلما خمد، تتجدد بإستمرار، الى حد إستشهاد العشرات، قبل أيام، من دون أن تلثم محبة الشعب للحياة، وإقبالهم على العيش تفاؤلا.
برغم “التسفيت” و”الاسلمة” على مر التاريخ، لم يعنوا بإستحضارات العرق والدين؛ إنما هم علمانيو السلوك والانتماء والوجود؛ لم يستجيبوا لتزمت الدين ولا جلافة القومية السوفيتية التي شجعت عليها الشيوعية بتحويل الفرد الى بلشفي يلغي ذاته فناءً بالماركسية، فقد ظلوا علمانيين ليبراليين، من دون تساؤل عن المعنى النظري لهذين المصطلحين وتلكما الفلسفتين اللتين عاشوهما سلوكا عمليا على أرض الواقع الميداني، الذي… ربما لو فلسفوه؛ لفقد بريق أريحية حياتهم المعاشة جمالا.. بالطول والعرض.. شعب خلوق أمين، مترفع عن الصغائر.. لو نسيت مليارات وعدت بعدما شئت أن تعود، لوجدتها في مكانها؛ لم تمس… بدليل إبنتي نسيت جوازها في بنك، وفيه ما فيه، عدنا بعد ثلاثة أيام؛ لنجده ولم يفقد سنتا واحدا!!!
إنهم غربيو التوجه؛ فثمة ميل دائم لمغادرة المعسكر الإشتركي الذي أقحموا عليه، إستلابا لإرادتهم الوثابة، التي ظلت تقلق الجبروت السوفيتي مقاومة، إنتهزت سانحة إنفراط العقد الشيوعي لتعود غربية السلوك.. رفيعة الاخلاق، شعبيا وسياسيا؛ فرئيس الجمهورية الحالية إلهام علييف، نجل الرئيس السابق حيدر علييف، يسكن قصرا على شارع عام، لا يقف على بابه حتى شرطي واحد للتبختر، مظهرا على الأقل!
أرأيت دولة يتطامن شعبها مع حكومته بهذا المستوى من التفاهم؟ الإجابة في حسهم الأمني المطلق، بدليل أمن المطار في باكو، إرجع سيدة عراقية، من أصول أرمينية، ولم يدعها تدخل أذربيجان؛ تحسبا للخلافات الناشبة حدوديا بين الدولتين.
لا يسمحون لأيما مؤثر، يقلق الدعة والرخاء والرفاه العام.. كل يحرص على الوطن من موضعه.. راع ومسؤول عن رعيته، بطيبة يستقبل الضيوف ترحابا، ويقدس السائح، لكن ليس على حساب أسرار وطنهم، وتلك قمة التحضر.
إستثمارات تأملية
مارست حقي الديني والجمالي.. بالسياحة، محفوفا بإحترام يشجع على التماهي مع هؤلاء الناس الطيبين؛ إذ زرت قبر السيدة “حكيمة” بنت الإمام الكاظم.. موسى بن جعفر.. عليهم السلام، حيث يتوسط ضريحها مساحة عامرة بهندسة خلابة، ذات خضرة تفوق خيال التصميم البشري المألوف.
فضلا عن السياحة، ثروتهم النفط بالدرجة الثانية، والإستثمارات ثالثا؛ ما يوفر لهم دخلا وطنيا كافيا لشعب تأملي، يدرك مواطئ أقدامه، ويبرمج إنفاقه، كما لو أن البلد عائلة صغيرة.. تتكاتف متكافلة، محققين معنى الأغنية الفطيرة التي رددناها في العراق، خلال “الحصار – العقوبات الدولية” والتي تنص على: “خبزتنا تكفينا” ولم نعمل بها.. شعب بلغ من الوعي والتفاهم مع حكومته، حدا جعل خبزتهم تكفيهم فعلا، ويعملون بهذا المبدأ.. لا يغالط الفعل قولا…
أكاديميات متنوعة
المدارس والجامعات.. أي منهجية المعرفة.. تحترم خصوصية الإنتماء، ولا تصادر قومية ما، لذا فالتربية والتعليم.. كلاهما يجريان باللغات الاذرية والانكليزية والروسية، ولكل حق تلقي العلم باللغة التي يشاؤها.
يمتازون بعلمانية ليبرالية كما أسلفت، لا تهين قناعات الآخرين، ولا تداهمهم بفرض معتقد أو دين أو… متحررون بإلتزام لا إنفلات فيه.. مطاعم ضخمة، ووسائل ترفيه بريئة وأكل لذيذ وعشرة ألذ لا تدع خرما ينفذ منه السأم الى النفس.. متحضرون.. مضيافون.. يجلون السائح.
مكتبات ومسارح وإهتمام فائق بالموسيقى، وتفاعل مع الصناعة الحديثة، خاصة السيارات الألمانية، من دون نبذ الموديلات القديمة.. لادا وسواها، مفلترة بما لا يلوث البيئة.
فورملا
شعب مقبل على الحياة، كما قلت، مجسدا سعادته بترقب “سباق السيارات العالمي – الفورملا” قريبا، مع إستحضارت تبدأ بالذات البشرية المبتهجة، تفتعل اسبابا للتفاؤل، تبعث الأمل في النفوس التي تنتظر إحتشاد العالم بينهم.. خيرا ومحبة ومنافع متبادلة، لا إستغلال فيها.. على مدى أيام الجمعة والسبت والاحد 17 و18 و19 المقبلة.
فلنتعلم من تلك الشعوب، كيف ننتشل حياتنا من البؤس الى الرفاه، خاصة وأننا أقدر على ذلك من سوانا؛ لما نمتاز به من ثراء ذي عصا سحرية، تعالج الأخطاء وتجعل الغربة وطناً.. فلنتعلم الحب من شعوب أقصت الكره.. إجتثته من حقول قلوبها البيضاء.. فلنبيض قلوبنا وعقولنا إقصاءً للسواد الذي تقمصناه جيلاً عن جيلٍ، حد التماهي مع الـ… ضيم.. عشقنا الضيم وحملناه رسالة نخطط بها حاضرنا فيتبدد المستقبل متلاشيا، ينفرط من بين الأصابع.